كتبت قبل أيام مقالة حول الوحدة العربيَّة، تحت عنوان: “الوحدة العربيَّة ضرورة حتميَّة”، واليوم أود أن أردف ذلك المقال بمقالة بهذا العنوان: “الوحدة العربيَّة الفريضة الغائبة”. إي والله، بعد كل ما جرى ويجري في عالمنا العربي بدأت أدرك أنَّ الوحدة العربيَّة ضررة حتميَّة وفريضة غائبة، وواجب ديني، ومقصد شرعي، وغاية بحد ذاتها، لا يجوز التهاون بها بأي حال من الأحوال، إنِّي لأرى حرائق قادمة، تجري باتجاه العرب كافَّة دون استثناء ودون تمييز بين عربي وآخر، مسلم وغير مسلم، سني وشيعي، تكاد تلتهم الجميع، إنَّها تتنزل على أقاليمنا العربيَّة، وبيوتنا كما يتنزل المطر، ويصيب كلًا منا ما يصيبه من الصواعق، لا تستثني أحدًا، ولا تترك دارًا، ولا يحتمي منها ديار.
إنَّ من يظن من العرب أنَّه سينجو من تلك الفتن والحرائق بحنكته أو ما قد يسميها حكمته أو صداقاته أو علاقاته فإنَّه واهم واهم واهم، فلا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، إنَّ الذي يظن أنَّ هناك بلدًا واحدًا من بلدان العرب أو عاصمة واحدة سوف تنجو من المصير الذي صارت إليه بغداد ودمشق وصنعاء وغيرها فإنَّه لا يقل جهلًا وعماية عن ابن نوح -عليه السلام-، الذي توهم أنَّه يمكن أن ينجو من الطوفان، وقال: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ (هود:43)، فالفتن المحيطة بالعرب لا عاصم لأحد منها إلا الله، ومن لم يهلكه الطوفان فإنَّ الرذاذ والرطوبة والشهب كفيلة بتدميره، والقضاء عليه.
إنِّي أقول مثل ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يودع هذه الحياة حيث: “استيقظ النبيُّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآله وسلَّمَ) من النوم محمرًّا وجهُه يقول: (لا إله إلا اللهُ، ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترب، فتحَ اليومَ من ردمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه). وعقد سفيان تسعينَ أو مائةً، قيل: أنهلِك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثُر الخبثُ)”[1]، بقطع النظر عن كل ما قيل في يأجوج ومأجوج فإنَّ اسرائيل أخطر على العرب من يأجوج ومأجوج وأشد تدميرًا. لا يظنن أغنياء العرب أنَّ ما امتلكوه من بيوت أو قصور أو أسهم أو أموال أو شركات في كل بقاع الأرض سوف تحول بينهم وبين السقوط في الهاوية، فإنَّ ذلك كله لا يغني عنهم شيئًا.
لقد رأينا خلال الأسابيع الماضية كيف نزل سعر برميل البترول بين ليلة وفجرها ثمانين دولارًا، من مائة وخمسة وعشرين إلى خمسة وأربعين، وخبرنا الدورات الاقتصادية في أمريكا وأوروبا، وكيف تأكل المدخرات وتحيلها بين فترة وأخرى إلى مجرد أصفار بانهيار عملات أو أسهم أو بنوك أو أيَّة وسائل أخرى، إنَّنا في الزمن الذي يمسي الإنسان فيه غنيًا ويصبح فقيرًا، فما لم يعقل العرب ويدركوا أنَّ الغنى ليس بالمال وحده ولا بالمعادن النفيسة، ولكن بالإنسان، فيتجهوا للاستثمار بالإنسان العربي، وإنمائه، ونقل كل الخبرات الممكنة له وتعليمه وتربيته؛ وإلا فلن يكون إلا الطوفان.
إنَّنا في حاجة إلى أن يشعر أغنياؤنا أنَّ تفريطهم بالعراق وانضمامهم إلى خطة أعداء يجمعون بين العداوة والحماقة، لن يأتي إلا بالخسران، فأمثال هؤلاء جمعوا بين الجهل والغباء، وعمى القلوب وتفاهة العقول، فدمروا هذا البلد وجعلوه نهبًا مباحًا لأعدائه وأعدائهم، ولم يستبينوا النصح، ولا أظنهم قادرين على إدراكه والإحساس به لا في ضحى الغد ولا بعده، وفعلوا مثل ذلك في الشام، والآن يكرر الفعل في اليمن، وأشعر أنَّ كثيرًا من المتحكمين في الأمور في بلاد العرب لا يختلف موقفهم عن موقف الخليفة العباسي الأخير الذي ظل يردد: “بغداد تكفيني ولا يستكثرونها علي إن أنا تركت لهم الأطراف” فترك أطراف الدولة للمغول التتار، يفتكون بها، ويبتلعونها قطعة بعد أخرى، إلى أن وصلوا إلى قصره، لم يكن يسخوا على جنده، ولم يكن يقتني لهم صالح السلاح، بل كان يكنز الذهب في قصوره، ويحفر لها الخنادق ويضعها في صناديق، حتى وصل التتار إلى ما تحت قدمه وسلبوه كل شيء بعد أن سملوا عينيه، وعذبوه شر العذاب، وقتلوا أولاده، وانتهكوا عرضه بين يديه، ذلك مصير أولئك الغافلين الحالمين في النجاة وهم في عباب محيط هائج، موجه كأنَّه الجبال، لا يقوم لها أحد، ونار مشتعلة ملتهبة تنتقل من مكان لآخر بسرعة فائقة.
