تونس.. الحق أبلج والباطل لجلج!!!

لم يتردد معلقون كثيرون، توالوا على منابر إعلامية عربية وأجنبية، في معرض قراءات أولى للاعتداءات الإرهابية على قصر، باردو، في العاصمة التونسية؛ عن توجيه بعض اللوم للطبقة السياسية المتصدرة للمشهد. وصفوها بالضعف والهشاشة، والانشغال بتوافه الأمور،لا يحركها سوى هاجس التموقع في المناصب والاستفادة من الريع السياسي.
وسدد المحللون سهام نقدهم، في المقام الأول، نحو من يعتقد أنهم يشكلون الصف “الليبرالي العلماني” الذين تكتلوا اضطرارا في حزب ” نداء تونس” اذ سرعان ما انفرط عقدهم ودخلوا في خلافات ومزايدات عنترية غريبة، في توقيتها ومحتواها؛ أصابت بالدهشة والنفور من منحوهم الأغلبية وأودعوهم مسؤولية إخراج البلاد وتدبير شؤونها، لتخطي مرحلة انتقالية استغرقت أكثر من وقتها، دون ان تنتج بنيانا دستوريا مرصوصا سليم الأركان،لا تحكمه توافقات مصلحية وترضيات سادت بين بعض مكونات المجلس التأسيسي الذي كتب أعضاؤه دستور الجمهورية الثانية.
صحيح ان الوثيقة الأسمى، شكلت ثورة بالقياس الى السابق الذي شرعن الاستبداد؛ لكن استبدال نظام تحكمي منهار، بما يشبه “النمط البرلماني” كان خطوة اقل ما يقال عنها انها سابقة لأوانها بمسافة زمنية، وفي ظرف هو بامتياز، مضطرب وغير مستقر.
ولم يصمد فقهاء الدستور في تونس، أمام مزايدات السياسيين وتضارب أجنداتهم، فسكتوا عن التنبيه الى ثغرات القانون الأسمى للبلاد والوقوف على مكامن الضعف والخلل فيه، استعجالا منهم على ضرورة توديع “الوضع المؤقت” والاعتقاد بان التجربة والممارسة، ستحددان مكامن الضعف والقوة في الدستور الجديد، يمكن فيما بعد، اللجوء، وعند الاقتضاء، الى آلية تعديل الدستور.
والواقع انه لو لم ينتخب التونسيون رئيسا حكيما للجمهورية، يتمتع ببعد نظر ثاقب وتجربة سياسية مديدة، فضلا عن احترام وصيت في الداخل والخارج، لواجهت تونس، في ظل سواه، أزمات يصعب إيجاد حل لها بالاستناد الى الدستور الجديد وحده، ذلك ان بنوده لم تعبر عن الواقع السياسي في تعقيداته كما هي على الطبيعة، وليس كما يرسمها الخيال السياسي المريض.
وبينت التطورات اللاحقة، ان تونس، ليست ناضجة تماما ومستعدة في السياق الراهن، المتقلب إقليميا ودوليا، للقفز الى نظام برلماني كامل، بمواصفاته التقليدية، ما دامت الساحة السياسية تفتقد العشب والحدود المرسومة لممارسة اللعبة الديموقراطية، وفق قوانين وأعراف ثابتة.
صحيح ان محرري الدستور، حاولوا موقعة النص في الوسط، وجعلوه حكما بين الفرقاء الحاليين والقادمين، ضامنا للتوازن الممكن، بين القوى السياسية المتجاذبة، لردعها عن الشطط والنزوع نحو “التغول”.
وكان الرئيس المنتخب، قايد السبسي، في طليعة من تنبهوا الى المأزق الدستوري المحتمل الذي يمكن ان تنجر اليه البلاد، في حالة خلاف في تأويل البنود؛ لذلك سارع الى طمأنة الشعب، أثناء حملته الانتخابية، بان حزبه المنتصر في التشريعيات، لن يحتكر السلطة بمفرده، اذا ما قرر الناخبون وضع الثقة في شخصه وحمله الى قصر قرطاج. وكأنه، أي السبسي، يقول للشعب الأسلم ان تنتخبوني، فأنا اعرف بالمصاعب التي ستواجه البلاد، بدءا من تشكيل حكومة منسجمة وقوية الى سن القوانين والتشريعات التأسيسية؛ اذا ما تشبث كل طرف حرفيا بما يعتقدها حقوقا منصوصا عليها في الدستور.
