تعيش ليبيا هذه الأيام مرحلة دقيقة في مسار التحول الديمقراطي، والانطلاق نحو مستقبل واعد يحقق آمال الليبيين في العيش الكريم والدولة القوية، حيث لا صوت يعلو على صوت المصلحة الوطنية.
وفي هذا الصدد يمكننا الإشارة إلى التقدم الذي يحرزه مبدأ ومشروع الحوار الوطني الليبي، الذي أصبح نقطة اتفاق وسببا للتفاؤل خلال المناقشات التي جرت في مؤتمر أصدقاء ليبيا في روما أخيرا؛ فالحوار هو فرصة الليبيين للحديث بصراحة دون خوف من الانتقام، وهو ما جرى تغييبه قسرا خلال عهد القذافي، وهو الشيء الذي نريد العودة إليه من جديد كشعب.
والحوار هو الطريق الوحيد لإعادة ليبيا إلى الاستقرار والإنتاج، وإبراز إمكاناتها كأكثر بلدان شمال أفريقيا ازدهارا، وشريكا رئيسا إيجابيا للمجتمع الدولي، سواء في مجال الاستقرار والأمن والطاقة والتحكم في الهجرة غير الشرعية التي تنطلق من أفريقيا نحو السواحل الأوروبية، التي يلقى المئات من الشباب نحبهم جراءها.
إن ليبيا تتمتع بكل ما يجعلها دولة مستقرة وناجحة في الوقت نفسه، فهي تتمتع بإمكانات هائلة؛ إذ تمتلك أكبر مخزون نفطي في القارة الأفريقية، كما أن لها ساحلا طويلا على البحر الأبيض المتوسط، وتزخر ببعض أروع المواقع التاريخية في العالم، ويبلغ عدد سكانها نحو ستة ملايين نسمة، كما تتمتع بموقع جيواستراتيجي حيوي، وهي عوامل ستمثل دافعا للمستثمرين والسياح والسياسيين لزيارة ليبيا وإبرام الصفقات وعقد التحالفات معها مستقبلا.
ولكن في هذه المرحلة، وبشكل عارض أو مقصود، يجري تصوير ليبيا للعالم كما لو كانت في حالة من الفوضى العارمة، فتتوارد أنباء مختلفة؛ كهجوم مسلح على المؤتمر الوطني العام، وانخفاض في عائدات النفط، وانعدام للأمن في الجنوب، وضعف الإقبال على التصويت في انتخابات أعضاء لجنة الستين. ولا ننكر أن هناك الكثير من هذه الأحداث التي تلقي بظلالها السلبية على الواقع الليبي، إلا أنها ليست كل فصول القصة.
فهناك في ليبيا ثلاثة مسارات أساسية لا بد لمن يتعاطى مع الشأن الليبي الإلمام بها؛ فالمسار الأول هو الدستور، فرغم الصعوبات فقد تمت عملية انتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور بسلام، وأظهرت نتائجها عدم تغلب أي فئة أو تيار أو مجموعة، حيث أثبت الشعب قدرا عاليا من الوعي السياسي والمجتمعي.
أما المسار الثاني، فهو المسار السياسي الانتقالي والمتمثل في التعامل مع الخلافات السياسية المتعلقة بالحكومة والمؤتمر الوطني (الجهاز التشريعي)؛ فرغم الاستقطاب الحاد، فإن إرادة الشعب تبلورت من خلال مقترحات لجنة فبراير (شباط) التي اقترحت التعديلات التي تقود البلاد إلى انتخابات جديدة بعد ثلاثة أشهر.
وبخصوص المسار الثالث المتعلق بالحوار الوطني فهو المسار الأكثر أهمية في هذه المرحلة لدوره في خلق التوافق الوطني المفقود والمنشود والذي من دونه لا يمكن أن تستمر. وتبدو بوادر انطلاق ونجاح مشروع الحوار الوطني واضحة ومدعومة من قبل الشعب ودول الجوار والأشقاء العرب والمجتمع الدولي. الأمر الذي يخلق إجماعا على كونه العامل الأكثر أهمية في استقرار البلاد؛ إذ إننا نجحنا أخيرا في عقد إحدى أهم فعالياتنا في الهيئة التحضيرية للحوار الوطني في مدينة درنة، وهي المدينة التي تعرف إعلاميا كمعقل للمتشددين، حيث شهدت الفعالية مشاركة المئات من الناس في تقديم آرائهم بشأن عدد من المسائل التي تتضمن رؤية كل منهم حول مستقبل ليبيا، وهو ما أسفر عن تعطش فئات المجتمع للحوار الذي ظل غائبا عنه لأكثر من أربعين عاما تحت وطأة الاستبداد.
