بقلم: طالع السعود الأطلسي
ما هذه الذُّبابة التي قرَصت السيد ستافان ديميستورا، المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى النزاع حول الصحراء المغربية، وكدّرت صفْوَ مهمَّته، ليتوجه إلى دولة جنوب إفريقيا، حاملا إليها مُقترحات تهم تطوُّرات النزاع… والتي قالت وزيرة خارجيتها بأنها ستدرسُها وتردُّ عليها لاحقا… أكيد هي “ذُبابة” لا تحبّ السيد دي ميستورا، أو أن مَن وجَّهَها إليه هو من لا يُحبُّه… يسعى فقط إلى جلب متاعبَ له لَنْ يَقْوَى على حمْلها…
السيّد المبعوث الشخصي للأمين العام انْقاد لما “زيَّنتْه” له الذُّبابة… وغادر إلى بريتوريا، دون أن يستشير المغرب، كما صرح بذلك السيد عمر هلال، السفير الممثل الدائم للمغرب في الأمم المتحدة… لا بَل لم يكترث للرَّفْض المغربي لتلك الزيارة والتي أفادَه بها السفير نفسه… هي إذن “سفرية” عن عمد وسبْق إصرار” … يتأبَّط فيها السيد دي ميستورا ملف النزاع حول الصحراء المغربية، وفيه قرارات مجلس الأمن الأمَمي المُتعاقبة، وآخرها قرار نهاية أكتوبر 2023، والتي تحدِّد الأطراف المعنية في أربعة (المغرب الجزائر موريتانيا والبوليزاريو)، ليحْمِله إلى جهة لا صفة لها في الموضوع… لا هي طرف معني، ولا هي قريبة من النزاع لا جُغرافيا ولا تاريخيا ولا سياسيا، هي في جنوب القارة الأفريقية والنزاع في شمالها… وهي تنْحشر في القضية، مُحاباة للقيادة الجزائرية، بمفردات أسقطتها قرارات مجلس الأمن من قاموس النّزاع، مفردات خطّأتها وأبْلتها وهجَرتها تطوُّرات التعاطي الدولي مع النزاع، كما عبّرت عنها قرارات مجلس الأمن، أقله منذ 2017، بالقلم الأمريكي والذي إزاءه، وحدَها روسيا عوّدتنا الامتناع، فقط، لزوم حساسياتها مع الإدارة الأمريكية، ولم تعْترض بالفيتو الصارم… معنى هذا أن ما قد يسمَعه الديبلوماسي الأممي في جنوب إفريقيا لن تكون له صلة بما هو مكلف ومبعوث لتنفيذه، أي قرارات مجلس الأمن… ماذا إذن، سيكون السيّد دي ميستورا قاله لمخاطبيه في جنوب إفريقيا؟ قرارات مجلس الأمن سمعوا بعضها حين كانت دولتُهم عضوا في مجلس الأمن، وأخذوا علما بالقرارات الأخيرة، وهي على النقيض من “مُوَّالهم”… إنه “سؤال للبطل”…
النّاطق الرسمي باسم الأمم المتحدة السيد دوجارك بارك مهمة السيد دي ميستورا، لأنّها، كما تصوّر تندرج في سياق ممارسة “ولايته”، والتي يرى أنها مُتصلة “بالديبلوماسية السرية”… الأمر يزداد غُموضا… هل الأمين العام للأمم المتحدة السيد غوتيريش، الذي يتحدث الناطق الرسمي باسْمه، على علم بمضمون مُحادثات جنوب إفريقيا ونوعيتها وحاجتها للسرّية؟ وما الحاجة أصلا للسرية في تحركات السيد دي ميستورا… وعن المغرب أساسا… لأن خارجية جنوب إفريقيا أخبرت حليفتها خارجية الجزائر وجماعة البوليساريو، بكُلّ ما وَصلها من ضيفها… موريتانيا لها وضع خاص، لن تطلُب ولن ترفُض أن تعرف… المغرب وحده المُستثنى، عمليا، من مُجريات وفَحوى زيارة المبعوث الأممي لجنوب إفريقيا… رغم أنّه المعني الأول بالمنازعة حول مغربية صحرائه… ورغم أنّه الوحيد الذي قدّم مُقترحا عمليا، واقعيا، سياسيا وسِلميا لحل تلك المُنازعة… من أجل “حَلْحَلَة” المسار الأمَمي نحوَ الحل المنشود أو المطلوب لهذه المنازعة الجزائرية لحق وطني مغربي مسنود أولا بالكفاح الشعبي المغاربي المشترك من أجل الاستقلال، قبل حقائق التاريخ وبراهين الجُغرافيا… وقد امتدّ مضمون مُقترحه إلى مُفردات الثقافة الأممية المتابِعة لتلك المُنازعة وإلى جوهر قراراتها التي يعبر عنها مجلس الأمن…
