يطلق السائق إنذارا أخيرا.. ويكرر بصرامة على مسامع الركاب بأنه سيكون من سابع المستحيلات أن يتحرك القطار وأبوابه مفتوحة.
لكنهم ولسوء حظه لا يفهمون أبدا، كيف يمكنهم تحمل ضيق العربات وحرارة الطقس من دون مكيفات هواء تخفف عنهم عبء الرحلة من العاصمة تونس حتى محافظة باجة في الشمال الشرقي للبلاد، أو حتى من دون السماح لهم في أدنى الاحوال ببعض الاوكسجين الطبيعي والمجاني، الذي قد يتسرب من النوافذ والأبواب بفعل حركة القطار. ورغم الإنذار والتهديد فقد أصروا في ذلك اليوم القائظ من أول أسبوع من مايو، على أن تظل الابواب مشرعة ويتعطل غلقها الاوتوماتيكي بحثا عن بعض الطراوة في الخارج.
تصلب الطرفين وفشل الجهود في إثناء قائد القطار عن قراره، جعل المسافرين يلجأون في الأخير إلى طريقة غريبة للتعبير عن غضبهم، وهي النزول من «علب السردين» التي دخلوها والتوجه فورا صوب أربعة قطارات اخرى كانت تستعد للانطلاق إلى الضواحي لمنعها من الخروج إلى وجهاتها، والوقوف حواجز بشرية أمامها احتجاجا على ما اعتبروه مسا بكرامتهم وآدميتهم. وبحسب ما نقله موقع «الشروق اون لاين» فقد طالبت ادارة شركة السكك الحديدية «وحدات الأمن بضرورة التدخل لوقف أي مواجهات بين المسافرين، خاصة بعد أن رفع عدد من الغاضبين شعارات جهوية».
ليس معروفا ما جرى بعد ذلك في محطة القطارات المركزية، وهل تحرك القطار وانصاع المسافرون للأمر الواقع، أم قبل السائق حكم الأغلبية، حتى إن كان جائرا ومخالفا للوائح والقوانين؟ لكن حوادث مماثلة صارت تتكرر بشكل لافت هذه الايام حتى داخل المطارات، فبعد أن رفض قائد طائرة تونسية متجهة إلى باريس وجود مضيفة محجبة على متن الرحلة، وأصر على ألا تدور المحركات الا في حال نزولها واستبدالها بأخرى لا تضع حجابا. كما تعطلت رحلتان إلى لندن ومدريد بسبب إخلال شركة تموين بتعهداتها باحضار الوجبات الغذائية للمسافرين والطاقم، وتمسك الملاحان بضرورة جلب تلك الوجبات قبل الاقلاع. رد المكلفة بالاعلام في شركة الطيران التونسية كان بتصريح مقتضب قالت فيه بأن «التأخير ممكن وقد يحصل في كل مطارات العالم… وأن الشركة تعتذر للركاب على تأخر رحلتهم وتتفهم غضبهم، وتسعى لإيجاد حل لازمة شركة التموين التي توقفت عن العمل». هل وصل اعتذارها المسافرين وهل قبلوه؟ وهل فهموا أن التأخير في موعد الرحلة ليس استثناء عربيا، أو تونسيا، بل يمكن أن يحصل في أي بقعة من العالم، وأنه خارج عن نطاق شركة الطيران، ولا يد لها فيه مثلما قالت لهم مسؤولة الإعلام؟
لن يكون مهما إن كانوا قد اقتنعوا بالتبرير المقدم، أم لا.. فلا خيار لهم في النهاية سوى مزيد من الصبر والسلوان، والسبب واضح وهو أن النقابات التي لها اليد الطولى على الناقلة الوطنية وغيرها من المرافق العامة في تونس، لا تعبأ بتقصير العمال وتهاونهم، وترى أن انتقاد ادائهم مؤامرة شيطانية يقودها كبار الاباطرة واصحاب رؤوس الاموال، وتهدف في النهاية إلى تحقيق سيطرتهم عليها، من خلال ترويج الاكاذيب والدعايات المضللة حتى تنقاد إلى الافلاس وتصبح لقمة سائغة في متناول ايديهم. أما الادارة والسلطات فهي مشغولة كعادتها بإلقاء اللوم على مجهولين لا تملك الشجاعة أو الرغبة في كشف اسمائهم او هوياتهم. ولاجل ذلك فبعد الصبر لا يجد المرء في الغالب من حيلة أو خيار غضافي آخر سوى أن يلوذ بالصمت المر ويرقب من بعيد حالة اللامبالاة وتبادل التهم بالتقصير والمسؤولية، أو أن يفقد اعصابه ومداركه العقلية ويصاب بامراض القلب والشرايين بعد أن يمل من الصراخ في واد سحيق ومهجور لا تحدث صرخاته أثرا أو وقعا على آذان اصيبت بصمم وجودي حاد ومزمن.