وتأتي فعالية درنة كثاني فعاليات جولة المشاركة المجتمعية التي ستشمل ثلاثين مدينة ليبية، وتضطلع بها الهيئة التحضيرية للحوار الوطني، لتكون بمثابة منتدى غير سياسي تطرح خلاله وتؤخذ في عين الاعتبار وجهات نظر جميع فئات الشعب الليبي. وهو جهد تقوم به الهيئة لإخراج ما تراكم على مدى عقود من آراء الناس، وذلك بهدف الوصول إلى التوافق المجتمعي حول المستقبل. يذكر أنه لا توجد أي ضمانات تؤكد أن الطريق نحو التنمية في البلدان التي حررها الربيع العربي سينتهي إلى تجربة مثالية، ولكن رغم ذلك، فإن الآمال نحو الديمقراطية لا تزال معقودة.
وفي نهاية المطاف، فإن الديمقراطية ليست مجرد أوراق الاقتراع والصناديق التي توضع فيها، لكنها محصلة لرغبات ومصالح الملايين من البشر تعمل على تحقيق الإجماع الوطني.
وفي بلد يعيش حالة من انتشار السلاح، مع وجود التعددية المناطقية والقبلية والعرقية التي طالما جرى استغلالها، فإنه ليس من المستغرب أن يلجأ الكثير من الناس لاستخدام القوة في تسوية نزاعاتهم. وإن كان ذلك لا يعني وقوف ليبيا على شفير الفوضى أو الصراعات المعقدة، إلا أنه جدير بجعل تحقيق الإجماع الوطني عملا صعبا. وتمثل هذه الظروف والتحديات دافعا لنا لإعطاء كل من آمن بوحدة التراب الليبي، وتخلى عن استخدام السلاح، الفرصة الكاملة للمشاركة في الحوار الوطني، والإدلاء برأيه على مرأى ومسمع من الليبيين والعالم أجمع.
وخلال المشاركة في جولة المشاركة المجتمعية، ستطلب اللجنة من الليبيين الذين أعطوا ثقتهم لممثليهم في الحوار الوطني تقديم أطروحاتهم حول مشاركة 300 شخص منتدب عنهم، وذلك على أوسع نطاق مجتمعي للعمل على صياغة الميثاق الوطني.
ولن يكون الميثاق الوطني مجرد وثيقة اعتيادية تتناول شكل الدولة الليبية وكيفية حكمها، وإنما ستذهب أعمق من ذلك لمناقشة هوية المجتمع الليبي. ورغم صعوبة البدء من نقطة الصفر، فإن ذلك كفيل بفتح الكثير من الآفاق أمامنا، حيث إننا سنتمكن لأول مرة من إجراء نقاش حول أنفسنا، مستفيدين في ذلك من تجربة الخطاب السياسي العالمي الذي مثلت سياسات الهوية العلامة الأبرز فيه منذ نهاية الحرب الباردة.
ونحن في ليبيا ومن خلال الحوار الوطني، ستكون الفرصة مواتية أمامنا للإجابة في وقت واحد عن الأسئلة التي سيستمر العالم في التعامل معها. وما إن نتمكن من إنجاز ذلك، وطرد كل مخلفات النظام البائد، فإننا نعتقد أن ليبيا ستعود في مكانها الصحيح قريبا كدولة مستقرة، قوية مزدهرة.
“الشرق الاوسط”
اقرأ أيضا
الأيام المشتركة “CoDays”.. خبراء يناقشون بالرباط تطور برامج رعاية مرضى السرطان
احتضنت مدينة الرباط، النسخة الثالثة من الأيام المشتركة CoDays، وهي التظاهرة العلمية السنوية المخصصة للأنكولوجيا، …
الرباط.. خبراء يناقشون دور الذكاء الاصطناعي كحليف جديد لمدراء المشاريع
أكد خبراء من معهد إدارة المشاريع، بالرباط، على أهمية الذكاء الاصطناعي بالنسبة لمدراء المشاريع، وذلك …
الكويت تكرم معهد محمد السادس كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي
جرى تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية التابع لجامعة القرويين، كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي، وذلك تقديرا لجهود هذا المعهد المتميزة في خدمة كتاب الله تعالى نشرا وتعليما.