بقلم: السيد يسين*
أصبحت مشكلات كتابة التاريخ إحدى الموضوعات المثارة على مستوى المؤرخين في العالم أجمع، خصوصاً هؤلاء الذين يهتمون بالجوانب المنهجية.
ولو تتبعنا التطورات الحاسمة في علم التاريخ التي حدثت في القرن العشرين لاكتشفنا أن أهم تطور حدث هو اكتشاف التاريخ الاجتماعي، واحتلاله الموقع الأهم من الكتابات التاريخية بدلاً من كتابات التاريخ السياسي التقليدية.
وهذه الكتابات كانت تركز أساساً على تاريخ الملوك والحكّام ورؤساء الجمهوريات أكثر من تركيزها على جماهير الشعوب المختلفة، بما تتضمنه من طبقات اجتماعية ومشكلات فلاحية وعمالية.
وهكذا يمكن القول إن التاريخ الاجتماعي قام في الواقع بانقلاب حقيقي في مجال كتابة التاريخ، لأنه قدم لوحات متكاملة للمشهد الاجتماعي في أقطار متعددة مما سمح لنا لأول مرة أن نتعرف على طبيعة الصراعات الاجتماعية السائدة في المجتمعات، مع التركيز على الأطراف الداخلة فيها والوزن السياسي والاجتماعي والثقافي لكل طرف.
وهكذا قسم علماء التاريخ المحدثون الكتابات التاريخية إلى نوعين هما «التاريخ من أعلى» و»التاريخ من أسفل».
«التاريخ من أعلى» هو الذي يركز على دور النخب السياسية والاجتماعية والثقافية، أما «التاريخ من أسفل» فهو الذي يركز على المقهورين في كل مجتمع، ويعطي الطبقات الشعبية حقها في أن تظهر في اللوحة التاريخية لكل مجتمع بحسب المراحل المختلفة لتطوره. ومن أبرز المؤرخين الذين أحدثوا ثورة في كتابة التاريخ الأميركي من أسفل هو هوارد زين أستاذ التاريخ الأميركي اليساري المناضل الذي كتب كتاباً تاريخياً فريداً عنوانه «تاريخ شعبي للولايات المتحدة الأميركية». وقد ترجم المركز القومي للترجمة في مصر هذا الكتاب، وكتبت عنه سلسلة من المقالات للتعريف به. وهذا «التاريخ من أسفل» يعتمد على شهادات المقهورين من مختلط الأنماط، سواء كانوا من سكان البلاد الأصليين، أو من العبيد الذين استجلبوا من إفريقيا، أو من أبناء الطبقة العاملة الذين استنزفت قواهم المصانع الأولى التي أنشئت في الولايات المتحدة الأميركية. غير أنه إضافة إلى هذه الكتابات التاريخية الجديدة هناك تفرقة تستحق التأمل بين كتابة التاريخ عن بعد «in absentia» وكتابة التاريخ من الداخل.
وتقوم التفرقة في مجال العلوم الاجتماعية على مثال النموذج البارز للدراسات الاجتماعية التي تمت عن اليابان والتي كلفت بها الحكومة الأميركية العالمة الأنثروبولوجية روث بينيدكت. ولما كانت هذه الباحثة لا تستطيع دراسة المجتمع الياباني دراسة مباشرة فقد أجرت «دراسة عن بعد» نشرتها في كتاب شهير عنوانه «زهرة الكريز أنتيم والسيف» إشارة إلى أن المجتمع الياباني يجمع بين الرقة البالغة والتي تتمثل في الاهتمام بزهرة «الكريز أنتيم» وبين العنف البالغ الذي يرمز إليه السيف.
تذكرت هذه الأمثلة المنهجية المهمة وأنا في صدد مراجعة الكتب التي ألفها باحثون عرب عن ثورات الربيع العربي.
وجدت كتاباً للكاتب المعروف هاشم صالح الذي حرصت على تتبع كتاباته المتعددة عن «ثورات الربيع العربي». وحين طالعت الفصل الخاص بمصر أدركت على الفور باعتباري باحثاً مصرياً شارك بالملاحظة في ثورة 25 كانون الثاني (يناير) أنه كتب في الواقع «عن بعد» لأنه لم يزر مصر ولا اختلط بالناشطين السياسيين الذين أشعلوا فتيل الثورة، ومن هنا جاء وصفه للثورة سطحياً وبارداً ويفتقر إلى حرارة الملاحظة بالمشاركة.
وقد وقعت أنا شخصياً في الخطأ نفسه حين أصدرت تقييمات إيجابية لحركة «النهضة» في تونس، مع إنني لم أزر تونس بعد الثورة ولا أجريت مقابلات مع الناشطين السياسيين فيها لكي ألمس حرارة التجربة الثورية التونسية.
ويرجع خطئي في تقييم ممارسة حركة «النهضة» للسلطة في المرحلة الانتقالية (قبل الانتخابات النيابية الأخيرة) إلى عدة أسباب أهمها سبب شخصي يتعلق بإعجابي بنموذج الشيخ راشد الغنوشي باعتباره زعيماً إسلامياً معتدلاً. كنت قد قرأت رسالته للدكتوراه، وأدركت أنه يصدر عن إطار نظري حداثي بعيداً من الأطر التقليدية الإسلامية، مما يعكس انفتاحاً على الآخر.
