بين صورتين تتأرجح تونس اليوم. واحدة ملتقطة عن بُعد وتسمى بالصورة الكبرى وبها الملامح الأساسية للمشهد، أما الثانية فمأخوذة عن قُرْب وفيها تفاصيل عديدة تعجز العدسة عن رصدها من المسافات البعيدة.
الصورة الكبرى: بلد منه انطلقت موجة الغضب الشعبي العربي ضد الإستبداد والفساد نهاية 2010، البلد الوحيد الذي أزهر فيه «الربيع العربي» حتى أن رئيسه قال «لا يوجد ربيع عربي يوجد فقط ربيع تونسي». بلد استطاع أن تتعايش فيه جميع التيارات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. إختاروا جميعا الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، لم يقص إلا من قرر إقصاء نفسه باللجوء إلى السلاح والإرهاب. هذه الصناديق هي التي أوصلت حركة «النهضة» إلى السلطة وهي التي إختارت غيرها في الانتخابات التي أعقبت مرحلة إنتقالية صعبة. البعض فيها أعجب بما جرى في مصر وتمنى حصوله في تونس، والبعض الآخر استفاد منه فورا واستخلص الدروس الواجبة دون تباطؤ. إختارت «النهضة» وحلفاؤها ترك مقاليد الأمور لحكومة كفاءات مستقلة استطاعت أن تنزع فتيل الانفجار وتوصل الجميع إلى بر الأمان بعد إنجاز دستور من أرقى الدساتير وأحدثها في العالم الثالث، إلى جانب بقية النصوص والمؤسسات المنظمة للحياة السياسية. بلد استطاعت قواه السياسية تغليب الحكمة على المغامرة فنجحت في ترويض الإسلاميين وخصومهم. إقتنع الأوائل، برضاهم أو بدونه، أنه من غير المجدي أبدا محاولة فرض نمط حياة لا يريده أغلب التونسيين وأن المكابرة على هذا الصعيد في ظرف إقليمي ودولي غير مؤات سيدخلهم ويدخل البلاد في متاهة لا حدود لها. أما منافسوهم فوصلوا، برضاهم أو بدونه، إلى أن إقصاء الإسلاميين من الحياة السياسية إما مستحيل أو أنه بالغ التكلفة وأن البلاد ليست في وارد أن تتحمل تبعات مواجهة جربت من قبل فلم تؤد إلا إلى الكوارث. وكما نجح التداول السلمي بين الأحزاب نجح كذلك بين رئيسين، فقدمت تونس في النهاية نموذجا راقيا في تتويج مرحلتها الانتقالية بإرساء المؤسسات الدائمة المنتخبة رغم كل ما عاشته من ظروف داخلية عصيبة وجوار مضطرب لا سيما في ليبيا.
الصورة القريبة: بلد ما زال يبحث عن توازن جديد، إنتهى المؤقت في مؤسسات الدولة لكنه ما زال معششا في كثير من الذهنيات. الصدمة الإيجابية التي كان يفترض أن تحدثها أغلبية سياسية جديدة ورئيس جديد لم تأت بعد. هناك إحساس ثقيل الظل بخيبة أمل بدأت بعض معالمها تتبلور تدريجياً بأن هؤلاء الجدد ليسوا بأفضل ممّن سبق. كان هناك إحساس عام بأن «التخلص» من حكم الترويكا ( النهضة مع حزبي المؤتمر والتكتل) ومن رئاسة المنصف المرزوقي سيفتح آفاقا أفضل بكثير على جميع المستويات لكن ذلك لم يحدث، أو على الأقل لم يحدث بعد بالدرجة المرجوة أو المتخيلة. لم ير الناس إلى حد الآن من البرلمان الجديد أو الحكومة المنبثقة عنه ولا من الرئيس الباجي قائد السيسي مؤشرات أداء سياسي مختلف جوهريا عن السابق. ما عزز هذا الانطباع أن الحكومة لم تقدم إلى حد الآن أي رؤية جديدة يمكن أن تشيع طموحا جديدا في البلاد، كما أن الرئيس لم يصدر عنه بعد ما كان يتوقعه منه مناصروه، ذلك أن فوزه أوهم البعض بأن مؤسسة الرئاسة استعادت سابق قوتها مع أن الدستور لا يسمح بذلك بعد أن انتقل مركز الثقل إلى رئاسة الحكومة التي لا يبدو حاليا أنها على قدر هذه المكانة. كما أن الأزمة الحالية في الحزب الاول «نداء تونس» أعادت مرة أخرى رسم صورة سلبية جدا عن رأي التونسيين في مستوى نخبتهم السياسية. المشهد الإعلامي تصدره مالكون مثيرون للجدل، بعضهم مشهور بالفساد أو بارتباطات داخلية وخارجية مشبوهة وأحيانا بكليهما، فيما أفرز هذا المشهد «نجوم شاشات» لم يفلحوا في شيء فلاحهم برعونة واضحة في إدخال الرأي العام في متاهات عديدة بحسابات غير بريئة في الغالب. البلاد المنهكة إقتصاديا تنخرها في كل القطاعات إضرابات لا تنتهي، آخرها في قطاعات أساتذة التعليم والقضاء والمحامين. ما زالت الدولة تبحث عن استعادة هيبتها لا سيما لجهة فرض القانون والانضباط في أكثر من مجال. صحيح أن الوضع الأمني تحسن بشكل ملحوظ، لا سيما مع تواصل تعقب مخازن السلاح وشبكات التهريب، ولكن التحدي الأكبر ما زال في المعيشة التي تزداد صعوبة أمام التدهور المتواصل في القدرة الشرائية والارتفاع المستمر للأسعار. أما مستوى الخدمات العامة، ولا سيما نظافة الشوارع، فلا يزال مزريا في الغالب.
بين هاتين الصورتين، الأولى الإيجابية والثانية السلبية، تكمن كل القصة. سمعة ممتازة في الخارج وأخرى متدنية في الداخل، فإما أن تلتحق الصورة الداخلية بالخارجية ليحصل التناغم بينهما وإما أن تجني الصورة الداخلية على الخارجية فتلحق بها أضرارا جسيمة في وقت تريد فيه البلاد استعادة عافيتها واستعادة ثقة المؤسسات المالية الكبرى وكذلك الدول القادرة على المساعدة. الصورة الاولى ما زالت هي الغالبة في الإعلام الدولي فيما لا يسلط الإعلام الوطني سوى على الصورة الثانية حتى إنه يكاد يلامس الآن درجة إحباط الناس وجعلهم يندمون على ما حصل في بلادهم من تغيير.
وبين هاتين الصورتين، على التونسيين قبل غيرهم أن يقرروا لمن ستكون الغلبة في النهاية لأن أغلب هؤلاء لم يعودوا يعرفون شيئا سوى التذمر الدائم وإلقاء المسؤولية على من هم في مركز القرار دون أن يقدموا هم من جانبهم جهدا كافيا لتحمل جزء من مسؤولية إخراج البلد مما هي فيه، من خلال نبذهم الاتكالية والتوجه إلى العمل بهمة واحترام القانون والابتعاد عن المنطق الأناني الدائم في النظر إلى الأمور. هذا ما يمكن أن يدفع السياسيين والمؤسسات إلى صحوة ضرورية تقدم تصورا واضحا وشاملا لبرنامج نهضة متكاملة للبلد. وبهذا يمكن للصورتين أن تقتربا مع الأيام لتكون لتونس في النهاية صورة واحدة فقط، مشرقة في الداخل والخارج على حد سوا
٭ كاتب من تونس/”القدس العربي”