بقلم: د. إدريس لكريني*
ينطوي الفساد على مجموعة من الدلالات والمفاهيم، وهو يرتبط، سواء في شكله المالي أو الإداري أو السياسي، بسوء استعمال السلطة وتوظيفها بصورة تتناقض مع القوانين الجاري بها العمل.
فالفساد الإداري يقوم على تسخير السلطة لخدمة أهداف شخصية، أما الفساد السياسي فيقوم على الخداع وتزوير إرادة الجماهير، فيما يرتبط الفساد المالي بالسطو على المال العام والإثراء غير المشروع، بالشكل الذي يؤدي إلى تدمير الأسس الاقتصادية للدولة ويهدّد المشاريع الاقتصادية والاجتماعية.
يهمّ الفساد الأفراد، كما الدولة، بمختلف مؤسساتها، ولا تخفى تكلفته على الدولة والمجتمع، فهو يكرّس سلوكات تعكس الاستهتار بالقوانين ويقضي على مظاهر الشفافية والمنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص.
كما تتنوّع أشكال هذه الآفة أيضاً، بين فساد محلي يصيب مؤسسات الدولة؛ وغالباً ما تنحصر تداعياته داخلياً، وفساد دولي يتجاوز من حيث أسبابه وتداعياته حدود الدولة، وبين فساد صغير يرتكبه بعض صغار موظّفي الدولة أو عمّال في مؤسسات خاصة بشكل فردي في علاقته بالارتشاء والمحسوبية، وفساد كبير يتورط فيه كبار موظفي الدولة أو مسؤولي المؤسسات الخاصّة، وغالباً ما تكون تكلفته باهظة لارتباطه بسوء استعمال السلطة وهدر الأموال.
وينطوي الفساد على مجموعة من الأسباب والخلفيات، تتنوع بين ما هو سياسي، في علاقة ذلك بغياب، أو عدم فعالية المؤسسات السياسية والدستورية وضعف هامش الحريات، وانعدام الشّفافية في تدبير الشؤون العامة وعدم تكافؤ الفرص بين المواطنين. وأسباب اقتصادية مرتبطة بانتشار الريع وهشاشة الأوضاع الاقتصادية وعدم قيام الأنشطة الاقتصادية على أسس المنافسة واحترام القانون. وعوامل اجتماعية تتعلق بغلاء الأسعار وانتشار البطالة وبالاضطرابات الداخلية؛ وغياب روح المواطنة وسيادة أسبقية المصلحة الشخصية على العامة، والاستهتار بالقوانين، إضافة إلى أسباب قانونية وإدارية متصلة بضعف الرقابة على المال العام؛ وتفشّي التعقيدات الإدارية، وضعف القوانين وعدم مسايرتها للتطورات الاقتصادية والاجتماعية؛ وعدم استقلالية القضاء، إضافة إلى ضعف الدّخل وعدم تحفيز تطوير مهارات وكفاءات العنصر البشري داخل مختلف الإدارات والمؤسسات.
لا تتحقق التنمية أو الديمقراطية مع وجود الفساد، إذ إن تكلفة وخطورة هذا الأخير كارثية بكل المقاييس؛ وتزداد هذه الخطورة عندما تتورط في هذه الآفة أجهزة الدولة ليتخذ بذلك طابعاً مؤسساتياً.
ويؤدي الفساد بمظاهره المالية والاقتصادية إلى حرمان خزانة الدولة من الموارد، بسبب انتشار التهرّب الضريبي؛ ونهب الأموال العامة وإهدارها في أغراض شخصية، أو تهريبها نحو الخارج، عوض استثمارها في مشاريع تنموية اجتماعية حيوية في مجالات الصحة والتعليم والسكن والبنيات الأساسية.
كما يقتل روح المبادرة والاجتهاد، ويعرقل تحقّق التنمية بكل صورها وأشكالها، ويفرز مظاهر من التهميش والفقر، ويسهم في هروب الرّساميل الأجنبية وإضعاف الاستثمارات المحلية والخارجية؛ نتيجة لغياب الشفافية اللازمة في طرح الصفقات العمومية أمام الخواص؛ وعدم استئثار القضاء بمسؤولياته في حماية الحقوق ومواجهة الاختلالات بالصرامة اللازمة..
