بحلول الذكرى الواحدة والأربعين لرحيل الزعيم علال الفاسي٬ بتاريخ 13 ماي 1974، يحيا من جديد، فعظماء التاريخ يحيون وترتفع هالاتهم كلما أوغل الزمن بعيدا عن لحظة غيابهم من مسرح الحياة.
وفي فترة من تاريخ المغرب٬ تاريخ الكفاح ضد الاستعمار، لم يبق واحد من المغاربة، وعن بكرة أبيهم، من أدناهم إلى أعلاهم٬ دون أن يعرف رجلين عظيمين٬ السلطان بن يوسف٬ محمد الخامس٬ والزعيم علال الفاسي٬ حتى تحدث الناس ، هياما بالرجلين، عندما لاحت لهم رؤية السلطان بالقمر٬ أن بنيوسف في السماء، وعلال في الأرض.
واليوم، حينما يرى الملاحظ، حالة الشحناء المظلمة التي أرخت بسدولها على العلاقة بين حزبين وطنيين كبيرين، هما حزب الاستقلال وحزب العدالة والتنمية، من خلال السجال الحاد الذي حول الخطاب السائد بينهما إلى تراشق بالتهم، وترام بالشبه، وتنابز بالألقاب، يتساءل بحرقة، هل غاب عن عقول ومنظري وخبراء هذين الحزبين، أنهما فرعان من شجرة واحدة، وأن البذرة التي أنبتت حزب الاستقلال، هي عينها التي تنسلت منها سلالة حزب العدالة والتنمية، وأنهما يتحدران معا من أصل واحد، هو أصل الحركة الإسلامية الوطنية التي انبعثت في عشرينيات القرن الماضي، في سبيل تحرير الوطن من غصب النصارى الفرنسيين والإسبان، ثم تجددت خلال الستينيات من أجل الذود عن بيضة البلاد، وصون هويتها وأصالتها وعروبتها وإسلاميتها، وأن الرائد والملهم، في كلا المحطتين التاريخيتين، محطة الانبعاث من أجل التحرير، ومحطة التجديد من أجل التغييروالإنقاذ، كان واحدا ، هو الزعيم علال الفاسي، ففي الأولى، بات من أبجديات التاريخ ، ومن المعلوم من الواقع بالضرورة، أن انبلاج فجر الحركة الإسلامية الوطنية التحريرية ، كان من صنع علال الفاسي، ورهط كريم من شباب علماء القرويين، من أمثال الفقيه غازي وعبد العزيز بن ادريس والمختار السوسي والهاشمي الفيلالي وأبو بكر القادري، وغيرهم.
وسميت آنئذ بالحركة السلفية، من باب الاصطلاح فقط، لأن الواقع كان في ذلك الوقت يستثقل إيراد مصطلح الإسلامية، لكون المعركة التحريرية كانت واضحة بين طرفين، المسلمين المغاربة في مواجهة نصارى الاحتلال الغاشم، والإسلام كان عقيدة الأمة المغربية ووعاءها وجوهرها وكينونتها، لا يزايدن مغربي على مغربي في الإخلاص له.
وفي المحطة الثانية، كان علال الفاسي حاضرا وعلى خط التأسيس والتوجيه، مع ثلة من الرجالات التاريخيين ، لانطلاق الحركة الإسلامية التجديدية المنظمة، التي ستتخد لها اسم الشبيبة الاسلامية، وستفلح في رسم وجه المغرب، وإنقاذ البلاد من الانجراف نحو وهدة لا قعر لها، غير أن ذلك الحضور كان قد تلفع بأردية الخفاء والتكتم، والذي كانت تفرضه ضرورات المرحلة، وتضطره إليه حمى الصراعات السياسية بين فرقاء الحركة الوطنية.
