بقلم: هيثم شلبي
مع مراوحة العلاقات الجزائرية- الفرنسية مكانها بين صعود وهبوط، وتكثف اللقاءات بين المسؤولين الجزائريين ونظرائهم في روسيا والولايات المتحدة، وبعيدا عنهما الصين، تتراكم علامات الاستفهام حول مبررات هذه “الحركة الدبلوماسية النشطة”، لاسيما وأننا لا نستطيع إقناع طالب جزائري في المرحلة الابتدائية بالمبررات المعلنة، والمتعلقة بدعم القضية الفلسطينية، أو تصديق أنها تتم بمبادرة من هذه القوى قصد التشاور والتنسيق مع “القوة الضاربة” الإفريقية، دون أن نتجاهل أن تاريخ العلاقة بين حكام الجزائر وهذه القوى الدولية الأربع كانت علاقة “تبعية” تخلو من أدنى حد من الندية، بعد أن ارتضى جنرالات الجزائر دورا وظيفيا “قذرا” يتمثل في تعطيل اتحاد المغرب العربي، ومحاولة عزل المغرب عن عمقه الأفريقي عبر خلق نزاع وهمي حول وحدته الترابية، ناهيك عن دعمهم للحركات الانفصالية في غرب القارة، وتحديدا في منطقة الساحل، وخلق وتدريب وتوجيه “الحركات الجهادية” الإسلامية، بأوامر مباشرة من السادة الفرنسيين، تبريرا لتدخلهم الدائم في شؤون هذه الدول بحجة “محاربة الإرهاب” -الذي صنعوه-!!
وبنظرة سريعة على الأدوار الوظيفية الأبرز التي ذكرناها آنفا، تقفز للذهن ملاحظة واضحة لا تخطئها العين، مفادها أن جميع هذه الأدوار إما أنها انتهت أو قاربت على الانتهاء، بسبب التطورات المتلاحقة خلال السنوات الخمس الماضية، وأن الجنرالات لا بد لهم من اختراع “دور وظيفي” جديد يبقي حاجة هذه الدول العظمى لخدماتهم قائمة، أو على الأقل، إيجاد نقطة جذب لهذه القوى تبرر لها استمرار دعم بقاء هؤلاء الجنرالات على رقاب الجزائريين، وتأمين شبكة حماية دولية لهم من المسائلة القانونية عن جرائمهم بحق الجزائريين أولا، ومحيطهم العربي والأفريقي تاليا! فكيف نترجم هذا الأمر؟
إذا استثنينا الصين التي كانت بعيدة نسبيا عن توظيف جنرالات الجزائر في الأمور التي تخصها في القارة الأفريقية، لعدم حاجتها أساسا لخدماتهم، فإن اهتمامها بالأساس ينبع من اهتمامها بأخذ حصة الأسد من كعكة المشاريع التي يطرحها الجنرالات، ولم لا، بيع بعض الأسلحة والمعدات العسكرية التي قد تثير شهية الجنرالات وهم يسعون لاستبدال “الخردة السوفييتية” التي تملأ مستودعاتهم؛
نفس الأمر ينطبق على مبررات استبعاد الولايات المتحدة التي لم تكن الجزائر يوما مفيدة لهم، ومعداتهم العسكرية التي اشتراها الجنرالات تكاد تكون مجرد فتات من مبيعات منافسيهم، ومع ذلك، ترتعد فرائص الجنرالات من مجرد ذكر اسم أمريكا، ويحسبون ألف حساب لغضبها، لاسيما وأنها الحليف الأبرز “لعدوهم الأزلي” المغرب.
عليه، يبدو مبرر الولايات المتحدة للقاء مسؤولي الجزائر مقتصرا على نقاش دورهم المزعزع للاستقرار في منطقة الساحل والغرب الأفريقي، والهدام تجاه مناطق تريد الولايات المتحدة استقرارها بالخصوص، وعلى رأسها المغرب، وبدرجة أقل موريتانيا وليبيا، ناهيك عن تمهيد الأرضية للإنهاء النهائي للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية التي تعترف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية عليها. نقول أنه مع استثناء هذين البلدين، يبقى أمامنا العدوان اللدودان صاحبا التأثير الأكبر على جنرالات الجزائر: فرنسا وروسيا، مع غلبة واضحة للأولى. وهنا، لنناقش كل واحدة على حدة.
بالنسبة لروسيا، المصدر التقليدي لمعظم الترسانة العسكرية الجزائرية، فإن حاجة الجنرالات لها، في وجود شبه غياب لمنظومة الأسلحة الغربية عموما، ليست مرشحة للتغير على المدى المنظور، نظرا لحاجتها الدائمة لصيانة هذه الأسلحة، واستمرار إمدادها بالذخيرة، ووجود الآلاف من الجنود الجزائريين المدربين على الأسلحة الروسية منذ عقود.