كأنه أي السبسي، يقول بلسان فصيح : ان طبيعة الانتقال تفرض تبني ما يمكن تسميته بـ “الإجماع العاقل” ما يعني تنازل الفرقاء السياسيين عن كبريائهم، والاجتماعيين عن مطالبهم ان يكف الجميع عن ادعاء الحقيقة المطلقة.
ليس الانتقال السياسي، وصفة نظرية مجردة ً صالحة لكل زمان ومكان، مقطوعة الصلة بما يعتمل في الواقع، بقدر ما هو ذكاء الفاعلين السياسيين وصبرهم وتضحيتهم وتغليبهم مصلحة وسلامة الوطن على المدى الأقرب والأبعد.
وجاءت أحداث الأربعاء التي صنفها الرئيس قايد السبسي، بحق في مرتبة “الخيانة الكبرى” لتؤكد ان تونس ما زالت معرضة لتهديدات شتى، من الداخل والخارج، لم يعد مسموحا معها للمحترفين الحزبيين، ان يستمروا في العبث وجر البلاد الى الهاوية؛ باللجوء الى أساليب تحريض الشارع والحث على الاحتجاجات في أرجاء البلاد المهددة، والأخطر الإيحاء للفئات الشعبية المستضعفة، ان الحاكمين الجدد، خانوا ثورة الياسمين و انقلبوا على مبادئها.
وحسب هذا المنطق الكارثي، فلا بد من إرهاق النظام القائم بالإضرابات والاعتصامات المعطلة للإنتاج، ليترتب عنه، وضع ثوري شعبي مستديم، شبيه بذلك الذي يتوهمه الرئيس الانتقالي السابق منصف المرزرقي، من خلال دعوته الى “زحف الشعب”.
لقد تخلص التونسيون من الاستبداد وعبادة الفرد،ع بر انتفاضة سلمية اعتبرت نموذجا في خضم ما سمي “الربيع العربي” لكنهم أي أهل تونس، أفاقوا على حالة من الغليان والفوضى العارمة، لم يألفوها طيلة عقود، في ظل نظام الرئيس الأب الحبيب بورقيبة والضابط المتسلط، زين العابدين بن علي.
نعم، نجحت النخب والقوى الديموقراطية والفاعلين النقابيين، في إنقاذ البلاد من كماشة التطرف الديني والعبث اليساري العدمي، فوصلت، عبر مسار شاق، الى محطة الانتقال الديموقراطي.
ان الجريمة النكراء التي ارتكبت يوم الاربعاء، تؤكد ان الديموقراطية الفتية محفوفة بالمخاطر، وبالتالي فان الدور الأساسي للقوى الحية لم ينته بانتخاب برلمان ورئيس وتشكيل حكومة متمتعة بأغلبية توافقية مريحة، بل بات مطلوبا منها اكثر من اي وقت مضى، الالتفاف حول التجربة الوليدة وحمايتها من العابثين، من اليمين الديني المتزمت، واليسار الشعبوي الفوضوي.
لا بد من السير ببطء وثبات دون الزيغ عن طموحات الشعب التونسي في الاستقرار والعيش الكريم.
ليس الخيار سهلا، وسط الإكراهات، ولكن لا مفر من التشبث به، وإلا وجد كثير من الفاعلين المستهترين، أنفسهم ذات يوم أمام خيارات أصعب لا ينفع معها اللعب بالنار.
والمؤمل ان تكون الضارة القاسية التي أصابت تونس، نافعة لها وعبرة لنخبها السياسية والفكرية، لتتفق وتتحد وتتآزر فيما بينها دفاعا عن حق أبلج، ودرءا لباطل لجلج.

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *