بقلم: محمد الأشهب*
إذا لم يكن تمدد تنظيم «داعش» في ليبيا كافياً لإشعار الأطراف المتناحرة بمسؤولياتها، في بلورة صيغة وفاقية لمصالحة قابلة للاستمرار، هل في إمكان أي تحد آخر أن يدفعها إلى نسيان خلافاتها المستعصية؟
تمدد التنظيمات المتطرفة له أهداف واضحة، ليس أبعدها استنساخ الواقع العراقي والسوري، بكل حذافيره. فقد أمضى العراقيون فترة طويلة في صراعاتهم الطائفية والعرقية والمذهبية، وحين استيقظوا كان تنظيم ما يعرف بـ «الدولة الإسلامية» قضم مساحات أوسع من بلاد الرافدين، ولا يزال يحذوه النهم في ابتلاع أخرى. كون الظاهرة الإرهابية تنمو في بيئة الحروب.
كما الانسحاب السوفياتي من أفغانستان خلق فراغا في السلطة، بعد تدمير مقومات الدولة، وكان من بين العوامل الأساسية التي سنحت «ابتكار» ظاهرة المقاتلين من خارج أبناء البلاد، بوازع ديني وإيديولوجي، فإن انسحاب القوات الأميركية من العراق أسعف امتدادات التنظيمات الإرهابية في إيجاد ملاذات آمنة غذتها نزعة التقسيم الديني والطائفي. ولن تكون ليبيا استثناء عن المسار، طالما أن قوات الناتو توقفت في منتصف الطريق، وتركت البلاد غارقة في فوضى السلاح والأحقاد وتصفية الحسابات.
ليس الإرهاب ظاهرة معزولة عن سياقها، فالأمر يتعلق بداهة بفشل المشاريع الانتقالية لبناء دولة عصرية. أخفق الأميركيون وقبلهم السوفيات ومعهم حلف الناتو في إقامة بدائل تنسي الناس زمن الديكتاتورية والاستبداد. حدث ذلك في أفغانستان والعراق، ولا تبدو التجربة الليبية بعيدة عن الحماية الوقائية. غير أن إلقاء اللوم على عوامل وخلفيات خارجية لا يختزل كل جوانب المأساة. فثمة إصرار آخر على تدمير الذات، يتم التعبير عنه من خلال أشكال الاقتتال الداخلي، إلى درجة أن طلب التدخلات العسكرية الأجنبية لم يعد محرجا.
نمط الحياة الذي يراد فرضه في مساحات استحواذ التنظيمات الإرهابية على السلطة والثروة، لا يبعث على القلق فقط، ولكنه يحيل ما تبقى من السكان غير النازحين إلى رهائن تتحكم في رقابهم وحرياتهم طقوس موغلة في التخلف والتمييز وهدر كرامة الإنسان. غير أن الأطراف المتناحرة التي عبدت الطريق أمام تمدد التنظيمات الإرهابية تتحمل القسط الوافر من المسؤولية. فإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار وسطوة الميليشيات لم تترك مجالا للتفكير في ما يجب فعله لإنقاذ الموقف.
عندما بدأت تقارير تعرض تغلغل «داعش» في الأراضي الليبية، بالتزامن مع محاولات تطويق نفوذها في العراق وسورية، عبر الضربات المحتشمة للتحالف الدولي، لم يعر الفرقاء الليبيون المتناحرون الأمر ما يستحق من يقظة. وبدا أن مقولة عدو عدوي تسمح بالتقاط الأنفاس، طالما أن السلاح الذي يوجه إلى الصدور يكون له أثر، بصرف النظر عن مصدره. غير أن قضم الأراضي وإقامة كيانات مجزأة، لا يستثني مجالات نفوذ هذا الطرف أو ذاك. بل إن بعض الممارسات التي همت خطف واغتيال ونحر الأبرياء على الهوية فتحت العيون على حجم المخاطر المتباينة.
ليست وصفة حكومة وحدة وطنية كافية وحدها للحد من هذه المخاطر. ففي العراق تغيرت حكومات على إيقاع المحاصصة، من دون أن تفلح في معاودة بناء لحمة التماسك الاجتماعي والسياسي. والشرعية الحقيقية لا تقوم على توزيع المغانم والمواقع، بل على وضوح الرؤية حيال مواجهة التحديات التي لا تقبل الإرجاء. وإذا كانت أسبقية في أجندة الاستحقاقات الاستعجالية، فمحورها التصدي للتمدد الإرهابي، أي توجيه الفكر والسلاح عبر تحالف تاريخي ضد الإرهاب. ولن يكون في وسع أي تنظيمات خارج سلطة الدولة القيام بهذه المهمة، كون الميليشيات لا تتحول فجأة إلى قوات نظامية، والعبرة جلية من التجربة العراقية.
إذا كان صحيحاً أن الحرب على الإرهاب قضية دولية بحجم استشراء الظاهرة، فالصحيح أيضا أن المجتمع الدولي لا يمكن أن يخوضها بالوكالة عن الليبيين. كما ثبت أنه يدعم العراقيين من دون النزول إلى ساحة الميدان. والأخطر في الحملة الراهنة أن الإرهاب لم يعد مرتبطا بأفراد أو جماعات فقط، بل تعدى طموحه هذا النطاق نحو إقامة كيانات بأسماء دول.
أقرب الطرق إلى المصالحة الليبية أن تبدأ باحتساب المخاطر التي تهدد كيان الدولة والمجتمع، وقتذاك يمكن لحكومة الوحدة الوطنية أن تجمع ما تفرق من سبل وأهواء.
*كاتب صحفي/”الحياة”