ويحتاج جنرالات الجزائر إلى عدم إثارة غضب “الدب الروسي” إذا أرادوا الحصول على أحدث الأسلحة في ترسانته، تحديدا الطائرات المقاتلة ومنظومات الصواريخ بأنواعها، وهو ما تحسن روسيا مساومتهم عليه!
وفي إطار هذه المساومة، استغلت موسكو خطأ استراتيجيا فرنسيا، واستطاعوا بمساعدة جنرالات الجزائر إيصال ميليشياتهم (فاغنر) من ليبيا إلى مالي، ليقوموا بعدها بالانتشار عبر باقي دول الساحل، لتتحول هذه المليشيات إلى خنجر في خاصرة الجزائر، يحاول الجنرالات دون جدوى الحد من أثرها عليهم.
وعليه، فما تحتاجه موسكو من الجنرالات في الجزائر، الاستمرار في شراء الأسلحة -بالكميات والمواصفات التي يحددها الروس-، وتلوح لهم بالمقابل بورقة عضوية البريكس التي ستحتضن دوسيا قمتها المقبلة، ويدور الحديث عن وجود أزيد من أربعين طلب انضمام جديد لها، الجزائر أحدها، ويمكن أن تمر (في الزحام) بثمن يحدده الروس، إذا ما قررت دول البريكس ضم دفعة كبيرة من الدول تتجاوز عشرة.
ورغم ما سبق، لا ينفك السعي الروسي لتحسين العلاقات الاستراتيجية مع المغرب، لعدم قدرتهم على نسيان دور الجنرالات في الحد من تأثير سلاح الغاز الروسي على أوروبا، ولا موقفها “المحايد” من حربها في أوكرانيا، أو عملهم عموما في خدمة فرنسا ضد المصالح الروسية في أفريقيا.
أما فرنسا، السيدة المطلقة لجنرالات الجزائر، وصاحبة الحصة الأكبر من مشاريعهم، وموطن المليارات المهربة من سرقاتهم، والملجأ الأخير لمنبوذيهم، فعلاقتها بالجزائر توجد موضع إعادة نظر عميق يحدد مداها نتيجة لعبة شد الحبل المغربية- الفرنسية!! فلسان حال ماكرون وزمرته، وباقي الطبقة السياسية في فرنسا يقول بأن “صلاحية” هؤلاء الجنرالات انتهت أو هي على وشك الانتهاء، والحاجة إليهم في منطقة الساحل والغرب الأفريقي انتهت، بعد أن فشلت فرنسا نفسها في الحفاظ على موقعها وتأثيرها في المنطقة.
وكمصدر للغاز، وبعد خصم ما تأخذه إيطاليا واسبانيا وتركيا من غاز الجزائر لا يتبقى عمليا شيء يذكر للفرنسيين. كما أن فرنسا، لا تستطيع الفوز بأي صفقة في مواجهة الصين، لا كدولة أو كشركات، اللهم باستثناء صفقات التفويت المباشر التي يقل عددها مع مرور الوقت.
وبنفس الطريقة، لا يمكنها منافسة السلاح الروسي. فما الذي يتبقى من مبررات الحاجة الفرنسية لجنرالات الجزائر، سوى معرفتها بأن أي حكم بديل لحكم الجنرالات في الجزائر ستكون العلاقات مع فرنسا بجميع تشعباتها وتفاصيلها أول ضحاياه. ورقة تكاد تكون الوحيدة التي يمكن لجنرالات الجزائر أن يضعوها على طاولة حوارهم مع الفرنسيين، مكتوب عليها بوضوح: “نحن أو الطوفان”!!
بالمقابل، فإن حاجة جميع الدول الأربعة لتحسين علاقتها بالمغرب “جذريا”، لأنها في نظرهم تمثل “المستقبل” في مواجهة “الماضي” الذي شكلته الجزائر، تقود بالضرورة إلى الاعتراف بمغربية الصحراء، سواء مباشرة أو عبر بوابة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وهي تؤيد السعي لإقفال هذا الملف على هذه النتيجة المنطقية، دون مراعاة “لجنون” جنرالات الجزائر، أو لمعارضتهم؛ فقد كانوا دوما من يصدر الأوامر، وليس في يد الجنرالات ورقة تجعل الآية تنقلب!!
ويبقى مبرر هذه الدول في استمرار “مراعاة” جنرالات الجزائر -بعد انتهاء دورهم الوظيفي أو يكاد- هو محاولة الحصول على الجزء الأكبر من كعكة 85 مليار دولار الموجودة كاحتياطي عملة صعبة في البنك المركزي، وهو ما يعني بدوره لجنرالات الجزائر مراكمة عمولات “الصفقات الأخيرة” قبل “الهروب الجماعي الكبير”، كل إلى ما يعتقد أنه ملجأ آمن في إحدى هذه الدول!!