ماذا ننتظر لنشعر ولنسترد وعينا؟ أننتظر نفس المصير الذي صار إليه خليفة بغداد، ونردد معه وخلفه مقولته الفارغة: “بغداد تكفيني ولا يستكثرونها علي إن أنا تركت لهم الأطراف”، إنَّ هؤلاء يستكثرون على العربي الهواء الذي يتنفسه، والتراب الذي يسير عليه، والأسمال التي يرتديها، والله إنَّهم يستكثرون عليه حتى الفقر، وربما يستكثرون عليه الجهل، والمرض، ويتمنون لو وجدت أمراض أفتك من الأمراض التي تفتك به، وجهل أشد تدميرًا من الجهل الذي يتخبط فيه، وفقر أشد إيلامًا من الفقر الذي يتمرغ فيه؛ لما ترددوا في أن يدفعوه إلى تلك المضايق، لشدة حقدهم، إنَّهم يستكثرون أيَّة نعمة يرونها على عربي، مهما كان مواليًا لهم أو معاديًا. إنَّنا في حاجة إلى أن نتذكر وحدتنا، وأنَّها خشبة النجاة بالنسبة لنا، على طريقة الخنساء:
يُذَكّرُني طُلُوعُ الشمسِ صَخراً وأذكرُهُ لكلّ غُروبِ شَمْسِ
فما لم تكن الوحدة العربيَّة أمرًا نتذكره في الصباح وفي المساء، وفي الليل وفي النهار، ونحاول أن نعيد بناء الفاعليَّة في قلوبنا لتحقيقه، وتوفير الدافعيَّة التي تدفعنا إلى إعادة ذلك البناء المنهدم؛ فإنَّ النيران سوف تلتهم كل شيء، والطوفان لن بيقي على شيء، وليس هناك سيدنا نوح، ولا سفينة نوح –عليه السلام- التي يمكن أن تكون سفينة النجاة لأحد، فالكل غارقون والكل هالكون.
إنَّنا نتمنى أن تتجه مصر والسودان وليبيا بأسرع ما يمكن نحو اتحاد فدرالي، أو كونفدرالي، يهيئ لإقامة وحدة ولو بعد حين، ونتمنى على الدول المغاربيَّة: تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، أن تقيم فيما بينها اتحادًا كونفدراليًّا، وتهيئ نفسها بكل الوسائل للوصول إلى حالة وحدة، ولو بعد حين، ونتمنى على ما بقي من العراق وسوريا والأردن وفلسطين أن تقيم بينها اتحادًا كونفدراليًّا أو فدراليًّا تمهيدًا لوحدة. ودول مجلس التعاون تحتاج إلى أن تنتقل فورًا إلى حالة توحد فيما بينها، فلم يعد الأمر أمر مجرد تنسيق فوقي سطحي، بل لابد من اتخاذ كل ما يلزم إزالة العوائق أمام علائق تنتهي بوحدة، فلا مكانة للكيانات الصغيرة التي تحتمي بالغير في عالم اليوم، وإذا كانت الكيانات الكبرى والعملاقة اضطرت إلى التوحد تحت ضغط ظروف العصر فما بالنا نقف من وحدتنا موقف البلهاء، وأمامنا النماذج الكثيرة.
إنَّه لابد من ضم قطر مثل اليمن إلى مجلس التعاون، والدفاع عنها، وحمايتها من السقوط، وإعانة اليمنيين على أن يعيشوا بالمستوى الملائم، الذي يساعدهم على الولاء لأمتهم وإخوانهم، وكذلك الحال بالنسبة لبلدان أخرى، وأول الفرائض التي قد ترتقي إلى درجة فريضة الصلاة والصيام والزكاة والحج وترديد الشهادتين أن ترتبط هذه الكيانات كلها بأسرع ما يمكن بشبكة من المواصلات والاتصالات، التي تساعد في المستقبل على الإحساس بالفوائد، فوائد الوحدة وتجازو نفسيَّات الانفصال والتشرذم التي بنيت في العقول والقلوب عبر العصور، وبعد ذلك لابد من العمل على إيجاد تكافل وتضامن اقتصادي بين أغنياء العرب وفقرائهم، فمن العار أن نودع أموالنا في البنوك الأجنبيَّة في أمريكا وأوروبا وندفع بلداننا التي تحتاج ذلك المال إلى أن تقترضها بالفوائد المضاعفة، وهي أموال لفقيرنا حق معلوم فيها، لا يمكن تجاهله ولا يجوز تجاوزه.
إنَّ هناك أمورًا كثيرة لابد من البدء بها وعلى الفور، فهي لا تحتمل تأخير ولا تحتمل تأجيل، والنموذج الألماني والإسرائيلي من النماذج المتاحة التي يمكن دراستها، فأي يهودي أو صهيوني يصل إلى أرض فلسطين سرعان ما يقدم له العمل والهوية الجاهزة، والسكن، وما يساعده على التأقلم والانخراط في هذه البيئة الجديدة، فاتقوا الله أيُّها العرب في أنفسكم، ولا تجعلوا أنفسكم وقودًا لنار حامية، لا تبقي ولا تذر، أو طوفان مدمر لا عاصم لأحد منه.
اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.
* رئيس جامعة قرطبة سابقا ورئيس جامعة العلوم الإسلاميَّة والاجتماعيَّة سابقاً ورئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي سابقاً