خلد التونسيون قبل أيام، الذكرى الثالثة لثورة الياسمين كما لا يتوقع أن تخلد الذكريات المجيدة، لقد اختاروا أن يبعثوا برسالة للنخب السياسية الجديدة وللعالم، مفادها أن لا شيء تغير تحت الشمس، وكانت أقوى الاحتجاجات المخلدة للذكرى، هي تلك التي احتضنتها مدينة سيدي بوزيد الصغيرة، مهد الشرارة الأولى لما عرفته تونس من تحول، عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه وقدم على أنه ملهم الثورات العربية.
الحقيقة أن ما سمي ثورات الربيع العربي لم تكن في جزء كبير منها سوى حلقات متأخرة من سلسلة ثورات شهدتها بعض بلدان أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، نفس السيناريو ونفس الشعارات وبنفس أسلوب التواصل، إنه عصر ثورات تجمع بين تراكم المعلومات الاستخباراتية، والظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، واختناق مسارات التحول السياسي، إضافة إلى وسائل إعلام غير تقليدية عبر وطنية، وظفت بمهارة كبيرة أحدث ما توصلت إليه الثورة المعلوماتية، فكان ما سمي «الربيع العربي»، أحد الأوجه التطبيقية النموذجية لهذه الثورة على المستوى السياسي.. ظاهر الصورة يقول إن هذه الثورات السريعة أسقطت أنظمة شمولية كان من سابع المستحيلات تصور انهيارها على تلك الشاكلة، سواء من حيث سرعة الأحداث، أو من حيث عزلة الأنظمة المعنية داخليا وخارجيا في لحظة مصيرية ودقيقة، لكن الوجه الآخر للصورة يكشف بشكل غير قابل للتشكيك، عن أن هذه الثورات وبغض النظر عن خلفياتها وأبعادها الحقيقية بالنسبة للتوازنات الاستراتيجية في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، خلفت دولا أكثر انقساما وأشد فقرا وبلا أمن تقريبا.
لم تنجح ثورات الربيع العربي في بناء أنظمة جديدة تحصل على الحد الأدنى من التوافق، ولم تنجح في تحقيق وعد واحد مما عاهدت به ملايين الشعوب في المنطقة أو مما كانت تنتظره هذه الشعوب لحظة خروجها للساحات والميادين، سواء لإسقاط الأنظمة القائمة، أو للاحتفال بسقوطها، فهذه البلدان تحولت إلى حالة من الفوضى المنظمة، حيث لا أحد يرغب في مقايضة الشرعية الثورية، بشرعية صناديق الاقتراع، بل إن عددا من القوى السياسية الصاعدة أعلنت بكل وضوح أنها غير معنية بالعملية الديمقراطية على الطريقة الغربية، وأنها تحمل تصورها الخاص لتدبير أمور الحكم، وأنه ليس هناك مجال للتفاوض أو التنازل، فإما الخضوع – أي خضوع باقي الشركاء في الوطن والثورة – وإما تكريس موجة العنف التي يغذيها اقتصاد سياسي مثل ما يجري في ليبيا، حيث تحول ريع النفط من خدمة نظام العقيد الراحل معمر القذافي، إلى خدمة الميليشيات وجماعات الضغط التي تسيطر على مقاليد السلطة، نفس الشيء يحدث بصور مختلفة في أكثر من بلد من بلدان الربيع، والاستثناءات الموجودة، إما أنها تعود إلى وجود قوى سياسية أضعف من أن تحتكم إلى قوة السلاح، وإما أن السلاح نفسه لم يعد امتيازا لأحد في ظل توازن دموي بين القوى المتنافسة على السلطة. الثورات التي همت عددا من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، اتخذت أسماء مختلفة لا تقل جاذبية عن اسم «الربيع العربي»، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2003 اندلعت بجمهورية جورجيا ما سميت «الثورة الوردية»، وسميت بالوردية تخليدا لواقعة دخول زعيم المعارضة ميخائيل ساكاشفيلي قاعة البرلمان، مقاطعا خطاب الرئيس إدوارد شيفرنادزة ملوحا في وجهه بوردة حمراء، ويطالبه بالرحيل عن السلطة، وفي نوفمبر 2004 اندلعت احتجاجات واسعة في أوكرانيا ضد الرئيس فيكتور يانكوفيتش، وعرفت الثورة الأوكرانية بالثورة الوردية بقيادة كل من فيكتور يوشينكو ويوليا تيموشينكا، كما عرفت قيرغيزيا ثورة في مارس (آذار) 2005 سميت «ثورة السوسن» أو «التوليب» ضد الرئيس عسكر باسييف، وقد حسمت