فالهم الإسلامي، لم ينخلع قط من عقل علال الفاسي ولا من وجدانه، ولا من فكره وخطابه، ولا من عميق مخططاته وصميم تطلعاته ، مثله مثل شوامخ العالم الإسلامي وكبار رواده، الذين كانوا يستميتون في إنهاض الأمة الإسلامية من كبوتها وغفوتها، أمثال جمال الدين الأفغاني، عبد الكريم الخطابي، محمد عبده، رشيد رضا، شكيب أرسلان، حسن البنا، أبو الأعلى المودودي، سيد قطب، أمين الحسيني…
وفي الوقت الذي كانت تتأسس فيه الحركة الإسلامية في المشرق، على يد الإخوان المسلمين في مصر، في عشرينيات القرن الماضي، كان علال الفاسي في المغرب يهتدي إلى نفس العمل الذي كان يقوم به حسن البنا في مصر، بدءا بجمعية القرويين لمقاومة المحتلين، لدعم المجاهد المغربي عبد الكريم الخطابي، إلى تأسيس الخلايا السرية محاكاة للمنهج النبوي، خلال مرحلة البعثة النبوية، هذا التأسيس الإسلامي المفعم بالبواعث الدينية المحضة ، الجياشة بالحماس العقائدي الصرف، الناهل من منهل القرٱن الكريم، والسنة النبوية، والسيرة المحمدية العطرة، سينصرف الى الوجهة الكفاحية الميدانية، وهي الوجهة الوطنية، بما يتطلبه العمل الوطني من قنوات ومؤسسات وعناوين وتنسيقات، سينصرف إلى ذلك ، مباشرة بعد عودة علال الفاسي من مهجره بسويسرا، التي كان قد قضى فيها سنة كاملة ، ما بين 1933 إلى 1934، بين يدي المعلم الكبير للحركات الوطنية في العالم الإسلامي، الداعية السوري، أمير البيان، شكيب أرسلان، الذي يعتبر بحق الأب الروحي للحركة الوطنية المغربية، والذي لم يكن سوى الرفيق والتلميذ ووارث سر الرمز الإسلامي الكبير، جمال الدين الأفغاني، فقد كان شكيب أرسلان، بحميته الإسلامية، ونشاطه الدؤوب في أوروبا، مرشد النخب الطلائعية، من شباب شمال أفريقيا ، نحو الكفاح الوطني ضد الاستعمار، ومقدح زناد شرارة الشعور الوطني، والعقيدة الوطنية، في نفوس وعقول القادة الأوائل للحركة الوطنية في المغرب والجزائر وتونس وليبيا، على شاكلة العمل الجهادي التحريري الذي كان يلهب أواره في سوريا ولبنان وفلسطين، ضد الاستعمار الأنجليزي والفرنسي، وعلى يديه تربى القادة الوطنيون أمثال بلحسن الوزاني والمكي الناصري وبنونة وبلافريج وغيرهم، وقد أحب المغاربة هذا الرجل إلى الدرجة التي أعطوا بها اسمه للكثير من مواليدهم.
ولأن حركة الإخوان المسلمين للشهيد حسن البنا في المشرق، والحركة الإسلامية الوطنية للزعيم علال الفاسي في المغرب، كانتا تستنيران من المشكاة الواحدة، وتبتغيان الأهداف الواحدة، من طرد الاستعمار الغربي، ونهضة الأمة الإسلامية، فلم يكن يشعر حينما أوى الى مصر مهاجرا، بعد سنة 1947، سوى أنه في وطنه وبين أهله وذويه، إذ لم يكن يفارق قادة الإخوان المسلمين، لحظة من عمره، ولم يكن ينقطع عن ارتياد المركز العام للإخوان المسلمين، لتنسيق المواقف، وتصريف سبل الدعم والتضامن للقضية الوطنية المغربية، والتي كانت على رأس أولويات اهتمامات الإخوان المسلمين، شأنها شأن القضية الفلسطينية، رفيقه في ذلك، زعيم التحرير عبد الكريم الخطابي، والذي كان هو بدوره ملازما مواظبا على ارتياد دار الإخوان المسلمين، وتأدية صلواته إلى جانب حسن البنا، إذ كان الإخوان المسلمون يجلون غاية الإجلال الزعيمين الفاسي والخطابي ، ويعتبرونها من الرموز الكبيرة للعالم الإسلامي، ويولونهما القيادة والأستاذية لحركتهم، يفيدون منهما آراءهما وتجاربهما، ولذلك لم تكن الصلة والتعاون تنقطع بين الإخوان من جهة، والحركة الإسلامية الوطنية المغربية من جهة أخرى، فقد كانا يريان بعضهما جزءا من بعض.
