قد يذهب الخيال بعيداً ببعض المحللين والمراقبين لردود الأفعال الخاصة بالولايات المتحدة الامريكية على مستوى السياسية الخارجية، وطريقة تعاطيها مع الازمات التي تشغل بال المجتمع الدولي.
كما تتنوع الاحتمالات والرؤى في طريق تفسير ما يحدث بين الإيجابية والسلبية، والتي لا تخلو، ايضاً، من نظريات المؤامرة والنهايات الكارثية.
ليس المقصود من هذا، التقليل من قيمة الاستنتاجات والاحتمالات التي رسمت ملامح سلوك الولايات المتحدة تجاه الآخرين، بقدر ما تعني حاجتنا الى الواقعية في الرصد والتحليل، فالولايات المتحدة تدرك جيداً ان لا شيء ثابت في السياسة، والمصلحة تقتضي الانسجام مع الواقع المتغير مقابل الحفاظ على الثوابت الاستراتيجية بعيدة المدى، خصوصاً إذا ارادت البقاء في قمة الهرم الدولي وتجنب الهاجس المزعج لنظرية موت الامبراطوريات وافول نجمها.
ويبدو ان أوباما ومستشاريه يعملون على تعزيز سياسة “التوسيع” في العلاقات الدولية واشراك الآخرين، بدلاً من سياسة “التضييق” واستخدام “المدفع” كما استخدمها “بوش الابن” في السابق، وهذا التحول في سياسة الولايات المتحدة لا يعني بالضرورة نهاية عصر التحكم او اضمحلال دور الولايات المتحدة وضعف سياستها الخارجية، انما توضح بان “التكتيك مختلف ولكن أهدافنا مشتركة” والتي اوضحها كيري لدول الخليج بعد الاتفاقية المبدئية حول البرنامج النووي الإيراني.
وقد أضاف الرئيس الأمريكي في مقابلة مع مجلة “بلومبيرغ فيوز” تأكيد هذا التغيير بقوله “على شركاء الولايات المتحدة من السنّة (وهم الحلفاء التقليديين) في منطقة الشرق الاوسط قبول التغيير المقبل في علاقة الولايات المتحدة مع إيران، ما دأبت على قوله لشركائنا في المنطقة هو انه علينا ان نتجاوب، وان نتكيف، مع التغيير” وأضاف “التغيير مخيف دائما”.
بالتأكيد ان التغيير لا يخيف الولايات المتحدة وانما الدول الكلاسيكية ذات التفكير النمطي الواحد، والتي تنظر الى الامر كما عبر عنه أوباما “لطالما كان هناك راحة بال ان الولايات المتحدة مرتاحة للوضع القائم وللاصطفافات الموجودة، وأنها على عداء عنيد مع إيران”، لكن ليس بعد اليوم، فالتغيير أصبح حتمياً بالنسبة للولايات المتحدة.
عقيدة المسؤولية
عندما سئل الرئيس الأمريكي عن التطرف السني والشيعي ابدى ملاحظة مهمة في سياق كلامه بخصوص إيران (التي من خلالها يمكن ان نفهم التحول الجديد) قائلاً “إذا نظرت الى التصرفات الايرانية، تراهم استراتيجيين وغير متهورين، ولديهم نظرة عالمية، ويرون مصالحهم، ويتعاملون مع حسابات الربح والخسارة، هذا لا يعني انهم ليسوا ثيوقراطية (حكما دينيا) تتبنى جميع انواع الافكار التي اعتقدها كريهة، ولكنهم ليسوا كوريا الشمالية، انهم دولة كبيرة وقوية ترى نفسها لاعبا مهما على المسرح الدولي، ولا اعتقد ان لديهم تمنيات بالانتحار، ولذلك جاؤوا الى طاولة المفاوضات من اجل العقوبات”.
فالواقعية التي تفرضها السياسة الخارجية الجديدة، هي العمل على توسيع الفرص للخصوم وتجنب التضييق قدر الإمكان، مقابل التأكيد على خيارات الضغط الاقتصادي وربما العسكري لكن بوتيرة اقل في حال لم يستجيب الطرف الاخر للتغير المطلوب، وكل هذا يخضع لإيقاع منسجم يشترك فيه الجميع، من دون ان يكون للولايات المتحدة الانفراد وتحمل المسؤولية لوحدها، وهذا يعطيها فرصة كبيرة للولايات المتحدة لتجنب المواجهة المنفردة وتبعاتها الاقتصادية الكبيرة، إضافة الى تخفيف العداء المتنامي لها بعد ثلاث حروب خاضتها على مدى عقد من الزمن في بلاد المسلمين، ورغبة الشعب الأمريكي في عدم تكرار هذه التجارب الحربية.
لقد لامس الباحثان الأمريكيان نينا هاشيجان وديفيد شور في دراستهما “عقيدة المسئولية” هذه الحقيقة، بعد اعتراضهما على من أشار الى ضعف الاستراتيجية الامريكية ورؤيتها الواضحة في عهد اوباما، بانها تمتلك بالفعل رؤية استراتيجية متكاملة للسياسة الخارجية.
وقد اكدا على حقيقية “مفادها أنه على الولايات المتحدة العمل على تشجيع أو دفع القوى الصاعدة لتحمل مسئوليات أكبر فيما يتعلق بالمنافع المشتركة التي تستفيد منها كل دول العالم، أو ما يطلق عليها (The global common goods) لتخفيف العبء عليها من ناحية، وكوسيلة لتطوير النظام الدولي بشكل تدريجي ليستوعب العدد الكبير من الفاعلين الذين أصبح لهم تأثير على مجريات الأمور فيه من ناحية أخرى”.
