بقلم: د. السيد ولد أباه*
رغم الفوارق الجلية بين الوضع العربي الراهن وأوضاع أوروبا في بدايات العصور الحديثة، فإن أوجه التشابه بارزة من حيث الحروب الدينية والطائفية الحادة التي اجتاحت القارة العجوز في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وكما هو معروف ارتبطت هذه الحروب بأثر الإصلاحات الدينية اللوثرية الكالفينية التي ولدت موجة احتقان حادة في الحقل الديني، نجمت عنها مواجهات مسلحة دامية تركزت في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا قبل أن تجتاح أوروبا كلها في ما عرف بحرب الثلاثين عاماً التي بدأت بالتمرد البروتستانتي في بوهيميا عام 1618.
كان القرن السابع عشر هو «قرن الأزمة المعممة» في أوربا حسب عبارة المؤرخ الإنجليزي «أريك هوبسباوم»، ولذا تركز اهتمام الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين في تلك الحقبة بمعضلة الحرب الأهلية وصيغ الخروج الآمن منها، بما ترجمته الحلول الثلاثة الكبرى التي بلورها الفكر الأوروبي الحديث:
أولها: نموذج التنوير الديني الذي لا يمكن خلطه بحركية الإصلاح البروتستانتي التي -على عكس ما يقال عنها- لم تكن حركة تحديثية تنويرية بل كانت نزعة متعصبة مغلقة تقوم على فكرة فساد الإنسان وعجزه عن تحقيق الخير وبلوغ الخلاص بعمله، ولذا قالت بفكرة الحاكمية الإلهية المطلقة النافية لأي حرية أو إرادة للإنسان، كما قالت بالجبرية المطلقة في الخلاص والاصطفاء، وحاربت أفكار التنوير العقلي الوافدة كما رفضت كل التقليد اللاهوتي العقلي. الكالفينية بهذا المعنى قريبة من تيارات الإسلام السياسي والنزعات السلفية الجديدة المتطرفة في علاقتها بالتقليد الديني وفي موقفها من المفاهيم والقيم التحديثية، حتى وإن ساهمت في إضعاف المؤسسة الدينية وتفجير الحقل الديني من الداخل وبالتالي مهدت على غير قصد منها للإصلاحات التنويرية التي أضحت ضرورة لإطفاء الفتن الأهلية القائمة.
ما ركزت عليه فلسفات التنوير الديني منذ سبينوزا وهوبز إلى كانط وروسو هو التمييز بين المقاربة العقلانية للدين التي ترتكز على الإيمان الذاتي والفضيلة الأخلاقية والمقاربة العمومية السائدة لدى الجمهور والمعرضة لتلاعب المؤسستين الدينية والسياسية. هذا التمييز تنجر عنه إعادة بناء المعتقد الديني في ضوء الثورة العلمية الحديثة التي لم تلغ الدين ولم تضعفه وإنما حررته من البنيات الكوسمولوجية والميتافيزيقية الوسيطة التي التبست به، كما ينجر عنه ترجمة مضامين القيم الدينية في مفاهيم عقلانية حديثة تقف في وجه من أطلق عليهم هوبز «معلمي الظلمات» الذين يستغلون الدين في مسالك السياسة ويوجهون مشاعر الطاعة والامتثال والخوف في خدمة الاستبداد حسب عباراته.
ثانيها: الدولة المدنية التي تقوم شرعية الحكم فيها على التوافق والتعاقد، بما يقتضيه هذا الحل من إعادة تأسيس لمفهوم الأمة وإعادة ضبط للحقل الديني. لا يعني الأمر بالنسبة لفلاسفة التنوير إقصاء الدين من حياة الناس وإلغاء دوره في النسق السياسي على عكس التصور السائد في الكتابات العربية الرائجة، بل إن الغرض هو تنظيم التعددية القائمة روحياً وفكرياً بترجمة مفهوم «الحق الإلهي» في مقتضى السيادة السياسية المطلقة أي منح الكيان الجماعي الممثل لعموم المواطنين السلطة المطلقة الضامنة للسلم والأمن، وترجمة القيم السياسية للدين في مفهوم «الديانة العمومية» التي تعني بالنسبة لروسو جوهر تصورات الدين عن التضامن والتعاون بمنظور إنساني كلي، له صياغاته القانونية الملزمة.
ثالثها: مفهوم السلم الكوسمبولوتي أي المعايير القانونية المنظمة للعلاقة بين الشعوب والأمم خارج منظور «الحرب العادلة» كما برز لدى لاهوتيي العصور الوسيطة في تبريرهم للحروب بالنيات والخلفيات الأخلاقية والعقدية، السلم الكوسمبولوتي وفق الدلالة التي بلورها فلاسفة الأنوار (وفي مقدمتهم كانط) يقوم على ضمان الأمن الجماعي الدائم من خلال مبادئ ثلاثة: النظام الدستوري المدني داخلياً، النظام الفيدرالي بين الأمم الحرة، واجب الضيافة الكونية في تصور مفهوم عالمي للمواطنة.
إن هذه الحلول الثلاثة هي التي مكنت أوروبا من التغلب على حروبها الأهلية الطائفية والدينية ثم حروبها البينية الطويلة المدمرة التي مزقت القارة منذ العصر النابوليوني إلى الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين.
ليس علينا بالضرورة أن نكرر المسار الأوروبي، لكن من لا يتعلم من عبر التاريخ يحكم عليه بإعادة أحداثه كما يقال.
*كاتب صحفي/”الاتحاد”