موائد الجنائز، كالأفراح، تتحلق حولها الأصناف والأنواع البشرية، ما يذكر بتنوع المجتمع وغرابة الناس وطرافتهم أيضا. على مائدة إحدى الجنائز وبعد تلاوات قرآنية، وأدوار من كؤوس الشاي، وبعض الهمسات الخافتة هنا وهناك. تنزل أطباق الكسكس باللحم فتنفتح شهية الأكل والكلام. لقمة واحدة تتداخل معها عشرات الكلمات حول شتى المواضيع ومن كل الأجناس.
لا تخلو هذه المجالس من شخصيات تجمع الفكاهة والظرف، إلى جانب فهم خاص للظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. شخصيات تعطي للجلسة نكهة خاصة، ولا يهم المناسبة فرح أم قرح. منهم صاحبنا الذي لم يكن صحفيا ولا كاتبا مهتما، ولا حتى متخرجا أو دارسا بأحد المعاهد أو الجامعات. إنه من عامة الشعب يشتغل بيوميته، وقانع بقسمته ومثابر في عمله.
قال مبتدئا حديثه الثري، إن الغش يا سادة يتلون حسب الفصول. واسترسل قائلا، ألم تسمعوا أن الحكومة ألقت القبض على المطاحن الكبرى متلبسة بالغش في الدقيق الذي نخبز ونلوك في أفواهنا، والعبث بمعايير السلامة والصحة العامة؟
سألناه وماذا فعلت الحكومة المصونة؟ أجاب بنبرة متهكمة، أصدرت بيانا ناريا إنذاريا. وأضاف، بعد أن بلع ما طحنته أضراسه، وقريبا سترفع المطاحن دعوى ضد الوزارة الوصية، بتهمة إزعاجها السلطات.
إن الغش يغير جلده باستمرار، ولا يفتر عن دعوة المستجدين في مجال الرشوة والابتزاز إلى اللحاق بركبه. ودائما ما تكون ضربته ساحقة ماحقة لكل جميل وأصيل في حياتنا. لكن الغريب أن حكومة غالبيتها ملتحية، وتقول، مرارا، إنها جاءت رافعة سيف العدل ضد الفساد والمفسدين، لا تفلح سوى في صياغة البلاغات والتكهنات.
سألناه، ألم تهنئ الحكومة بزواج وزير ووزيرة لأول مرة في تاريخ الحكومات المغربية. أجاب بحذق أنا لا أخوض في خصوصيات الناس.
قلنا ولكن هذه ليست خصوصيات الناس. الشوباني وسمية بنخلدون من الشخصيات العامة، ومن الجائز والمطلوب أيضا الخوض في سيرتهما من هذا المنطلق. فهما معا ينتميان لحزب يدعو إلى إعمال الأخلاق ومحاربة الفساد وحماية المال العام والرفق بالإنسان. هكذا يسوّق لنفسه قبل وبعد الانتخابات.
نعم أعرف واستدرك قائلا: الغريب أنني سمعت الوزير الشوباني، يقول إن الخوض في الحياة الخاصة للناس مهما كانت شخصيتهم عمومية ومهما حَسُنَت النيات، لا يسلم من الوقوع في المحظور القانوني والأخلاقي. لكن أين المشكلة إذا تحدث الناس عن زواج وزيرين، وما هو المحظور الأخلاقي والقانوني هنا. فالحكومة تتحدث كثيرا وتعمل قليلا، ولا أحد يحاسبها سوى بكلام الجرائد، وعنتريات المعارضة. وما الضير في أن يتحدث الناس، فالكل يطلق لسانه بمناسبة وبغير مناسبة. أطلق كلامه مرة واحدة، ثم استمر في دفع اللقمة تلو الأخرى. فهو عادة ما يأكل ويتكلم ويفكر. سأل دون توجيه السؤال لأحد. أليس في كلام الوزير في حكومة بن كيران شيء من الرشوة المتوقعة.
ودون أن يسمع إجابتنا حول كيف ذلك؟ استرسل صاحبنا يغرد. رأينا وزراء وبرلمانيون ينشرون صورهم على صفحات الجرائد وحوائط الفيسبوك، منتشين وهم يأكلون في المطاعم الشعبية مع عامة الناس، أو يتسوقون مع البسطاء، أو يتصدقون على بعض المحتاجين، إلى آخر تلك المسرحيات الشعبوية. ألا يدعون الناس بهذا الأسلوب إلى مشاركتهم حياتهم الخاصة، لإثراء حياتهم العامة وزيادة رصيدهم الانتخابي؟
أليست تلك رشوة يعاقب عليها القانون الأخلاقي قبل الوضعي؟ إلا إذا كان في المسألة غرض آخر غير الذي نراه أمامنا.
نحن مع الوزير والوزيرة عندما يرفضان الابتزاز السياسي في هذا الموضوع. لكن ما يهمنا في المسألة هو الرقي بالممارسة السياسية إلى ما يهم المواطن. ويبقى السؤال المطروح، ماذا قدم هؤلاء الوزراء، والسياسيون من المعارضة والأغلبية على حد سواء لهذا الجيل من الشباب. جيل الإنترنت والتكنولوجيا المتطورة والسرعة المفرطة. هل هم مواكبون لتطلعات جيل يبحث عن قدوة ونموذج في الأخلاق والتربية والسياسة.
أجاب صاحبنا دون أن ينتظرنا: رغم كل هذه الامتيازات التي وهبها لنا هذا العصر. يبقى هذا الجيل من السياسيين يتصرف خارج سياقات العصر وتحديات ما يحيق بنا من مخاطر، بخطاباتهم وادعاءاتهم الطهرانية وإتقانهم سرقة الحقيقة من الكلمات المنطوقة والمكتوبة. فرغم أنه عصر المبتكرات والمستجدات إلا أنهم فاجئونا بأمراض مبتكرة في الذهنية والعقيدة والوجدان.
وأنهى صاحبنا أكله وكلامه بقوله، أعجبتني كلمات سمعتها في إحدى الجلسات، تنطبق على بعض هؤلاء السياسيين الذين انتفى فيهم الإحساس بمصلحة أبناء هذا البلد. تؤكد أنه لا توجد تحذيرات في المعركة، ولا يخضع كل الخصوم لقانون المحارب. والخلاصة هي أن يكون السياسي حذرا، دائما، ومتناغما، أبدا، مع مصلحة بلده، وإلا انهزم أمام حكم التاريخ والناس.
*كاتب مغربي/”العرب”