كما اضافا الى ان هذه العملية تتطلب “قدرًا كبيرًا من الصبر ليتمكن النظام العالمي من التكيف مع الدور الجديد لهذه القوى الصاعدة من ناحية، ولكي تقتنع هذه القوى أيضًا من خلال الممارسة العملية بفوائد النظام العالمي القائم من ناحية أخرى، ويضاعف من صعوبة هذه العملية أيضًا أن عدد القوى الصاعدة ارتفع بشكل كبير، وقدرتها على التأثير ومقاومة الضغط الخارجي ازدادت أيضا، والهدف من ذلك هو التوصل إلى قواعد متفق عليها لإدارة النظام الدولي، وحل المشاكل التي لها أبعاد عالمية في ظل واقع دولي جديد”.
فيما اشارا بعدم صلاحية “المؤسسات والقواعد التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية لإدارته”، وفي النهاية توصلا الى “إن دخول لاعبين جدد على الساحة الدولية يعد دليلا على نجاح السياسة الخارجية الأمريكية، وليس دليلا على تراجع الدور الأمريكي”.
اما الاليات الجديدة التي يمكن استخدامها لتطبيق هذه الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى، فتستند على عدة محاور لعل أهمها:
1. بناء شراكات استراتيجية (Building up Strategic Relationships): وطبعاً يمكن القياس على ذلك الخطوات التي قامت بها الولايات المتحدة الامريكية مع إيران وروسيا، والتي من الممكن ان تشهد في المستقبل المزيد من الشراكات الاستراتيجية وفتح قنوات أوسع وأعمق على المستوى الدبلوماسي والاقتصادي، ومن الممكن ان تشارك في حل قضايا إقليمية ودولية مهمة بالنيابة عن الولايات المتحدة الامريكية، مع التركيز على ان تكون هذه الشراكة بمستوى الثانوية لا الندية.
2. الفصل بين القضايا والمسارات المختلفة (Compartmentalization): فالتوافق بنسبة 100% في العلاقات والمصالح بين الدول امر غير واقعي مهما بلغت العلاقة بينهما، لكن يمكن فصل القضايا الخلافية وتحديد المسارات التي يمكن العمل عليها خدمة للنظام الدولي الجديد، وبالتالي خدمة لمصالح الولايات المتحدة، وهذا الامر تجده بوضوح في الخلاف بين روسيا والولايات المتحدة حول ضم شبه جزيرة القرم الى روسيا الاتحادية والتهديد بعقوبات اقتصادية وعزل روسيا، من دون ان يؤثر ذلك على دورها في الشرق الأوسط وسوريا، إضافة الى دورها المهم امام الاتحاد الأوربي وتحديداً اليورو الذي تعتبره الولايات المتحدة الامريكية الخطر الأكبر الذي يهدد الدولار الأمريكي عماد قوتها ومصدر فخرها، والذي من الممكن ان تستفاد من الدور الروسي لاحقاً لمجابهة أي خطر محتمل لنمو اليورو.
3. الترحيب بقيادات جديدة (Welcoming New Leaderships): وهو الامر الذي أشرنا اليه في البداية، بان الاستعداد للتغير يتطلب التكييف، وعلى الحلفاء التقليديين استثمار هذا التغيير بدلاً من توجيه النقد، كما أشار أوباما ضمنا الى الانتقادات التي وجهتها إسرائيل والسعودية في إدارة الازمة في سوريا والملف النووي الإيراني.
الخلاصة
يقول توماس جيفرسون أحد الإباء المؤسسين للولايات المتحدة “أتمنى أن نزداد حكمة كلما عظمت قوتنا، وذلك لنعلم أننا كلما استخدمنا القوة بصورة أقل أصبحنا أعظم”.
ما يشير اليه من يذهب الى القول بان طريقة إدارة النظام العالمي الجديد من قبل الولايات المتحدة الامريكية تشهد تغييراً سوف تلاحظ نتائجه لاحقاً، يؤكد ايضاً ان هذه الطريقة ليست جديدة بالمرة، وانما باتت تستخدم على نطاق اوسع وأعمق في عهد أوباما مقارنة بالإدارات السابقة للبيت الأبيض، وبالنتيجة يمكن ان نفهم مما تقدم جمله أمور منها:
1. استخدام الدبلوماسية التي تجمع بين الهدوء والضغط، وتجنب التصعيد الفوري في المواقف وردود الأفعال امام الازمات العالمية.
2. الاعتماد بصورة أكثر على حلفاء غير تقليديين، في إقامة شراكات جديدة، وتوسيع الحلقات الدولية وتداخلها، من اجل تفعيل مفهوم (القيادة من الخلف).
3. تفعيل دور الدور الاقتصادي كوسيلة للكسب والضغط من جانب، ومواجهة الاخطار التي تواجه الدولار من جانب اخر، سيما عملة الاتحاد الأوربي التي تنظر اليها الولايات المتحدة بعين الريبة.
4. ان توسيع النظام العالمي وزيادة الشراكات الثانوية وإدخال دول جديدة للقيام بمهام أكبر وادوار أوسع، يقتضي تهميش التطرف والتعصب والإرهاب، بعد ان تتحول هذه الأمور عبأ على الدول الصاعدة نفسها.