وقد تألم علال الفاسي كثيرا، وتفطر فؤاده للانشطار الذي ابتلي به الإخوان، بين جناح المرشد العام حسن الهضيبي، وبين جناح قائد الثورة جمال عبد الناصر، الذي كان من الإخوان المسلمين، ثم انشق عنهم وانقلب عليهم بعد نجاح الحركة العسكرية الانقلابية ليلة 23 يوليو 1952، ثم أوقع بهم التنكيل بالسجون.
ولكن علال الفاسي، وبعد أن خابت مساعيه في الإصلاح بين الطرفين انحاز إلى من هم على الحق في مواجهة طغيان عبد الناصر، ولم ينفك عن بذل الجهود، تصديا لجور عبد الناصر على الإخوان المسلمين، رفاق الدرب، واتخذ من جريدة العلم منبرا مفتوحا لبث المقالات والبيانات والتصريحات المنافحة عن مظلمة الإخوان، والمجازر التي تعرضوا لها في السجون وعلى أعواد المشانق، فقد كان هذا التصدع الذي حل بحركة الإخوان ، وتحول الضباط الأحرار الجناح العسكري الذي أسسه الإخوان وسلموا قيادته لعبد الناصر بتزكية حسن البنا له، تحولها إلى حراب تمزق الحركة الأم، بعد انتصار حركة 23 يوليو، كان ذلك نكبة عظيمة في نظر علال الفاسي، وصدمة له، وهو الذي عاش بين ظهراني الإخوان، وعايش أحوال مودتهم وانصهارهم في بعضهم، ثم رأى كيف تحول إخوة الأمس إلى أعداء، وكيف تجرأ عبد الناصر على إعدام من كانوا يصافونه ويصادقونه وينسقون معه، أمثال عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي ويوسف طلعت، وابراهيم الطيب، وسيد قطب.
وقد تفطن الزعيم علال الفاسي، إلى أن الاستعمار الغربي الخبيث، يستطيع أن يندس من جديد بين صفوف الشرفاء والوطنيين والمجاهدين فيفرق شملهم، ويضلل وعيهم ، ويحطم ثقافتهم الأصيلة، فالمؤامرة التي حلت بمصر، وفرقت بين أبناء الصف الوطني الأصيل، الذين كانوا مؤتلفين في مدرسة العقيدة الإسلامية، والهوى الوطني الواحد، ومزقت الجبهة الموحدة الى جبهة رجال الحكم، جبهة عبد الناصر، وجبهة الإخوان، جبهة المرشد العام حسن الهضيبي، وأبعدت رجال الحكم في اتخاد المواقف، ورسم السياسات، عن مشربهم الثقافي والحضاري الأول، المنبجس من المعين الصافي للإسلام، الذي تربوا عليه في بدء نضاليتهم، ثم رمت بهم في مستنقعات وبيئة من ثقافة الغرب، وتصورات الغرب، التي رهنتهم من جديد لمخططات الاستعمار وأحابيله، غربيه وشرقيه.
هذه المؤامرة هي عينها التي تدمر صفوف الوطنيين في كل قطر من أقطار العالم الإسلامي، فتنتهب العقول وتستلب النفوس بغواية الثقافة الغربية، وتقتطع من جسم الأمة الإسلامية بعضا من نخبة مثقفيها وقادتها، فتصيرهم حربا على تاريخ الأمة وهويتها وعقيدتها وقاعدتها الاجتماعية.
وفي المغرب المستقل، كان علال الفاسي يرقب كيف تسلل الاستعمار الخبيث إلى قلب الحركة الوطية عبر بوابة الأحزاب الفرنسية الاشتراكية والشيوعية ، فتحول بعض الزعماء الوطنيين إلى يسار في مواجهة من أصبحوا يعتبرونهم محافظين ورجعيين وتقليدانيين، وزين لهؤلاء الزعماء الوطنيين الذين أشربوا العقائد الجديدة، عقائد اليسار، أنهم وضعوا أيديهم على الأسلحة الأيديولوجية التي سيحسمون بها الصراع السياسي مع النظام السياسي لإسقاطه، عبر إسقاط البيئة الحاضنة له، بيئة التقاليد وقيم المحافظة ومرجعية الماضي.
