تابعت باهتمام ما حدث في شرم الشيخ، وفرحت بأنَّه بالرغم من كل الظروف والتخويف من السفر إلى مصر من قبل أهم منافس للسياحة المصريَّة وهي السياحة الإسرائيليَّة، أن استطاعت مصر رغم كل ذلك أن تحتضن وتستضيف كل هذه الأعداد من الحكَّام وأصحاب الأموال، ومديري الشركات، ورؤسائها، لكنني لا أخفي أنَّ هناك طيفًا من الحزن قد سيطر عليَّ حين شعرت بأنَّه لو تكامل المال العربي مع البشر المصري والسوداني والفلسطيني واليماني والسوري واللبناني والمغربي والجزائري والليبي والموريتاني؛ لما احتجنا إلى كل هؤلاء الضيوف، إذ آنذاك يستطيع المال العربي بالأيدي العربيَّة والموارد البشريَّة العربيَّة أن يصل إلى مستوى تكاملي يؤدي إلى الكفاية، بل إلى الغنى على مستوى شعبنا العربي كله في سائر أقطاره، وقد يعود خيره على بلدان ودول أخرى في المنطقة، لكن من المؤسف أنَّنا لحد الآن لم نستطع أن نرتقي بالوعي إلى المستوى الذي يجعل الغني العربي يشعر بأنَّه لا حياة له ولا أمن ولا أمان بدون إخوانه وأبنائه من العرب الآخرين، الذين آتاهم الله بسطة في الموارد البشريَّة ولم تؤت بسطة في المعادن وما تختزنه الأرض في باطنها.
لو أنَّ هذه البلدان اتحدت وتكاملت في اقتصادها لكانت مصر اليوم والسودان والأردن وغيرها ربما في مستوى البلدان الصناعيَّة من حيث الإنتاج والقدرات والعمران والأخذ بوسائل التمدن، ومقاومة الجهل والفقر والمرض، وبناء ذاتها بالمستوى اللائق بها، إنَّ الأمر يحتاج إلى إرادة، إرادة شعبية ثم إرادة سياسيَّة.
لقد شاركت مرة في مؤتمر دافوس (Davos) الاقتصادي، ورأيت كيف استطاعت أسرة واحدة من رجل وامرأة وابنتهما أن يؤسسوا منصة للحوار الاقتصادي بين القوى الاقتصاديَّة والسياسيَّة العالميَّة، نعم هم ثلاثة، وقد نجحت دافوس (Davos) وصارت منبرًا عالميًّا ومظلة للتعارف والتبادل، يهرع لحضورها أبرز سياسي العالم واقتصاديُّوه ومن إليهم، سواء في سويسرا أو في الأماكن الفرعية التي بدأت دافوس (Davos) تتخذ منها منابر أخرى رديفة، وإنَّني أتمنى أن تصبح شرم الشيخ مثل دافوس (Davos) وأحسن، وأن تنعقد كل عام، وأن تستفيد منها مصر وغيرها، لكنني لا أظنني سوف أشعر بالسعادة إلا إذا رأيت بلاد أمتي العربيَّة كلها تفعل مثل ما فعلت ألمانيا الغربيَّة مع ألمانيا الشرقيَّة، حين انسجمت إرادة الشعب الألماني وإرادة قياداته السياسيَّة لتهدم جدار برلين وتدمج ألمانيا الشرقيَّة بألمانيا الغربيَّة، وتعلنهما دولة واحدة، مع أنَّ ألمانيا الغربيَّة كانت تدرك في تلك الفترة أنَّها سوف تضم الشطر الشرقي باقتصاد منهار هو والتراب واحد، وأنَّ العبء الاقتصادي سوف تتحمله ألمانيا الغربيَّة وحدها، وقبلت ألمانيا الغربيَّة التحدي، وآثرت الوحدة على المال وعلى الاقتصاد، والتحم الشعب الألماني من جديد، لتبرز عبقريَّة ألمانيا الاقتصاديَّة إضافة إلى السياسيَّة.
ماذا لو بدأنا خطوة الألف ميل، ونشرنا الوعي بالوحدة بين العرب كافَّة، وجعلنا شعوبنا وقادتنا يدركون تمامًا أنَّ الوحدة أو الموت، الوحدة أو الجوع، الوحدة أو الخوف، الوحدة أو المرض، الوحدة أو الفقر، الوحدة أو الطوفان، لو رفعنا الوعي، ولنقل إنَّ ذلك يمكن أن يتم إذا كثفت البرامج التعليميَّة والإعلاميَّة، وأخذت الوحدة موقعًا محوريًّا في برامج التعليم والإعلام، وبيان الفوائد التي تعود على العرب كافَّة من وحدتهم، على أن يسير معها زخم من الاتفاقات والإجراءات، خاصَّة في مجال تيسير التنقل، تنقل الأشخاص والمال، وتيسير التملك، والتخفيف من قيود الدخول والخروج، وإقامة شبكة من الطرق والمواصلات تمكِّن شعوبنا من أن تتداخل، ويمتزج كل منها بالآخر، ويدرك فوائد ذلك.
إنَّنا نحتاج إلى أن يربط بين السعوديَّة ومصر أكثر من جسر، وتعود المواصلات البريَّة لتربط بين العرب في أسيا وشمال أفريقيا والبلدان المغاربيَّة؛ لتبدأ عمليَّات الألفة بين شعوبنا والتهيؤ للتداخل تمهيدًا للوحدة وإيجاد فرص التكامل، والتعاون الاقتصادي بصفة خاصَّة، وكذلك نحتاج إلى إعادة تسيير سكة حديد الحجاز، وإلى طرق أخرى كثيرة بريَّة ونهريَّة وبحريَّة وسواها بين البلدان العربيَّة كافَّة؛ لأنَّ الذئب لا يأكل إلا من الغنم القاصية، لو حدث ذلك من قبل ولنقل حين تأسست الجامعة العربيَّة، ربما كانت فلسطين اليوم عربيَّة، ولما خسرناها، ولما خسرنا العراق ولا سوريا ولا ليبيا ولا سواها، ولما جاع عربي أو افتقر، أو استدان بالربا الفاحش من صندوق النقد الدولي، أو سواه، ولا أكلت أموالنا باضطرابات الدولار، واليورو والين وما إليها.
زرت مرة برلمان الجماعة الأوروبيَّة في ستراسبورغ بفرنسا فوجدت النواب يتحدثون باثنتي عشرة لغة، وزرتها مؤخرًا بعد أن بلغت خمس وعشرين دولة بخمس وعشرين لغة، ولم يحل اختلاف اللغات ولا المستويات ولا الجذور العرقيَّة بين الجماعة الأوربيَّة وبين الطموح إلى الوحدة.
يا قومنا إنَّ القرن الذي بدأ بتفريقنا في الحرب العالميَّة الأولى وجعلنا اثنتين وعشرين دولة عربيَّة يوشك على الانتهاء، وتجري الإعدادات لجعلنا الآن مائة، أو أكثر في ظل التجزئة والشرذمة التي تريدها لنا إسرائيل وحلفاؤها والمتضامنون معها، وما لم يبادر أهل الرأي والقادة ويسارعوا إلى العمل على توحيد العرب وجمع كلمتهم وإيجاد نوع من التكامل بين غنيهم وفقيرهم؛ فإنَّنا مقبلون على مزيد من التشرذم والتفرق لا سمح الله.
فهل من معتبر؟.
* رئيس جامعة قرطبة سابقا ورئيس جامعة العلوم الإسلاميَّة والاجتماعيَّة سابقاً ورئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي سابقاً