كثير من اللغط أثاره قرار تونس الأخير إعادة تمثيلها الدبلوماسي مع النظام السوري والترحيب بعودة سفيره إلى العاصمة التونسية. البعض هلل له معتبرا إياه «إستعادة للقرار الوطني»، على أساس أن قرار القطع كان أصلا بإيعاز خارجي، والبعض الآخر إستاء منه واصفا إياه بــ «الإنتكاسة» الأخلاقية والسياسية من قبل البلد الذي منه إنطلقت موجة المطالبات بالحرية وإنهاء عهود الاستبداد في بلادنا العربية.
وبعيدا عن محاججة هؤلاء أو أولئك، فإن القرار كشف عن إرباك جديد وقعت فيه الدبلوماسية التونسية التي عرفت بعد الثورة ستة وزراء خارجية كان أكثرهم إثارة للجدل أولهم أحمد لونيس الدبلوماسي السابق، ثم رفيق عبد السلام القيادي في حركة «النهضة» الإسلامية، وهاهو يلحق بهما الآن الطيب البكوش القيادي في حزب «نداء تونس» وصاحب التاريخ النقابي واليساري. وإلى جانب هؤلاء الثلاثة، عمل ثلاثة آخرون بصمت وبكثير من التحفظ هم محمد المولدي الكافي وعثمان الجرندي والمنجي الحامدي ولذلك لم يثر عملهم أية تعليقات صارخة لا بالمعنى الإيجابي ولا السلبي.
من الصعب جدا أن ينجح وزير خارجية مؤدلج، ولا يهم هنا أن يكون إلى اليمين أو اليسار، كما من الصعب أن ينجح الوزير إن كان فقط صاحب خبرة دبلوماسية دون أي أفق سياسي أو تصور عام يقود سياسة البلاد الخارجية. وليس سرا أو تجنيا على أحد القول اليوم إن تونس ما بعد الإطاحة بالدكتاتورية لم تعثر بعد على الشخصية القادرة أن تشكل واجهة دبلوماسية نشيطة ولبقة وقادرة على إعطاء البلاد إشعاعا خارجيا مناسبا، فتونس الصغيرة كانت لسنوات طويلة صاحبة دبلوماسية نشيطة تفوق حجمها لكنها لم تعد كذلك لا سيما في هذه السنوات الأخيرة ليس فقط لأن الوضع الداخلي كان الشغل الشاغل للجميع ولكن أيضا لأن المنصب لم يعثر بعد على رجله المناسب.
كان مفهوما تراجع دور الدبلوماسية التونسية في عهد زين العابدين بن علي لاعتبارات عديدة أولها طبيعة الوزراء المطيعين الذين كان يختارهم الرجل وتورط وزارة الخارجية وبعثاتها في الخارج في الدفاع عن الممارسات الاستبدادية للنظام ومحاولة تلميع ما لا يمكن تلميعه. توجه ترافق كذلك مع إعطاء بعد مخابراتي واضح لأغلب الدبلوماسيين التونسيين في الخارج الذين بات همهم الرئيسي مراقبة التونسيين في الخارج وأنشطتهم المعارضة أكثر من أي شيء آخر. وفي عهد بن علي كذلك، كان وزير الخارجية صاحب شخصية باهتة ولغة متكلسة زادت من عزلة النظام شرقا وغربا حتى أطيح به.
أما في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة زعيم الحركة الوطنية وباني تونس الحديثة فقد كان للخارجية دور كبير يتجاوز في معظم الأوقات حجم البلد نفسه ولعله ليس من الصدفة أن الكثيرين يتذكرون إلى الآن، رغم مرور السنين، أسماء وزراء خارجية عملوا مع بورقيبة من أمثال المنجي سليم وبورقيبة الإبن ومحمد المصمودي والباجي قائد السبسي وحتى الهادي المبروك الذي كان آخر وزير خارجية لبورقيبة قبل الإطاحة به عام 1987 مع أنه لم يبق في منصبه سوى عام واحد. كان بورقيبة هو المهندس الحقيقي للسياسة الخارجية لكنه كان يترك لوزيره ضمن هذا الإطار هامشا لا بأس به وإلى حد كبير ظلت ركائز هذه السياسة الخارجية معمولا بها مع بن علي، رغم تلك الهزات الكبرى التي حدثت في العلاقة مع دول الخليج العربية إبان اجتياح الكويت في آب/أغسطس 1990 والعلاقة مع فرنسا بسبب ملف انتهاكات حقوق الإنسان.
وبالعودة إلى قرار تونس الأخير الخاص بإعادة العلاقات مع سوريا فهو لم يتوقف عند ترحيب قسم من التونسيين به، تحديدا في أوساط يسارية وقومية ما زالت تؤيد بشار الأسد رغم كل ما حصل (!!)، واستهجان قسم آخر مع استغراب أو صدمة آخرين في الخارج، لكنه امتد إلى إثارة نوع من الإشكال الصامت بين رئيس الجمهورية ووزير خارجيته حيث اضطر قائد السبسي إلى محاولة التخفيف من وطأة القرار وتعديل بعض أوجهه. ربما كان قطع العلاقات مع نظام الأسد قبل ثلاث سنوات قرارا غير مناسب، بالنظر إلى أن تونس تعودت تاريخيا على الاعتراف بالدول وليس بالأنظمة، فضلا عن أنه كان بالإمكان دعوة السفير أو تخفيض التمثيل كبادرة احتجاجية دون قطع العلاقات، خاصة مع وجود جالية تونسية لا بأس بها في سوريا. ومع ذلك، فإن قرار إعادة التمثيل الدبلوماسي بين البلدين، والأدهى الترحيب بعودة السفير السوري إلى تونس، في وقت يزداد تقتيله للسوريين وحشية، لا يمكن أن يكون إلا قرارا غريبا في أقل التقديرات، لا سيما مع تزامنه مع إثارة إشكال مجاني مع تركيا صديقة تونس على الدوام.
كل الرجاء الآن أنه مع انتهاء المرحلة الانتقالية ووجود حكومة مستقرة الآن في تونس، ألا يكون هذا القرار بداية لعثرات أخرى للدبلوماسية التونسية فالبلاد تحتاج البلاد اليوم إلى توفيقها ونجاحها أكثر من أي وقت آخر.
٭ كاتب تونسي/”القدس العربي”