سياسة واشنطن: لوم الفلسطينيين وتبرئة الإسرائيليين

ثقافة اللوم التي تتبناها الدول أداة من أدوات التملص من المسؤولية تبدو آتية على كل من القيادة الفلسطينية والمعارضة السورية. رعاية وزير الخارجية الأميركي جون كيري للمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية الهادفة الى تحقيق حل الدولتين تنبثق حقاً من صدق نوايا كيري وعزمه بذل قصارى جهده لإنجاز تسوية سياسية إذا نجح فيها ستكون تاريخية بالتأكيد. لكن كيري يقود عربة الى حائط مسدود – وقد تكون العربة مفخخة. الرئيس الفلسطيني محمود عباس يحاول كل ما في وسعه تجنب الوقوع في فخ اللوم على افشال الجهود والمساعي الأميركية. لكن أبو مازن مجهّز للّوم مهما صبر لأن القاء اللوم عليه سياسة مبرمجة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي ينصب الحائط المسدود لعربة كيري. إذاً، ليس كافياً للقيادة الفلسطينية ان تمد يدها الى جيبها بين الحين والآخر كما فعلت مؤخراً عندما طلبت من الأمم المتحدة وسويسرا الانضمام الى معاهدات دولية توطّد مسيرتها نحو قيام الدولة الفلسطينية. عليها رسم استراتيجية استباقية للعبة اللوم التي تتربّص بها، واستراتيجية لما بعد الإخفاق واصطدام عربة كيري بالحائط المسدود. كذلك الأمر في ما يخص المعارضة السورية البريئة من اقتناصها على أيدي التطرف السنّي السلفي والإرهاب على اشكال «القاعدة» و «جبهة النصرة» و «داعش» وأمثالها. هذه المعارضة مهيأة للانسياق الى فخ اللّوم ليس فقط على أيدي بشار الأسد وحليفه الإيراني وإنما أيضاً بقرار روسيا وحليفها الصيني في المسألة السورية. وعليه، لا يكفي للمعارضة السورية أن تحتج على استراتيجية اجراء الانتخابات الرئاسية السورية لإبقاء بشار الأسد رئيساً بإيحائها انها ستنسحب من العملية السياسية الانتقالية التي تراها محادثات جنيف-2 الدولية. يجب عليها رسم استراتيجية استباقية للعبة اللّوم التي تتربص بها للانسحاب من العملية السياسية، كما يجب عليها التفكير في خيارات قلب موازين اللوم وتحميل كافة اللاعبين مسؤولية إفشال الحل السياسي وإحياء الحل العسكري للمسألة السورية.
في الموضوع الفلسطيني – الإسرائيلي، لا يمكن نكران صدق وعزم جون كيري على تحقيق اختراق يخدم أولاً هدف حل الدولتين الذي يلاقي شبه اجماع دولي، وثانياً، يخدم الرئيس باراك أوباما الذي دخل البيت الأبيض متأهباً لهذا الإنجاز من دون ان يستوعب صعوبة تحقيقه.
القاعدة الشعبية الإسرائيلية قد تكون راغبة حقاً بحل الدولتين. هناك بالتأكيد جزء من القاعدة الشعبية يدرك تماماً ان حل الدولتين يقع في المصلحة الإسرائيلية إذا كان للإسرائيليين الإقلاع عن عقلية الحصار. انما هناك بالتأكيد جزء من القاعدة الشعبية الإسرائيلية لا يريد حل الدولتين اطلاقاً وهو يدعم مراوغة أية حكومة اسرائيلية للتحايل عليه. هذا الجزء يدعم التطرف الرسمي الإسرائيلي وهو منه وغايته الحقيقية هي حل الدولة الواحدة، أي الدولة اليهودية بمعنى اسرائيل دولة لليهود.
هؤلاء لا يريدون حل الدولتين مهما وافقوا على الاستمرار في «العملية» – عملية المفاوضات أو عملية السلام، هدفهم احباط الهدف وهم متأهبون لمختلف أنواع القاء اللوم على الجانب الفلسطيني وحشد الرأي العام الأميركي لدعمهم في عملية اللوم – هؤلاء يتهيأون لما بعد افشال العلمية السياسية وما بعد الصاق اللوم وما بعد الإجراءات الضرورية لإقامة دولة يهودية خالية من فلسطينيي اسرائيل بإبعاد قسري، أو باعتبارهم مواطنين من درجة ثانية في الدولة اليهودية.
الفلسطينيون الذين لا يؤمنون بحل الدولتين من نوعين: النوع الطوباوي الذي يؤمن بحل الدولة الواحدة حيث جميع المواطنين على قدم المساواة وحيث لكل مواطن صوت متساوٍ بغض النظر عن هويته أو دينه. هذا يلغي بالتأكيد فكرة الدولة اليهودية. النوع الآخر يؤمن بمواجهة التطرف بالتطرف ويعتقد ان لا مناص من حروب الإلغاء ويعتقد ان اسرائيل في طريقها الى الزوال.
الولايات المتحدة هي اليوم الراعي الوحيد لحل الدولتين عملياً على رغم الإجماع الدولي على هذا الحل. الرأي العام الأميركي يكاد لا يعي ان هناك رعاية أميركية أو ان النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني ما زال قائماً. فالرأي العام الأميركي يريد أن ينأى بنفسه عن ذلك الصراع.