ثم أتيح لي أن أقابله في ندوة نظمتها جريدة «الأهرام» وأعجبت – كما كتبت – بحكمته السياسية حين أكد أن لا ديموقراطية بغير توافق سياسي. وأضاف أنه حتى لو كسبت حركة «النهضة» الانتخابات فإنها لن تنفرد بتأليف الحكومة لأنه في رأيه ينبغي أن يكون تأليف الحكومات في العالم العربي ككل في السنوات العشر القادمة على أساس ائتلافي.
وقد أضاف إلى إعجابي بحكمة الرجل أن حزبه قرر أنه لن يقدم مرشحاً لرئاسة الجمهورية. وحين فاز السبسي برئاسة الجمهورية لم يتوانَ – بروح ديموقراطية – عن تهنئته بالنجاح، وهي التهنئة التي وبّخه في شأنها داعية إسلامي قيادي في جماعة «الإخوان المسلمين» مشهور بتطرفه الديني وتخلفه الفكري وتعصبه، لأنه في أحد برامجه على «يوتيوب» خاطبه قائلاً: هل نهنئ السبسي مع أنه علماني كافر؟
كان تصوري عن بعد أن حركة «النهضة» تمارس سياسة معتدلة مع خصومها السياسيين، على عكس الحماقة السياسية التي ارتكبتها جماعة «الإخوان المسلمين» حين وصلت إلى الحكم في مصر.
غير أنني طالعت أخيراً مقالة مهمة للإعلامي التونسي رشيد خشانة نشرت في جريدة «الحياة» بتاريخ 7 أيار (مايو) 2015 بعنوان «مهلاً أستاذ راشد.. ما هكذا يكتب التاريخ» وقد عقب في مقالة على تصريح مهم للغنوشي زعيم حركة «النهضة» كان أدلى به إلى وكالة الأناضول التركية تحت عنوان «لا ينبغي السكوت على الحقائق» للتعبير عن أن العلمانيين في مصر وتونس «لم يستوعبوا غيرهم في الحكم وعليهم عدم إقصاء الإسلاميين من المشاركة السياسية».
وفي المقابل أثنى على تجربة حزبه في الحكم قائلاً: «نحن الإسلاميين عندما وصلنا إلى السلطة في تونس لم نقص أحداً واستوعبنا الجميع العلمانيين وغير العلمانيين».
ولا يوافق الأستاذ خشانة إطلاقاً على هذا التقييم الذاتي الذي قدمه الغنوشي والذي أشاد فيه بسلوك حركة «النهضة» لأنها لم تقص أحداً من العلمانيين.
ويتساءل «هل تعففّ النهضويون عندما وصلوا إلى السلطة مع حليفيهما الأصغرين (المؤتمر والتكتل) عن الإقصاء واستوعبوا الجميع فعلاً؟» ويجيب أن تجربة حكم «الترويكا» نهضت على تقاسم غنائم النظام المنهار واستبعاد أي صوت غير منسجم ليس على صعيد السياسة فحسب وإنما على صعيد الأفراد أيضاً.
وأضاف أن «النهضة» بالغت في استعداء الخصوم السياسيين والاجتماعيين ففتحت في البداية معركة طويلة مع الإعلاميين وكانت معركة حق أريد بها باطل، غير أنها فشلت في تحقيق أهدافها ثم شنت حملة على النقابيين (الاتحاد العام التونسي للشغل) إلى حد محاولة إنشاء اتحاد مواز فأخفقت مجدداً.
ويثير الأستاذ خشانة مسألة بالغة الخطورة لأنها تماثل تماماً سياسة جماعة «الإخوان المسلمين» حين تولت الحكم في مصر والتي جرى العرف على تسميتها، «سياسة أخونة الدولة وأسلمة المجتمع».
يقول الأستاذ خشانة في هذا الصدد: «تجلى الإقصاء في أوضح مظاهره من خلال التعيينات في الأجهزة الإدارية والدواوين وهي تسميات يمكن وضعها تحت عنوان «الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب»، لأنها لم تستند إلى الكفاءة وإنما على الولاء، وأخطر من ذلك كله أن قرار صرف التعويضات لضحايا الاستبداد كشف عن سياسة متحزبة غضت الطرف عن مصالح الدولة ووضعت المقدمة للاعتبارات الحزبية.
انتهت هذه الانتقادات العنيفة التي وجّهها الأستاذ خشانة للشيخ راشد الغنوشي الذي أراد من تصريحاته الصحافية نقد العلمانيين بتهمة الإقصاء السياسي لخصومهم ومدح الذات في مجال الإشادة بسياسة حركة «النهضة» التي تبين أنها لم تختلف في الواقع إلا في الشكل ربما عن السياسة الإقصائية لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر.
ومن هنا تأتي خطورة كتابة «التاريخ عن بعد» وأهمية كتابته بالاعتماد أساساً على الملاحظة بالمشاركة وعلى المقابلات المتعددة مع من شاركوا بالفعل في المشهد السياسي.
* كاتب مصري/”الحياة”