إذا كان توازن القوة منتجاً لنوع من السلام بين المتحاربين، فإن توازن الضعف لا ينتج عادة أي شكل من أشكال السلام وإنما قد يؤدي، على العكس من ذلك تماماً، إلى استمرار حالة الصراع بغاية قلب معادلات الواقع، التي تجعل أحد أطرافها يحقق من الإنجازات الميدانية والسياسية ما يرجح كفته، ويتيح له فرض سلام تعكس مفرداته تصوراته لواقع ما بعد الصراع المفتوح بين القوى المتصارعة، مع ما يرافق ذلك من إجحاف في حق الطرف الأكثر ضعفاً في المعادلة.
وهو سلام مفروض، في الواقع، وهو بالتالي، كذلك سلام موقت لن يتم التردد في نقض بنوده متى أتيح للطرف الضعيف تجاوز حالة الضعف التي فرضت عليه القبول بالسلام المفروض.
ويدل كل استقراء لتاريخ الصراعات والنزاعات المسلحة في الماضي والحاضر على أن هذين الشكلين من السلام هما اللذان تبادلا المواقع عند انتهاء كل جولة من جولات الصراع والحرب قبل تغير الظروف التي صنعتها، بما يسمح بتدشين مرحلة أخرى تهدف إلى إعادة النظر في نوع السلام الذي كان سائداً خلال الفترة السابقة.
وهذا يعني أن اعتماد موازين القوة، بين الأطراف المتصارعة، في أي مجال من المجالات، يؤدي إلى التوصل إلى حلول موقتة، لأن التغير المستمر في موازين القوة هو العامل الوحيد الذي يمكن اعتباره دائماً، في أي معادلة من معادلات الصراعات والحروب. وعلى رغم عدم إمكانية تجاهل عامل موازين القوة في فهم واقع الصراعات عند اندلاعها كما عند الحلول التي تنتهي إليها، فإن التفكير العميق في هذا الواقع والعمل على جعل الحلول التي يتم التوصل إليها متوازنة، ما أمكن، وأطول زمنياً، بالتبعية، جعل عدداً من المفكرين السياسيين يعتبرون أن من الضروري تجاوز مفهوم موازين القوة ما أمكن وترجيح كفة توازن المصالح وتبادلها على أوسع نطاق متاح، باعتباره المفهوم الأشمل القادر على استيعاب مختلف حالات موازين القوة في حال توازنها واختلالها معاً، لأنه يقوم على تحديد المصالح الحيوية لأطراف النزاع، والعمل على توازنها.
وعندما يتم التوافق حول بنود اتفاقية تنهي النزاع، فإنها مرشحة للاستمرار أكثر من غيرها لأنه يوجد في توازن المصالح بعد أساسي من أبعاد الحلول العادلة للصراعات، وهو ضمانة أساسية لاستمرار الحلول القائمة على مرتكزات هذه العدالة بالذات.
إن الغاية من الحلول السياسية للنزاعات بين القوى والأمم والشعوب هي تمكينها جميعها من فترات أمن واستقرار طويلة المدى، تركز فيها جهودها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية خارج دوائر التهديد باندلاع نزاعات مسلحة تأتي على ما راكمته من مكتسبات في مختلف مناحي الحياة، في زمن قياسي، الأمر الذي يحتم عليها إعادة الكرة، من جديد، وبذل قصارى الجهود في سبيل إعادة الإعمار، وإعادة بناء ما تم تخريبه، والتي قد تستغرق سنوات عديدة من الجهد والمعاناة. وإذا لم يكن السلام الذي انتهت إليه الحرب متوازناً وعادلاً، فإن هذا يحكم على تلك القوى بحمل الصخرة الكبرى والتسلق بها إلى قمة الجبل بصورة لا متناهية وفي شكل شبه عبثي كما كانت عليه أسطورة سيزيف الشهيرة. أي أن السلام الذي يتم التوصل إليه بناء على مقولة موازين القوة، بصورة حصرية، هو بمثابة عبء ثقيل على مختلف أطرافه. فهو عبء على القوى المتنفذة والتي جاء الحل السياسي لفائدتها، من حيث يكون مطروحاً عليها توقع انهيار السلام في أي لحظة يجتمع فيها للقوى التي لم يكن في مصلحتها ما يشكل القدرة على المبادرة والإطاحة بقواعد اللعبة التي تم الاستناد إليها عند بلورة الاتفاق المجحف في حقها. وهو عبء ثقيل وربما أشد ثقلاً على القوى التي كان الحل المفروض في غير مصلحتها، وعادة ما يرتبط الإجحاف والغبن اللذان تشعر بهما بما يوازي النيل من كرامتها الوطنية. وهذا الشعور يؤدي إلى حالة من الاستعداد النفسي العميق إلى الأخذ بالثأر من القوى التي فرضت حلها ضمن موازين قوة مختلة لمصلحتها متى استأنست من نفسها القدرة على المبادرة بالهجوم.
وعلى هذا الأساس يتسع، شيئاً فشيئاً، الاعتقاد في أوساط المفكرين السياسيين بأن الحلول الدائمة للنزاعات السياسية والعسكرية لا بد لها من أساس متين من توازن المصالح بين مختلف أطرافها.
ولعل هذا ما يتم التعبير عنه، عادة باستحالة الحل الأمني العسكري وضرورة البحث عن الحلول السياسية المتوازنة والتي تنال قبول تلك الأطراف مجتمعة، لأنها ترى فيها جزءاً هاماً من مصالحها مأخوذة بعين الاعتبار.
هذا على الصعيد الفكري. أما من حيث ممارسة أطراف النزاعات الكبرى، فهي تقوم على أساس، ضمني أو صريح، من بحث كل طرف على ترجيح كفته في الصراع من دون إيلاء أقل اهتمام لمصالح الأطراف الضعيفة، وهذا هو ما يفسر طول أمد الصراعات والنزاعات ذات الأبعاد الاستراتيجية الكبرى.
* كاتب مغربي/”الحياة”