وعلى المستوى السياسي، ينخر الفساد جسم الدولة ويكرّس روح الانتقام داخل المجتمع وعدم الثّقة بالقوانين ومؤسسات الدولة، بالشكل الذي يؤثر بالسلب في أمن واستقرار الدولة والمجتمع، كما أنه يعرقل أي تغيير أو إصلاح حقيقيين على طريق بناء دولة الحق والقانون وتحقيق الديمقراطية، ما يجعل منه عاملاً أساسياً في مصادرة الحقوق والحريات الفردية والجماعية وتقويض كيان الدولة وزرع البلبلة وعدم الاستقرار داخل المجتمع.
ويصبح الفساد أكثر سوءاً وخطورة عندما يصيب جهازي القضاء والأمن ليتحولا من ذلك «الملاذ» الذي يفترض فيه حماية الحقوق والحريات وفرض احترام القانون؛ إلى آلية لحماية الفساد ولجعل «المفسدين» في مأمن ضد أي مساءلة أو عقاب، كيفما كانت طبيعة الجرائم المرتكبة أو مستوى الجناة.
وتزداد هذه الخطورة أكثر عندما يتسلّل الفساد إلى بعض القنوات، كالأحزاب السياسية وفعاليات المجتمع المدني ووسائل الإعلام بمختلف وسائطها، حيث تصبح جزءاً من الفساد وفي خدمته ووسيلة للتغطية والتمويه على مخاطره وانعكاساته المدمّرة.
وتشير التقارير الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية إلى تموقع عدد من الدول العربية في مراتب جد متقدمة من حيث تفشي الفساد؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى اليمن والصومال والعراق وسوريا وليبيا. وقد أسهم ضعف الدولة المركزية؛ إضافة إلى الصراعات السياسية والارتباكات الأمنية التي تشهدها هذه الدول، في تنامي وتصاعد حدة الظاهرة.
ولم تخل التظاهرات التي أطلقها المحتجون في دول «الحراك العربي» من شعارات ومطالب متصلة بهذا الخصوص، فقد ساد مطلب إسقاط الفساد والاستبداد في كل التظاهرات والاحتجاجات التي عمت العديد من المدن والقرى في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.
الأمر الذي يعكس تنامي الوعي باقتران الفساد بالاستبداد، حيث يغيب مبدأ الفصل بين السلطات؛ وربط المسؤولية بالمحاسبة؛ في مقابل تفشّي الاستهتار بالقانون والانفراد بالسلطة وغياب الشفافية في تدبير السياسات العمومية.
ورغم هذه المطالب من جهة؛ وتنامي الدراسات والأبحاث والتقارير التي تحذر من الانعكاسات الوخيمة للفساد، ما زالت العديد من دول المنطقة تعاني انتشار الظاهرة بكل تجلياتها وأصنافها؛ وهو ما تعكسه التقارير المحلية والدولية التي تضع العديد من الدول العربية في مقدمة الدول الأكثر فساداً.
إن مواجهة الفساد بكل أشكاله بصورة ناجعة وفعالة، لا تتوقف على المدخل القانوني بمفرده، بل إن الأمر يتطلب مقاربة شمولية تقف على مختلف العوامل التي تغذيها.
كما أن هذا الرهان لا يسائل الدولة بمفردها، وإنما يعني مختلف الفعاليات والقنوات، من أسرة وإعلام ومدرسة وأحزاب وفعاليات مدنية.
وعموماً، يظل كسب رهان تخليق الحياة العامة، مرتبطاً باعتماد إجراءات عمودية في علاقة ذلك بتعزيز المنظومة القانونية وإقرار حكم القانون وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتعزيز استقلالية القضاء، واسترداد الأموال المنهوبة وفضح الفساد والمفسدين عبر مختلف الوسائط والقنوات.
كما يتطلب الأمر اعتماد تدابير أفقية، تتصل بترسيخ قيم المواطنة؛ ونشر ثقافة الشفافية ورفض وفضح الفساد، إضافة إلى التوعية بتداعيات هذه الظاهرة وتكلفتها الخطرة على الدولة والمجتمع في الحاضر والمستقبل.
* باحث أكاديمي من المغرب/”الخليج”