يعرف الجميع في تونس أصل العلة ودواءها، لكن لا احد باستطاعته كشف حقيقة قد تصدم البعض وقد تثير قلق ورعب الآخر. لذا فالكل يستمر في لعبته المفضلة بالتخفي وتأجيل ساعة المواجهة المكشوفة والصريحة، مع واقع بالغ الصعوبة والتعقيد. أما الماسكون بالسلطة فينتظرون في الغالب فرصة قد تأتي ببالون اختبار تطلقه الصحافة من بعيد، وتعبد به طريقا قد يسلكونها في المستقبل، بعد التحقق التام من سلامتها على مصيرهم ومصير مواقعهم. وما يشغل الصحافة المحلية هذه الايام معروف وهو ملف الثروات الوطنية التي صارت مهددة بالضياع التام. فهل باستطاعة تونس أن تتحمل البقاء بلا ثروات؟ وكيف يمكنها العيش اذا ما نفدت الاموال التي اقترضتها وعجزت عن مزيد الاقتراض؟
لقد قبلت الحكومة وتحت ضغط النقابات زيادة في أجور الموظفين بالقطاع العام بلغت قيمتها أكثر من خمسمئة مليون دينار، ووصفها وزير المالية الاسبق حسين الديماسي بالنكبة، لكن ذلك لم يمنع من تواصل الاضرابات والاعتصامات بشكل يومي لا يستثني مرفقا او مصلحة أو يراعي ظرفا أو حاجة. لكن أن يصل الأمر حد الاعلان عن توقف كامل للانتاج في معمل الحامض الفوسفوري، بسبب نفاد مخزون الفوسفات فتلك هي الكارثة الأقسى والأشد على الاقتصاد. أما الحل الذي حملته صحيفة «الشروق» المحلية إلى التونسيين فهو إشراف المؤسسة العسكرية على قطاع الطاقة والمناجم. الصحيفة قالت بأن «مقترح تعيين قيادات عسكرية من اصحاب الرتب العليا على رأس المؤسسات الوطنية الكبرى المشرفة على قطاعي الطاقة والمناجم، يأتي بالنظر إلى الظرف الاستثنائي الذي تعيش على وقعه البلاد، وفي انتظار سن تشريع منظم للقطاعين لتخليصهما من التجاذبات الخطيرة المحدقة بالبلاد التي باتت مهددة لاستقرارها وتواصل الدولة». وما يعنيه ذلك ببساطة هو انه يجب على التونسيين، إما الصمت وترك الشركة الحكومية التي تدير مناجم الفوسفات، ثم باقي الشركات الاجنبية الاخرى التي تعمل في قطاع البترول والغاز تواصل اقتسام الثروات وتستمر في فسادها المتوارث، أو انتظار سيطرة العسكر التي لن تعني إلا أمرا واحدا وهو، أنه لن يعود ممكنا حتى مجرد الحديث عن الموضوع خوفا على سمعة الجيش ومشاعره، وحتى لا تمس معنوياته وهو بصدد الحرب على الارهاب.
في الظاهر يبدو التلويح بسياسة القبضة الحديدية رغبة في عودة التزام وانضباط فقدا في معظم الإدارات والشركات، ولكنه ليس سوى قناع آخر يتخفى وراءه اللصوص لتأمين نهبهم بهدوء ومن دون شوشرة وصخب زائد. وتقدم الاحصائيات الرسمية مبررا كافيا ومقنعا لذلك، فانتاج الفوسفات نزل العام الماضي مثلما تقول إلى اربعة ملايين طن، بعد أن بلغ قبل خمسة أعوام فقط حوالي سبعة ملايين طن. وشركة السكك الحديدية تتكبد يوميا خسائر تقدر بمئتي ألف دينار، جراء تعطل نقل الفوسفات وحده، ولغة الارقام لا تنتهي أو تتوقف عند ذلك الحد. لكن من المتسبب في كل تلك الخسائر ومن المسؤول عنها؟ لم يفتح التحقيق بعد وقد لا تكون هناك حاجة بالفعل لفتحه، فقد أظهرت التجارب ألا جدوى من ذلك. ففي تحقيق سابق فتحته السلطات في أعقاب الانقطاع المفاجئ للتيار الكهربائي صيف العام الماضي عن معظم انحاء البلاد، وأعلنت نتائجه اوائل فبراير الماضي، قالت السلطات إن «صاعقة تسببت بفعل قوتها في قطع سلك كهربائي» وإنه «لا يمكن لاي بلد أن يكون بمأمن من مثل تلك الحوادث».
أغلق الملف نهائيا إذن ودخل الأرشيف مثل غيره من الملفات الثقيلة التي طمرت في الادراج أو دفنت تحت التراب، أو ببساطة أكلتها النيران. أما في حالات أخرى فقد عادت الحكومة إلى أسلوب القرابين المعتاد بالتضحية ببعض المسؤولين الصغار الذين حان أوان التخلص منهم وعزلهم، في أعقاب ما تطلق عليه وسائل الاعلام الرسمية زيارات فجائية للوزراء.
لقد وصف الرئيس التونسي في حديث تلفزيوني نادر، بث في الايام الاخيرة، من يروجون لإمكانية حصول ثورة اجتماعية ثانية في البلاد، بالحالمين. وقال زعيم الجبهة الشعبية اليسارية بالمقابل في تصريح لصحيفة «الصباح» اليومية بأنه «لو اقدمت حكومة الصيد على إصلاحات مؤلمة فسنسقطها بالشارع». وبين الاثنين أي الماسكين بالسلطة والمعارضين لها لا أحد يملك جوابا دقيقا عن السؤال الاهم وهو لماذا لا يسأل المسؤولون الحقيقيون حتى الان في تونس؟ هل خوفا منهم ومن نفوذهم أم طمعا فيهم وفي عطاياهم؟ أما خارج دائرة السياسة فلا يبدو أن التونسيين يهتمون اصلا للسؤال، فهم يواصلون ركوب القطارات والطائرات وأكل لحوم الحمير، وشراء السلع الفاسدة والعمل لثماني دقائق في اليوم مثلما تقول بعض الارقام، ولا وقت لهم بعد كل ذلك لا لسؤال ولا لجواب.
٭ كاتب وصحافي من تونس/”القدس العربي”