وبانقلاب هذا الجناح من قيادة الحركة الوطنية على القيم التي انتظمتهم إبان الكفاح الوطني، وهي قيم الإسلام وروحه ومقاصده، انفتح الباب على مصراعيه في وجه الغزوالفكري من أوروبا غربيها وشرقيها، حتى غدت البلاد مطرحا لكل المنتجات الفكرية الماركسية والاشتراكية والشيوعية والوجودية، المستوردة من فرنسا والاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي، والصين الماوية ، وكوبا الكاستروية، ولم يعد أحد من شباب البلاد، ممن يتدرجون في أسلاك التعليم والمعرفة، ينجو من الوقوع في شباك الفكر المادي اليساري، حتى أصبح الطالب الوالج الى التعليم الجامعي يتفاخر بالتحرر من قيم الهوية والأصالة، التي تؤطرها العقيدة الاسلامية، باعتبارها في تصورهم قيم التخلف والتدجين والقهر، وأصبح علال الفاسي يطارد في الجامعة بالسخرية والازدراء، ولما يمض على استقلال البلاد سوى ردح يسير من الزمن كان علال رمزا كبيرا لكل المغاربة وزعيما للتحرير لا يضاهى.
ومن ثم أصبح علال يرى أن الحركة الوطنية التي انتصرت في معركة تحرير الأرض، غدت عاجزة عن تحرير الإنسان المغربي من قبضة الاستعمار، وعاجزة عن تحصين أجيال الاستقلال من الاستعباد الثقافي للغرب، وكان يدرك، بعد أن حاول بدون جدوى، حقيقة الضعف المريع للارادة السياسية لحزب الاستقلال في التصدي لهذا المد الخطير للتيارات الهادمة لمرجعية البلاد وعقيدتها وأصالتها، فالحزب السياسي الغارق إلى الأذقان في بحر الصراع السياسي، والمستغرق في هم التطاحن من أجل المواقع والمكاسب، ليست له القابلية للتحول إلى حركة ثقافية مضادة، وإلى مشروع دعوي يستنقذ مستقبل البلاد.
ومن ثم كانت القناعة المهيمنة على تفكير علال الفاسي، هي أن البلاد في الحاجة القصوى إلى تأسيس حركة إسلامية منظمة، وكانت القناعة هي عينها التي شغلت تفكير أقطاب الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي، ورموز الدعوة الإسلامية وأساطين الفكر الإسلامي عبر المعمور، هؤلاء وأولئك ، لم يكن علال ليخلف لهم موعدا في أنشطتهم وروابطهم ومنتدياتهم الدولية، فقد كانوا يرون فيه مرجعا كبيرا تاريخيا للامة الإسلامية، ويجمعون في قناعاتهم على أنه هو المؤهل المفرد لقيادة وتأسيس الحركة الإسلامية بالمغرب، ويناشدونه الاضطلاع بهذه المهمة النبيلة، لإنقاذ البلاد التي كانت تنزلق نحو هاوية الفكر المعادي للاسلام، المناوئ للدين والتدين، ولتخليص الشباب من براثن التيارات الهدامة.
غير أن علال كان يرى في التزامه السياسي بقيادة حزب الاستقلال، عائقا ذاتيا، يمانعه من النهوض بهذه المسؤولية، والتي كان مؤمنا بضرورتها حتى النخاع، على أنه لم يتردد في أخذ المبادرة المتجلية في تفجير ينابيع الحركة الإسلامية من صخرة قاعدة المجتمع، عندما عمد إلى طبع ونشر كتاب “معالم في الطريق” للشهيد سيد قطب ، سنة 1966، ومباشرة بعد تنفيذ حكم الإعدام فيه، في سابقة هي الأولى، استبق بها المغرب غيره من الأقطار في العالم.
فلم يكن ليفعل، كما ذهب عموم المراقبين ، أنه فعل ذلك نصرة لمظلومية الشهيد سيد قطب، الذي كان صديقا حميما له، وإنما كان علال الفاسي يتقصد متعمدا أن يتفاعل كتاب المعالم مع عقول الشباب، فيكون بمثابة الكيمياء التي تفجر بمفعولها صخر العجز والجمود والهزيمة الفكرية، وبالفعل فقد كانت المبادرة ناجحة الأثر، وناجعة النفاذ، إذ كان كتاب المعالم، بمثابة الإنجيل المقدس لشباب الحركة الإسلامية ، في كل أقطار العالم العربي والإسلامي، ونبراسا هاديا استنارت به قطاعات واسعة من شبيبة الأمة الإسلامية، وتمددت من خلاله رقعة العمل الإسلامي.
