تخوض القوى والأحزاب والتمثيلات المدنية الجزائرية جدلاً، منذ أيام، بشأن مطلب اعتبار الأمازيغية لغةً رسمية في البلاد، في تعديلاتٍ مقترحةٍ على الدستور، يجري نقاش سياسي واجتماعي بشأنها، ما يعني استخدام الإدارة والحكومة لها، بعد أَن صارت لغة وطنية في الدستور الساري الذي أقر في العام 2002. ومع التسليم بأن الجدل جزائري محض في تفاصيله، إلا أنه يمكن الزعم أنه ما كان ليندلع لولا السياق العربي العام، والذي من تلاوينه الظاهرة هذه اليقظة النشطة للهويات في التكوينات الإثنية في الدولة العربية الراهنة، ما يكشف عن فشل ثقافي وسياسي واجتماعي مريع، تعبر إليه هذه الدولة، في غضون إخفاقاتها المعلومة، وهي تقوم على الاستبداد والتسلّط والقهر. ولكن، يحسن التحديق في الطابع الخاص للمسألة، على مستوى القلق الهوياتي الذي ما زال يهيمن في الجزائر، ويعبّر عن نفسه في توترات مناطقية وجهوية، وإنْ غلب الحضور الأمازيغي فيها. وهذه المطالب المستجدة بترقية اللغة الأمازيغية من وطنية إلى رسمية، تأتي في غضون الاحتفال بما سمي “الربيع الأمازيغي”، والذي استجدّت ذكراه الخامسة والثلاثين، في العشرين من إبريل/ نيسان الجاري. والمعلوم أن ذلك الربيع اندلع عندما ارتكبت السلطة حماقة منع الكاتب الجزائري (الأمازيغي) مولود معمري، من إلقاء محاضرة في تيزي أوزو، وهي الحادثة التي أشعلت إضرابات وسقوط قتلى في مواجهات غابت عنها الحكمة.
إذ تُستدعى تلك الواقعة هذه الأيام، ويستحضرها الجزائريون الأمازيغ (10 ملايين من نحو 38 مليوناً)، فذلك يعني أن النزوع إلى تظهير النزوع الهوياتي يتعاظم، ولا يكتفي بنص دستوري يحقق للغة الأمازيغية صفة وطنية، وإنما يطمح إلى أن تكون لغة رسمية ثانية، بعد العربية، في المجال الرسمي الحكومي والإداري. وإذ يجد المراقب للمسألة كلها وجاهة مسوّغة للداعين إلى الأخذ بترسيم هذه اللغة، باعتبارها من المكونات الوطنية للشعب، فإن ثمة وجاهة متحققة في منطق رافضي هذا الأمر، ولا سيما تخوفهم من أن يصبح “الحق اللغوي”، بتعبير مستخدم هناك، مظلة لتحقيق الحكم الذاتي باتجاه الانفصال في المدى البعيد. ونقرأ، نحن المشارقة، وجهات النظر المتباينة في الجزائر لمناصري ترسيم اللغة الأمازيغية وخصوم الفكرة، فيغشانا شيء من القلق، لأن ما بين ظهرانينا من أزمات وقضايا مقلقة ومرعبة ومخيفة، عناوينها الطائفية المتعصبة والعشائرية المغلقة والمذهبية المتخلفة، وغير ذلك من أمراض صرنا نتعاطى مع تفشيها باعتبارها حقائق ومسلّمات، كل هذه تجعلنا نتطيّر من هذا الحادث هناك، في الجزائر التي نحب، والباقية في مطرح بهيٍ في الوجدان العربي الموحّد، وطناً وشعباً وتجربة في المقاومة والبطولة.
لا يغيب عن مداركنا، ونحن نقرأ هذا الجدل الجزائري الذي ذكرت الأخبار أن السلطة لم تشارك فيه بعد، وتكتفي بمراقبته حتى الآن، أن المفكر المغربي الكبير، محمد عابد الجابري، من أرومة أمازيغية، وكان يقول إن اللغة الأمازيغية ميتة. ولا يغيب عن خواطرنا أيضاً أن “الظهير البربري”، أي المرسوم الذي أصدره الاحتلال الفرنسي في المغرب في 1930، وكان يروم تفرقة بين الأمازيغ والعرب، تصدى له المغاربة موحدين، أمازيغ وعرب. لعلّها نوستالجيا جريحة وعاطفية تأخذنا إلى ذلك الزمان البعيد، أيام كان للعروبة محتوى ثقافياً، لا محمولاً تستخدمه أحزاب مستبدّة، وسلطات فاجرة في توظيفها العواطف الشعبوية، كما حزب البعث في سورية والعراق. لم يجرب إخوتنا المغاربيون، في تونس والجزائر والمغرب، هذه الأصناف من العبث والتسلّط، وتلك العروبة الفوقية الباغية، ولكن، لديهم في مجتمعاتهم إشكالاتهم التي لا مجازفة في تخمين أن نجاحاً محموداً تم بشأن معالجاتها، في مواضع ومطارح معينة، كما المعالجات الشجاعة في المغرب بشأن المسألة الأمازيغية، وساهم فيها المجتمع المدني والحقل الثقافي، كما السلطة السياسية، غير أن شيئاً آخر يجري في الجزائر، نظنه مقلقاً، والآمال باقية بأن لا يصبح مخيفاً، حمى الله الجزائر وأهلها.
* كاتب وصحفي من الأردن /”العربي الجديد”