الثورة بانتخاب كرمان بيك بكاييف في يوليو (تموز) من نفس السنة، وفي أبريل (نيسان) 2009 عرفت مولدافيا ما سمي «ثورة العنب» احتجاجا على فوز الشيوعيين بالانتخابات البرلمانية فجرى تنصيب ميخاي جيمبو كرئيس للبلاد كرمز من رموز ائتلاف التحالف من أجل التكامل الأوروبي. إن كل هذه الثورات بقيت بلا مجد، ففي جورجيا تدنت شعبية سكاشفيلي إلى مستويات غير مسبوقة، وعرفت البلاد في عهده الكثير من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بل إن الرئيس الرمز، تراجع عن الكثير من الشعارات التي حملها خلال الثورة، أما في أوكرانيا فقد انتهت الثورة البرتقالية بفضائح كبيرة منها قضايا فساد مالي واستغلال النفوذ، بل إن أيقونة الثورة يوليا تيموشينكا التي شغلت منصب رئيسة للوزراء انتهت معتقلة في سجون كييف، كما أن الانتخابات الرئاسية التي جرت سنة 2010 أعادت الرئيس المطاح به فيكتور يانكوفيتش في سابقة من نوعها بالنسبة للثورات في العالم، بينما منيت المعارضة البرتقالية بهزيمة نكراء، وفي قيرغيزيا انتهت الثورة بثورة أخرى سميت «ثورة الوقود» نسبة إلى قرار الحكومة القيرغيزية رفع أسعار الوقود في وقت وصلت فيه البطالة إلى نسبة 40 في المائة، أما في مولدافيا فبقدر ارتماء الرئيس جيمبو في أحضان الاتحاد الأوروبي، بقدر ما تتصاعد موجة من الاحتجاجات يقودها الشيوعيون في شوارع العاصمة كيشينوف.
في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لم تكن الصورة أحسن حالا، فبعد ثلاث سنوات من الرومانسية الثورية في ساحات تونس والقاهرة وصنعاء وطرابلس، وبعد رحيل كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح والعقيد معمر القذافي، طلعت ساعة الحقيقة لتكشف عن واقع صعب، ففي تونس غرقت النخب السياسية في البحث عن حلول توافقية لتدبير المرحلة الانتقالية، لا يحرجها في سبيل تحقيق ذلك الاستنجاد بجيل الحبيب بورقيبة، وفي مصر تطلب الأمر ثورة ثانية لإسقاط بدايات الحكم الشمولي لجماعة الإخوان المسلمين، لكن ما زال الطريق طويلا لإرساء أسس دولة ديمقراطية تؤمن التنافس بين مختلف القوى لنيل شرف الحكم، فقد دخلت مصر اليوم تحديات أمنية من الصعب أن تسمح بانسياب طبيعي للعملية الديمقراطية في المدى القريب، أما في ليبيا فقد تحولت الميليشيات المسلحة إلى اللاعب رقم واحد على الساحة، مستغلة الغياب الكلي لمفهوم الدولة على امتداد 40 سنة من حكم العقيد القذافي، بل إن وحدة ليبيا الترابية أصبحت مهددة بشكل جدي، وهو ما يحمل مخاطر كبيرة على منطقة الساحل والصحراء برمتها، وفي اليمن حوار لا ينقطع، لكن الجميع حول طاولة المفاوضات يتحسس سلاحه بين الفينة والأخرى، كل الوصفات يجري تجريبها في انتظار أن يظهر الدخان الأبيض، لكن إلى اليوم ليس هناك استقرار مع استمرار نفس الوضعية الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تشكل تركة ثقيلة من النظام السابق.
هذه هي حصيلة ثورات المواقع الاجتماعية والقنوات الفضائية، التي هي أشبه بالأكلات السريعة، لذيذة وجذابة، لكنها تحمل من المخاطر أكثر مما تحقق من فوائد.
“الشرق الأوسط”
اقرأ أيضا
انعقاد الاجتماع الخامس للجنة العسكرية المختلطة المغربية – الموريتانية
و.م.ع بتعليمات سامية من الملك محمد السادس، القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة …
بالتعاون مع “الديستي”.. حجز أطنان من الحشيش بجزر الكناري
تمكن الحرس المدني الإسباني، بالتعاون مع المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني في المغرب، من إحباط عملية تهريب 4.7 طن من الحشيش على متن قاربين مطاطيين بين جزيرتي غران كناريا وفويرتيفنتورا.
تعرف إلى الحقيقة العلمية لنمو الشعر والأظافر بعد الموت
في العشرينات من القرن العشرين، تخيل المؤلف إريك ماريا ريمارك في روايته «كل شيء هادئ …