فجأة، عاد الاهتمام الأميركي بالمسألة الإسرائيلية – الفلسطينية بسبب الجاسوس الأميركي جوناثان بولارد الذي أعطى اسرائيل معلومات استحق السجن بسببها لما انطوت عليه من خطورة. فجأة، أتى جون كيري بفكرة ارضاء الحكومة الإسرائيلية وحضها على التعاون في المفاوضات التي يرعاها عبر اطلاق سراح بولارد، فقامت القيامة عليه من كل القطاعات الأميركية – تلك ذات الولاء الأعمى لإسرائيل التي اعتبرت الفكرة ضغطاً على اسرائيل لتقديم ما ليس في مصلحتها، وتلك التي وجدت في العرض اهانة للمصلحة الأميركية العليا.
فكرة بائسة بالتأكيد، انما ما تكشفه هو مدى التعنت الإسرائيلي الذي يواجهه كيري لدرجة خروجه بفكرة الإفراج عن بولارد. وضعه صعب وسيكون أصعب ذلك ان الحكومة الإسرائيلية التي يقودها نتانياهو ستطالب بأكثر وأكثر في كل محطة من محطات الاستمرار في العملية السياسية. ستطالب الولايات المتحدة في إطار «خذ وطالب». وستطالب القيادة الفلسطينية في إطار تنفيذ استراتيجية إلقاء اللوم عليها كي ترضخ وإلاّ.
القيادة الفلسطينية تدرك تماماً ان الانخراط الأميركي في رعاية عملية التفاوض اتى لاحتواء أية اجراءات في وسعها اتخاذها بعدما أصبحت دولة عضواً في منظمة اليونيسكو وفي أعقاب حصولها على موقع دولة غير عضو في الأمم المتحدة. تلك الإجراءات لو تم تفعيلها، تضع الاحتلال في موقع المحاسبة قضائياً.
انضمام دولة فلسطين الى المحكمة الجنائية الدولية، على سبيل المثال، يعطيها أدوات المحاسبة على جرائم الاحتلال من جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. الانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية يعطي دولة فلسطين وسائل الادعاء ضد الأفراد الإسرائيليين القائمين على الاحتلال وإفرازاته.
محمود عباس اختار عدم تفعيل ذلك الخيار رهاناً منه على الرعاية الأميركية للحل السياسي لتحقيق حل الدولتين. جمّد كل الخيارات المتاحة لديه عملياً وقانونياً وقرر ان يعطي جون كيري كل الدعم لإنجاح جهوده.
حالما بدأ التقاعس الإسرائيلي في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه كإجراءات مرحلية انتقالية، قرر طلب الانضمام الى معاهدات ووثائق دولية توطّد موقع فلسطين كدولة قانونياً في المحافل الدولية، لذلك طلب الانضمام هذا الأسبوع الى 15 معاهدة ووثيقة لدى الأمم المتحدة ولدى سويسرا لتوطيد دعائم الدولة الفلسطينية، منها اتفاقيات جنيف لعام 1949 لتوفير الحماية للمدنيين تحت الاحتلال. معنى ذلك، وفق مندوب فلسطين لدى الأمم المتحدة السفير رياض منصور «اننا أصبحنا متساوين مع كافة الدول وبوسعنا الطلب من سويسرا – الجهة المودعة للاتفاقية – ان تعقد اجتماعاً طارئاً لضمان احترام بنود الاتفاقية… وهذه بوابة أخرى جديدة للدفاع عن شعبنا تحت الاحتلال».
بكلام آخر، الهدف من توقيع المعاهدات هو ممارسة الحق كدولة في الوقت الذي ترفض اسرائيل ان تكون فلسطين دولة اثناء المفاوضات. وكما يشرح منصور «نحن نقول بهذا اننا دولة تحت الاحتلال، بما يترتب على ذلك قانونياً وسياسياً».
محمود عباس تجنب عمداً المضي الى درجة طلب الانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية لأن مثل هذا الطلب يعني عملياً المواجهة مع الولايات المتحدة والتصدي جدياً لإسرائيل. على رغم ذلك، اعتبرت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، سامانثا باور، ان طلب الانضمام الى المواثيق والمعاهدات الأخرى اجراء «انفرادي» يتنافى مع روح الاتفاق على عدم اتخاذ اجراءات انفرادية. هذا في الوقت الذي استمرت فيه في بناء المستوطنات التي تعتبرها الأسرة الدولية غير قانونية وفي الوقت الذي لم تنفذ التزاماتها في شأن اطلاق الأسرى.
موقف باور يعطي فكرة عن ثقافة اللوم التي سيتم احياؤها ضد الفلسطينيين بالتلازم مع ثقافة الإعفاء التلقائية لما يقوم به الإسرائيليون.
