بعد خمسة عشر عاما من الاحتراب والصراعات السياسية والعسكرية، والانتهاكات المتواصلة لحقوق الإنسان التي يرتكبها كل طرف من أطراف الصراع ضد الطرف الآخر، إلى حد القتل على الهوية، اكتشفت الفئات المتحاربة في لبنان، أنه لا وجود لرابح في مثل هذه الحرب، وأنهم جميعا خاسرون، وبين أيديهم وطن يعمه الخراب، ومدن يتركها أهلها تهجيرا وموتا، فصار هدف الجميع الرجوع إلى الحالة التي كانوا عليها قبل اشتعال الفتنة واندلاع الحرب بينهم، ولكن هذه العودة لم تكن أمرا يسيرا، لأنه خلال عقد ونصف من الدمار، نشأت فئات طفيلية وطبقة من المجرمين تعتاش على انهيار القانون وغياب الأمن والنظام، وضياع الدولة ومؤسساتها، ولم يعد سهلا أن تترك السلاح، الذي تستخدمه في النهب والتسيد على المشهد السياسي، وكانت هذه هي المعضلة التي واجهت صانعي السلام في لبنان، خلال اجتماع الطائف في المملكة العربية السعودية عام 1989.
وبما يشبه المعجزة نجح الراعي السعودي، والدعم الدولي والإقليمي، والوسيط الجزائري، في تجاوز العقبات التي كانت تقف في وجه المصالحة، والوصول إلى صيغة بين الأطراف المتنازعة، تلقى قبولا من كافة فئات الشعب اللبناني، وتذعن له العصابات المارقة لأنها لم تعد تجد حاضنا لها بين اللبنانيين، وهناك أوجه شبه كثيرة بين الحالة اللبنانية آنذاك، والحالة الليبية اليوم، وعلى الأقل في المظاهر المسلحة وانتشار الميليشيات التي تعمل خارج أي أطر قانونية وأي نظام للدولة وأي ميثاق يرجع له المتحاربون، فالفوضى كانت عنوان المشهد ولوردات الحرب كانوا أسياده، وربما احتاج الأمر إلى خبرة اثنين من صانعي اتفاق الطائف ممن قاما بدور الوساطة بين الفرقاء في الصراع اللبناني، وهما الأمير سعود الفيصل، والدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي، للمساهمة في تحديد الآفاق ورسم الخارطة التي يمكن أن يهتدي بها المتحاورون الليبيون هذه الأيام في المملكة المغربية، برعاية مغربية، وبوساطة المندوب الأممي برناردينو ليون.
وما يمكن قوله الآن، هو أن جوا من التفاؤل بنجاح هذه المفاوضات، يغمر الأوساط الشعبية الليبية التي تضررت من هذا الصراع وتتشوق إلى أن تسمع أخبارا تعيد الأمن والسلام للبلاد، كما يرى الكثير من المراقبين أن هذه الجولة من الحوار، مرشحة أكثر من سابقاتها لأن تحقق التوافق الذي تنشده الجهات الراعية للحوار وفي مقدمتها الهيئة الأممية والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية، ودول الجوار الليبي.
يبدو واضحا من خلال ما يرشح من أخبار عن الأطراف الليبية المشاركة في الحوار، أن هناك استعدادا لتقديم ما تحتاجه المرحلة من تنازلات، وأن دروس التجارب الإقليمية مثل الحرب اللبنانية صارت ماثلة في الأذهان بعد ما عانته كل مناطق ليبيا من دمار وخراب وسفك للدماء، وبعد ما أنتجت هذه الحالة من الانهيار الأمني وغياب الدولة، تربة صالحة ومناخا ملائما لنمو الإرهاب على أيدي المتطرفين القادمين من خارج ليبيا في أغلبهم، الذين تسللوا إلى ليبيا عبر حدودها المنتهكة، وبتسهيلات من المتطرفين المحليين المسيطرين على بعض المنافذ البحرية والجوية، ثم هذه الجرائم التي قام بها أهل التطرف، وهذا الاستهداف لكل الفئات المتصارعة في ليبيا، مما جعل نواقيس الخطر تتعالى من كل ركن في ليبيا، تبحث عن صيغة للتوحد في مواجهة خطر الإرهاب والتطرف، وسقوط البلاد في أيدي دواعش الشرق والغرب، يجعلونها قاعدة للحرب التي يشنونها على البشرية وقيم العصر الحديث.
الدرس اللبناني يجب أن يكون ماثلا في قضية هذه الميليشيات الكثيرة التي تتوزع على كامل التراب الليبي، لأن هذا هو وجه التماثل بين الحالتين، فمثل هذه الميليشيات كانت موجودة على كامل التراب اللبناني عشية الذهاب إلى الطائف، ولابد من الاستفادة من الصيغة التي تحققت هناك، خاصة وأن هناك نقطة اختلاف جوهرية لصالح الحالة الليبية، هي أن ليبيا خالية من فسيفساء الأديان والطوائف التي أسهمت في تفاقم الأزمة اللبنانية، كما أن ليبيا تملك ثروة النفط وهي كفيلة لو توفر لها الأمان والاستقرار، أن تُسرع بوتيرة النماء والبناء في مرحلة ما بعد الحرب، وتصنع رخاء يعم البلاد ويكفل التنمية لكل المناطق.
وبقدر ما هناك أناس يناصرون الحوار وينظرون إلى هذه الجولة بأمل وتفاؤل، فإن هناك كثيرا من المشككين في أن تكون البعثة الأممية واجهة لأجندة غربية تريد استغلال الأزمة لفرض حل يناسب مصالحها، وكما صنعت للشعب الليبي كابوس انقلاب القذافي، وأبقته أربعة عقود ونيف مسيطرا يتحكم في أعناقهم لصالحها ولصالح اقتصادها، وحجب ثروة النفط عن أهل البلاد وإهدارها على مقاصدهم، وتسديد الفواتير بالإنابة عنهم، فقد تتكرر المؤامرة ويتم تمرير هذه الأجندات التي نأمل أن هناك من الخير في العالم ما يمنع حدوثها، فقد عاش الشعب الليبي فصولا مرعبة في كل ما مضى من تاريخه، وآن له أن ينعم بقسط من الهناء.
*كاتب ليبي/”العرب”