وقد كان علال الفاسي يرى ببعد نظره الثاقب أن كتاب المعالم الذي كان سبب استشهاد مؤلفه سيد قطب، لا يضاهيه كتاب في إلهاب الحماس الديني لدى الشباب، وفي غرس البعد الحركي التنظيمي في ثقافة العاملين في حقل الدعوة الإسلامية.
وفي المغرب تلقف المعالم بعض من الشباب، في بعض من المدن المغربية، وتشكلت بعض الأنوية حول الكتاب لمدارسته ، واسترفاد الحمية الدينية من معانيه، غير أن هذا التفاعل بقي محدود الأثر، لعدم اكتمال شروط الوعي القيادي الحركي في نفوس أصحابه، إلى أن حانت ساعة الحسم في رسم مصير المغرب، الذي كانت المخططات العالمية الجهنمية تريد له اللحاق بالمعسكر الشيوعي، لكن كتاب المعالم الذي طبعه علال فعل فعلته في خلاص المغرب المترنح المتأرجح.
كان سر ذلك القدر الإلهي، مثل سر البذرة النواة التي تنغمر بعيدا في أحشاء ظلمة الثرى، فتتخلق جذورها ضاربة بعيدة ، ثم تنبجس من فوق صخور الأرض، نبتة يانعة خضرة، فتستوي جذعا قويما ، فشجرة باسقة الأغصان، وارفة الظلال طيبة الثمار، وهو ذلك السر العجيب الذي عجل بميلاد الحركة الإسلامية، بالتقاء رجلين كانا يبحثان عن بعضهما ، ويبحثان عن ميلاد فجر جديد، الأول هو علال الفاسي، بعد عودته صيف سنة 1968 من مؤتمر الطلبة المسلمين، والذي كان قد حضره كبار قادة الحركة الإسلامية، ومنهم الدكتور حسن الترابي ، وقد عاد علال منه أكثر تصميما على توليد الحركة الإسلامية بالمغرب، وكان الرجل الثاني، هو عبد الكريم مطيع ، اليساري الاتحادي الذي ألقى بأسمال الماضي الاتحادي في قمامة التاريخ، واستبدلها باللبوس الإسلامي الوضيء، فكرا وعقيدة وإرادة.
وقد كان صلة الوصل بين الرجلين، النقابي الاستقلالي، عبد الرحمان الحريشي الذي كان صديقا لمطيع، وكان يعلم هم علال الفاسي في البحث عن رجل فذ، يكون دينامو الحركة الجديدة، وكان الحريشي مطلعا على التحول والهوى الجديد لصديقه مطيع، فالتقى العلمان على أمر قد قدر، في بحر سنتي 1968ـ1969، لقاءا تاريخيا، اكتشف من خلاله مطيع قارة العمل الإسلامي، وخارطة الحركة الإسلامية في العالم بمفكريها ورجالاتها وقادتها ومؤسساتها، بمن فيهم كبار مراجع الإخوان المسلمين الذين توثقت علاقتهم بالرجل ، عبر قناة علال الفاسي وتزكيته وتقديمه وتعضيده، واكتشف مقومات الفكر الحركي الإسلامي وأساليب العمل الإسلامي المتبعة لدى التنظيمات الإسلامية.
ومنذ تلك المحطة التاريخية وإلى غاية يوم سفر علال الفاسي شهر ماي 1974، في جولة عالمية من أجل الدفاع عن القضية الوطنية ، قضية استرجاع الصحراء، لم تنقطع العلاقات بين الرجلين ، والجلسات المطولة في بيت علال والممتدة إلى ساعات الفجر، والتي كان يحضرها الشيخ ابراهيم كمال، الأب الروحي للشبيبة الإسلامية.