إذا كان السيد دي ميستورا يريد أن يبرر أجرَه، ويتحرَّك، كيفما اتُّفق… فقط أخطأ التحرك… هذا في اعتبار النّوايا الطيبة في هذه “الجلبة” … هناك أوّليات وضاغِطات من الأحداث تدفع النزاع حول الصحراء المغربية إلى آخر درجات الاهتمام، الآن، في مُجريات الوضع الإقليمي والدولي… هي قضية غير مُلْتَهِبَة ولا تسْتدعي الاسْتنفار والاسْتعجال… هي نزاع تؤطِّره الأمم المتحدة، بقراراتٍ لمجلس الأمن، وبما يشبه إجماع القوَى الكبرى… والجوهري في ذلك التأطير السياسي هو مضمون مقترح الحكم الذاتي المغربي، والمبني على اختيار الحل السياسي، الواقعي المُتوافق عليه والدائم… وقد أضحى انشغال القوى الدولية المؤثرة بالنزاع، فاترا، ولا تُدرجه ضمن أولوياتها ولا مُستعجلاتها، وتكاد كلُّها لا ترى تقاطعا للنزاع مع انشغالاتها الحالية…
العالم في حالة اهتزاز بتكاثُر مواقد الصِّدامات، الصِّراعات والتوتُّرات، تشارك فيها أو تخوضُها أو تنفعل بها القوَى الدولية النافذة… من فلسطين إلى أوكرانيا إلى اليمن إلى العراق إلى سوريا إلى تايْوان إلى منطقة الساحل والصحراء الإفريقية إلى السودان إلى كوريا الشمالية… بحيث تبدو “أعْصاب” العالم مَشدودة ومُهدّدة بصَعَقات التوترات، في ما يُشبه مَخاضات إعادة ترتيب قِوَى الوضع العالمي وتجديدِها… ونزاع الصحراء المغربية يبدو حالة استثنائية في مُجريات صراعات العالم… هو الوحيد الّذي تلتقي فيه القوى الدولية المتصارعة، وقُل المتناحرة، على أفُق حلٍّ تلمَّسته يُوَفّر على المنْطقة تصعيد التوتُّر فيها. توتُّرٌ لن يُضيف لتلك القوى أيَّ عائدٍ اسْتراتيجي… إذ المغرب موجود في المنطقة بفائض قيمة استراتيجي، مُفيدٌ للتّعاون الدّوْلي… وقد أوْجد المغرب لفُرقاء الصّراعات الدولية موقعَ توافُق بيْنها، استثنائي، ونادرٌ في أوضاع هذا العالم، عبْر مُقترحه بالحكم الذاتي، الذي منع احتقان النزاع واستدعاء أولئك الفُرقاء إلى التبضع الاستراتيجي منه…
لمصلحة مَن يتحرك السيد دي ميستورا… لا أحد بيْن اللاعبين الكبار في مصلحته أن يَحيد النزاع عن مساره الحالي، كما لا يتصور أن الديبلوماسي الأممي هبّ من تلقاء نفسه لهذه “النّطة” في الهواء… ولو أنه أبعد من “مبعوثياته” السابقة في العراق، أفغانستان وسوريا بسبب عدم اقتصاره على “معرفة النحو”، كان يحاول “الزيادة في معرفته”… هل هذه المرّة، أيضا، حاول أن “يجتهد” لتلْيين الرّفْض الجزائري للمفاوضات الرباعية، أم لاستكشاف وِجهات أخرى لمسار حل النزاع… هنا يزداد الغموض غموضا…
دولة جنوب إفريقيا، في موضوع نزاع الصحراء المغربية، لا يُتوقع منها أن يُتاح لها مدخل إليه إلا وحاوَلت تعقيدَه… والمحاولة لن تسفر عن نتيجة لأن صاحبتها لا حول لها ولا قوة… والسيد دي ميستورا مُكلف بمهمة تيْسير تحقُّق الحلّ السياسي المقرر في مجلس الأمن… مُنطلَقان مُتعارضان… وكان الأحرى بالسيد ستافان أن يبْقى داخل حدود منطلقه المرسوم له…
لعل السيد دي ميستورا تعِب ويبحث عن ذريعة لكي يذهب إلى ما هو أبعد من الغموض… نحو مسكنه… ربما هو من أغرى الذبابة لقرْصه، لكي يخرُج من مهامه… مقروصًا…