أعلنت رئاسة الجمهورية التونسية، أخيراً، حالة الطوارئ في البلاد، وشرعت في بناء جدار عازل بيننا وبين ليبيا، وجاءت هذه القرارات بعد أيام من العملية الإرهابية الشنيعة التي جدت بسوسة، وذهب ضحيتها نحو 40 سائحاً، أغلبهم من حاملي الجنسية البريطانية، على يد شاب لم تعرف عنه من قبل ميول تكفيرية، حسب شهود رافقوه في مشوار عمره القصير. الروايات عديدة، وهي تقدم لنا مساراً وملمحاً غير مألوف عن الشباب السلفي التكفيري الذي اعتنق الإرهاب عقيدة. شاب متعلم، تخرج من الجامعة التونسية، وهي جامعة متفتحة ومختلطة، تحتضن طلبة قدموا إليها من معاهد ثانوية، درستهم الفلسفة والعلوم الإنسانية والأدب في مراحل التعليم الثانوي، في استثناء نادر في عالمنا العربي. ولكن، حدث في مجرى حياة الفتى ما انزاح به، في سرعة البرق، نحو اعتناق الفكر السلفي في نسخته الأكثر دموية.
كل المنهجيات التي تزعم قدرتها على تفسير ظاهرة الإرهاب، تعترف بتواضع كثير بـ “عجزها المؤقت” عن فهم مثل هذه المسارات الفردية الغريبة والمحيرة. وعلى الرغم من ذلك، سيكابر بعض الخبراء، ليقدم لنا إجابات نهائية، تعيد كثيراً من مفردات الحس المشترك. علينا أن نعترف، كجماعة علمية، أن هناك إخفاقاً نظرياً، وأن “الهوليزم” المنهجي أصبح، أكثر من أي وقت مضى، غير قادر على فهم ما يجري، فضلاً عن تقديم وصفات النجاة لصناع القرار.
الإرهاب إنتاج مجتمعي، مثل الانتحار، والأفراد لا ينتحرون، إنما المجتمع هو الذي يقتلهم بأيديهم. هذه خلاصة المدرسة الوضعية، وهي توجز ما انتهى إليه عالم الاجتماع الفرنسي، إميل دوركهايم، وأتباعه، ويمكن، قياساً على ذلك، أن نقول، بشيء من المجازفة النظرية الحذرة، وفي تدارك للحتمية الوضعية وتنسيبها، إن المجتمع هو الذي يدفع أعضاءه إلى الإرهاب، وهم لا يختارون ذلك إلا تحت إكراهات ساحقة، لكنها لا تصادر، مع ذلك في النهاية، خياراتهم الفردية.
تقيد جل الدراسات أن للإرهابيين مسارات فردية مختلفة وغير متجانسة، ما عقد على الخبراء المختصين، وصناع القرار ومنفذي السياسات العمومية، تقديم وصفة ناجحة، وذلك للأسباب التي استعرضناها، حيث يكون الإرهاب، أحياناً، ناجماً عن رغبات ونزوات فردية خالصة، مرتبطة بالتجارب والخبرات والخيبات التي تمليها أحداث مفصلية في التاريخ الشخصي للأفراد، فيشكل جروحاً وندوباً قد تكون لاذت في السراديب العميقة من اللاوعي الشخصي.
هل يعي صناع القرار وراسمو السياسات العمومية في تونس والدول العربية تعقد ظاهرة الإرهاب واستفحال المآزق النظرية التي تربك الباحثين، فضلا عن العوائق والإمكانات التي تعوق البحث العلمي، على غرار غياب للمعلومة ونقص مخابر البحث والإمكانات… إلخ؟ لا أتحدث، هنا، عن اولئك الخبراء المزعومين، المطمئنين الواثقين من بضاعتهم، حتى وهم لم يكتبوا حرفاً حول الموضوع.
لا أعتقد أن الحكومة التونسية الحالية تعي كل هذه الأبعاد العلمية، وحتى العملية، المتعلقة بسياسات مكافحة الإرهاب، بل هي، على خلاف ذلك كله، تستسلم، أحياناً عديدة، إلى قاعدة رد الفعل، وتقدم حلولاً مؤقتة، لترضية الرأي العام أو لامتصاص غضب أطراف معينة، أو خضوعاً لإملاءات داخلية وخارجية، مسلطة من لوبيات مصالح متنافرة. بدليل قرارات رئيس الحكومة، أخيراً، وكلها مستلهمة من حزمة إجراءات جرّبت مع النظام سابقاً. يقول بعضهم في مسار تبريرها إنها كانت مجدية وهذا سر تسويقها حاليا. لكن، هل منعت من انتشار تلك الثقافة التحتية التي خرجت لنا جيلا بهذه التوجهات. تنتشر حاليا أشكال عديدة من التحرش، الضمنية أحياناً، والصريحة أحيانا أخرى، بحقوق الإنسان وبالكرامة البشرية، وقد صدحت إحدى ممثلات الشعب (عن نداء تونس) في مجلس النواب أنه آن الأوان للعودة إلى “الكف”، أي الصفع والاعتقالات الجماعية، في إشارة إلى الحلول الأمنية العاجلة. وتكتب صحيفة حكومية ناطقة بالفرنسية، في صفحتها الأولى وبالبنط العريض، أن المنظمات غير الحكومية هي التي تتحمل وزر ما يحدث في بلادنا حاليا.
حينما نقتنع أن الإرهاب لا يقتحم شبابنا، بل هم من يذهبون إليه “طمعا” وقرباناً، آنذاك سنعلم أن الجدار الذي بدأنا في بنائه بيننا وبين الشقيقة ليبيا ليس أولوية، فضلا عن عدم مردوديته الأمنية، أو الأخلاقية، بجميع المقاييس.
مشروع حياة يمنح الشباب القدرة على الحلم والعمل الكريم، والثقافة الوطنية العقلانية المنغرسة في تربتها الحضرية، من دون انسلاخ أو انبتات، هو الجدار الذي علينا أن نبنيه معاً، حجرة حجرة، لتحصين شبابنا. منحت البروتستانتية في إصلاحها الديني للرضى الرباني جملة من المؤشرات الدنيوية، منها العمل والسعادة، لقد تم آنذاك جلب الأفراد إلى دنياهم من سماء لا تتسع لهم مطلقاً، فضلا عن أنها ليست عالمهم. من هنا نبدأ.
*وزير سابق/”العربي الجديد”