وحرصا على سرية العلاقة واللقاءات، من أن ينالها كيد الأعداء المتربصين، أو أن يجهضها غضب الرافضين من داخل حزب الاستقلال للتوجه الدعوي الجديد لعلال الفاسي، فقد كان البواب يدخل على علال رجلا يتسمى باسم عبد الإله الراشيدي، والذي لم يكن سوى عبد الكريم مطيع مرفوقا بنائبه ابراهيم كمال، وكانت آخر الجلسات بين الرجال الثلاثة ، في المقر المركزي لحزب الاستقلال بالدارالبيضاء، يوم سفره الأخير خارج البلاد، عندما حرص علال على أن يكون مطيع وكمال من آخر المودعين له، في لقاء حميمي مغلق مؤثر وحزين، أعرب من خلاله علال الفاسي في صدقية بليغة مثيرة عن وعده الصميم القوي بأنه سيكون له شأن عظيم غير مسبوق ، مع الشبيبة الإسلامية، وأنه سيتفرغ لدعمها ذاتيا وماديا ومعنويا وإعلاميا، وكأنه كان يوصيهما بالشبيبة الإسلامية الوصية الأخيرة.
ذلك الوعد الذي كان بعض خويصة خاصة علال الفاسي، يعرفونه في هم الرجل ويفسرونه بانتظار قرار استثنائي بصدده، والذي لم يكن ليفك شيفرته سوى صديقه الحميم ومستودع أسراره ، الذي كان يجالسه يوميا، الدكتور بهاء الدين الأميري، والذي كان من كبار رجالات الإخوان المسلمين المستقرين بالمغرب، وكان يعلم أن علال على أهبة اعتزاله العمل السياسي كقائد لحزب الاستقلال ، لاستخلاف غيره ، كي يتفرغ للعمل الدعوي الإسلامي وتربية الشباب، وأن هذا القرار ضمنه في قصيدة شعرية طويلة، وعد علال صديقه الأميري بنشرها بعد عودته، وقد كان من عادتهما أن يقرضا بعضهما الشعر في جلسات قبل غروب الشمس ، في مكان يروق لهما عند شاطئ الهرهورة، غير أن القدر الإلهي كان أسبق، فاختفت القصيدة باختفاء صاحبها، بعد محاولات يائسة من الأميري لحيازتها.
في وصيته الأخيرة، قبل وفاته بقليل، والتي استودعها رفيقي رحلته، خليفته امحمد بوستة ، وعبد الحفيظ القادري، أوصى علال الفاسي بعدم ترك الملك الحسن الثاني وحده معزولا عن الوطنيين، مهما كان عدم التفاهم معه، ومهما كانت ردود فعله، وأوصى بجمع شمل الوطنيين ، مهما كان الخلاف بينهم، فقد كان يستشعر خطورة المؤامرة الاستعمارية الجديدة في تفتيت عرى العلاقة بين الملك والحركة الوطنية، وفي استباحة عقول الأجيال بثقافة اقتلاع المغرب من جذوره وهويته، واستلاب قلوب الناشئة بأفكار انتزاع الولاء للدين والوطن، وأن التصدي لهذه المؤامرة يستلزم المواجهة بالجبهة الوطنية الواحدة، وإذن فقد كان المرحوم علال الفاسي مسكونا بالهم العظيم، هم التفرغ للعمل الاسلامي، على شاكلة لحظة البدء بالعمل الوطني، إحباطا لمؤامرة سلخ الشباب عن عقيدة الأمة الدينية والوطنية.
برحيل سي علال رزئت البلاد في زعيمها وعلمها الفذ، ورزئت الحركة الإسلامية، راعيا لها وطنيا، ورائدا لها عالميا، وخسرت الشبيبة الاسلامية كنفا حادبا وموجها، وحضنا حاضنا لها في السر والخفاء، كان يعدها بالدعم الكبير بعد العودة ، وبأن يكون ظهيرا لها، مظاهرا على إسنادها ومجاهرا به في العلن .
والآن، وقد ورث حزب الاستقلال الوعاء الرمزي للزعيم علال الفاسي، وورث حزب العدالة والتنمية، بميراثه للشبيبة الإسلامية، مهجة فؤاد الزعيم، ورث الوعاء القيمي ، والرصيد الفكري والحركي للرائد الإسلامي الكبير ، ألا يصطلحان على حقيقة تفرعهما من الشجرة الواحدة، وهلا استفاقا على وميض السر اللاهب، سر الانتساب إلى السلالة الواحدة ؟؟.