لذلك، من الضروري أن يتهيأ الفلسطينيون لمحطة آتية في ثقافة اللوم الأميركية والإسرائيلية. عليهم ان يجهزوا أنفسهم على الصعيد القانوني وعلى صعيد تفعيل الأدوات المتاحة لديهم، وليس على صعيد الرأي العام الأميركي. فذلك الصعيد محسوم مسبقاً ضدهم لأن النفوذ الإسرائيلي مع الإعلام الأميركي لن تمكن مواجهته فلسطينياً. فحملة اللوم جاهزة وعملية سحب الصدقية عن «الشريك» في انتظار التنفيذ.
سورياً، على المعارضة السورية ان تستوعب ان «أصدقاء سورية» الغربيين ليسوا في وارد التدخل في الانتخابات الرئاسية السورية لإيقافها حتى وان كان اجراؤها عملية اغتيال صارخة للعملية السياسية الانتقالية.
في البدء، إن روسيا ومعها الصين بدأتا التشكيك في طروحات الممثل الأممي والعربي الأخضر الإبراهيمي التي اعتبرت ان الانتخابات تقوّض بل وتدمّر العملية السياسية في جنيف – 2. بدأت الحملة الروسية والصينية على الأخضر الإبراهيمي لأنه وضع أمام مجلس الأمن هذا الواقع مشيراً الى ان الانتخابات الرئاسية تعني عملياً وواقعياً الغاء هدف انشاء هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات تنفيذية. موقفهما هو انه يجب الاستمرار في العملية السياسية سوياً مع اجراء الانتخابات الرئاسية، ولا تناقض بينهما.
رد الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأعضاء في مجلس الأمن هو ان «ليس في اليد حيلة» لإيقاف اجراء الانتخابات، وكل ما في الوسع هو اصدار مواقف عامة تعتبرها غير شرعية وغير قانونية.
من ناحية، يمكن القول ان الموقف الغربي ينطوي على التقاعس وعدم الاستعداد لخوض معركة «فيتو» أخرى مع روسيا والصين سيما أن الأولوية اليوم غربياً هي لأوكرانيا. وكما قال ديبلوماسي أميركي «علينا حساب الفيتو بعددها وبموقعها».
من ناحية أخرى، إن إقدام سورية على اجراء انتخابات رئاسية في الظروف الراهنة، وما سيترتب على تلك الانتخابات من رفض لشرعيتها سيؤدي عملياً الى سحب الشرعية عن بشار الأسد رئيساً لولاية أخرى نتيجة الانتخابات الرئاسية الآتية. بكلام آخر، ان اجراء تلك الانتخابات سيؤدي الى قيام حكومة غير معترف بها دولياً، عكس الحكومة الحالية التي سبق وتم الاعتراف بها.
القاسم المشترك بين العملية السياسية لسورية المعروفة بعملية جنيف وبين عملية السلام للشرق الأوسط هو الانكماش الذي يصيب الدول الراعية لأي من العمليتين.
الولايات المتحدة وروسيا هما الراعيتان الاساسيتان لمفاوضات جنيف، وكلاهما في تراجع عن انجاحها لأسباب مختلفة، فاليوم، واقعياً، عاد الحل العسكري الى الواجهة. اجراء الانتخابات الرئاسية أدى الى انحسار الحل السياسي الذي تم حشد الاجماع عليه، وأدى الى عودة الحل العسكري الى الواجهة.
الولايات المتحدة هي الراعية الوحيدة لعملية السلام الفلسطيني – الإسرائيلي. هذه العملية وصلت الى آخر رمق من انفاسها بعدما تم مضغها لسنوات وسنوات. في الوقت الحالي، لا مؤشر على عودة المواجهة العسكرية أو المواجهة المسلحة بين الطرفين. انما هذا اليوم، وغداً يوم آخر. وفي هذه الأثناء قد تبدأ المعركة القانونية ومعركة الشرعية. انما في نهاية المطاف، هذا شعب تحت الاحتلال والتعايش مع الاحتلال ليس أمراً طبيعياً.
شراء الوقت أداة من أدوات السياسة كما إلقاء اللوم كوسيلة لتجنب التنازلات الضرورية للحلول السياسية. سورياً، كما فلسطينياً، باتت «العملية» وسيلة للإطالة في التوصل الى حلول وباتت صفات «العملية» الهروب الى الأمام من المسؤولية.
“الحياة” اللندنية

اقرأ أيضا

المفتي العام للقدس يشيد بالدعم الذي يقدمه المغرب بقيادة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني

أشاد المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، خطيب المسجد الأقصى المبارك، الشيخ محمد حسين، اليوم الأحد …

المنتدى المغربي الموريتاني يرسم مستقبل تطور العلاقات بين البلدين

أشاد المنتدى المغربي الموريتاني، باللقاء التاريخي بين الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ …

مكسيكو.. مشاركة مغربية في مؤتمر دولي حول حماية البيئة

شارك الأمين العام لحزب الخضر المغربي ورئيس أحزاب الخضر الأفارقة، محمد فارس، مؤخرا بمكسيكو، في مؤتمر دولي حول حماية البيئة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *