فكرة تطبيق النظام الفيدرالي في العراق بدأت تطفو إلى السطح في منتصف تسعينيات القرن الماضي عندما اتفقت أطراف المعارضة العراقية لنظام صدام البائد في مؤتمراتها التي عقدتها في لندن وكردستان العراق، على إمكانية إقامة دولة فيدرالية في العراق بعد إسقاط حكومة صدام، وكانت كردستان العراق قد تحررت من سطوة النظام السابق بفعل قرارات مجلس الأمن التي خصصت للكرد في سنة 1993 ما يسمى بمنطقة” الملاذ الآمن” والتي أسهمت في تحقيق تقدم ملموس في كردستان في ظل هامش من الاستقلال عن السلطة المركزية في بغداد، الأمر الذي جعل الكرد يتمسكون بخيار الفيدرالية لضمان حقوقهم دستوريا وعمليا وبالشكل الذي يحميهم مستقبلا من الخضوع لسلطة مركزية يعتقدون انها لن تختلف عن الحكومات السابقة.
والكرد ليس وحدهم من يدعون إلى النظام الفيدرالي بل تتفق معهم قوى سياسية من المكونات الأخرى, ترى أيضا إن استقرار العراق سياسيا لا يكون إلا بمنح المزيد من الصلاحيات للسكان المحليين ليتمكنوا من إدارة شؤونهم بحرية بعيدا عن الإشراف المباشر للسلطة المركزية، وقد نجحت جهود الأطراف والقوى السياسية المتفقة على تطبيق النظام الفيدرالي في العراق في صياغة الدستور العراقي الدائم لسنة 2005م بطريقة تضمنت الحق في تشكيل الأقاليم وتطبيق النظام الفيدرالي في العراق، إذ أشارت المادة (1) منه إلى إن: ( جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي)، كما وصفت المادة (116) من الدستور النظام السياسي في جمهورية العراق بأنه يتكون من عاصمة وأقاليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية، وأكدت المادة (119) من الدستور نفسه على حق كل محافظة بتكوين إقليم بمفردها أو بالاتحاد مع محافظة أخرى، ومن أجل تنظيم عملية تشكيل الأقاليم أصدر مجلس النواب العراقي القانون رقم 13 لسنة 2008 الخاص بالإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم والذي ينص في مادته الثانية على ما يأتي:
يتم تكوين أي إقليم عن طريق الاستفتاء ويقدم الطلب بإحدى الطرق التالية:
أولا: طلب مقدم من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات المشكلة بموجب الدستور التي تروم تكوين الإقليم.
ثانياً: طلب مقدم من عشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم.
ثالثاً: في حالة طلب انضمام إحدى المحافظات إلى إقليم يقدم الطلب من ثلث أعضاء مجلس المحافظة مشفوعاً بموافقة ثلث أعضاء المجلس التشريعي للأقاليم.
ورغم إن تطبيق النظام الفيدرالي في العراق قد أصبح ممكنا من الناحية الدستورية والقانونية، لكن من الجانب السياسي والواقعي تواجه محاولات تشكيل الأقاليم في العراق الكثير من المخاوف والعقبات أدت إلى فشل أكثر من محاولة لعل منها المحاولة التي قام بها الناشط السياسي والنائب البرلماني السابق وائل عبد اللطيف حيث تمكن أواخر عام 2008 من الحصول على تواقيع 2% من الناخبين، وقدم طلباً رسمياً إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لإجراء استفتاء على تشكيل إقليم البصرة، لكن محاولته لم تتكلل بالنجاح بسبب تعذر الحصول على نسبة 10% من أصوات الناخبين، وهي المرحلة التي تمهد في حال نجاحها لإجراء استفتاء جماهيري عام، وفي سنة 2010 وقع غالبية أعضاء مجلس المحافظة على طلب يدعون فيه إلى تحويل البصرة إلى إقليم، وأرسلوا الطلب إلى مجلس رئاسة الوزراء لإصدار أوامره إلى المفوضية من أجل الإعلان عن مدة معينة يتم خلالها الترويج للمشروع من قبل القوى السياسية الداعمة له، وبعدها يتم تحديد موعد لإجراء استفتاء جماهيري في البصرة، لكن مجلس رئاسة الوزراء لم يرد رسمياً على ذلك الطلب، فيما تحرك مجلس المحافظة أواخر العام الماضي 2013 مرة ثانية لتأسيس إقليم البصرة، ولوح بمقاضاة مجلس الوزراء في حال تجاهله أو رفضه طلب تأسيس الإقليم الذي وقع عليه 12 من أصل 35 عضواً، لكن الطلب تم تجميده أو سحبه ضمن إطار تفاهمات سياسية.
كما قدم مجلس محافظة صلاح الدين في نهاية 2011 طلباً رسمياً بتشكيل إقليم صلاح الدين إلى رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي من اجل الموافقة عليه وإحالته لمفوضية الانتخابات لإجراء الاستفتاء حول إعلان المحافظة إقليما لكن المالكي رفض هذا الطلب وكلف النائب قتيبة الجبوري بمتابعة الموضوع وبحث سبل حل الأزمة.
إن التأمل في فشل المحاولات السابقة لتشكيل الأقاليم في العراق (باستثناء إقليم كردستان الذي فرض نفسه كأمر واقع) يكشف لنا الستار عن بعض الصعوبات والمعوقات التي تحول دون تطبيق النظام الفيدرالي في العراق، ولعل من أهم هذه المعوقات:
1. حداثة مفهوم النظام الفيدرالي في الثقافة العراقية بحيث إنها تثير مخاوف التقسيم أكثر منها وسيلة لتنظيم شكل النظام السياسي وتحقيق التوازن بين الحكومة الفيدرالية والأقاليم.
2. لم تلق فكرة تشكيل الأقاليم في العراق الاهتمام الكافي في مدركات النخبة السياسية الحاكمة في العراق، ولم تفكر فيها هذه النخبة بشكل جاد كإحدى الحلول المقترحة لإنهاء المشكلات السياسية في العراق وذلك بسبب طبيعة الظروف غير المستقرة التي تسود البلد والمتمثلة بغياب الفلسفة السياسية الواضحة المعالم التي يقوم عليها النظام السياسي العراقي.
3. إن طبيعة ومعالم النظام الفيدرالي المناسب للتطبيق في العراق تكاد تكون غامضة وغير واضحة للأغلبية العظمى من العراقيين، وذلك بسبب حساسية الوضع السياسي وتعقيدات العملية السياسية التي مازالت تعاني من أزمات متتالية، وأجواء عدم الثقة السائدة بين مكونات الشعب العراقي، الأمر الذي يثير تساؤلات عديدة عن شكل النظام الفيدرالي الصالح للعراق وفيما إذا كان يستند إلى أساس قومي أو طائفي أو جغرافي أو إداري.
4. غياب العوامل اللازمة لنجاح النظام الفيدرالي في العراق، فغياب الاستقرار الأمني والسياسي، ووجود نزاعات ومشاكل حدودية وإدارية فيما بين المحافظات العراقية، وعدم وجود رؤية واضحة ومحكمة لكيفية إدارة الأقاليم المقترحة، وطريقة توزيع الصلاحيات فيما بين الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية، كل ذلك جعل مجرد التفكير في إقامة النظام الفيدرالي بمثابة المسير إلى المجهول.
5. إن الظروف الإقليمية والدولية التي تحيط بالعراق جعلت من العراق ساحة لتصفية الحسابات مابين الدول المتنازعة والمتصارعة فيما بينها بسبب اختلاف المصالح والإيديولوجيات، ولا يخفى على أحد حجم التدخلات في الشؤون الداخلية العراقية التي تقوم بها دول مجاورة للعراق منها إيران والسعودية وتركيا فضلا عن حجم التأثير الأمريكي في مجريات القرار السياسي العراقي، وقد ينعكس التنافس على المصالح في العراق فيما بين هذه الدول بشكل خطير على مقومات الوحدة الوطنية العراقية، لأنه قد يقود إلى هيمنة كل دولة من هذه الدول على الإقليم الذي يتقارب معها في المصالح وبذلك تتهدد وحدة العراق.
6. ضعف الحكومة المركزية وعدم فعالية مؤسساتها وعجزها عن بسط سلطتها على كل الأقاليم المحتملة التشكيل، مع وجود النزعات الانفصالية لدى بعض الأطراف العراقية خصوصا الكرد، مما يخلق صعوبة في تطبيق الفيدرالية بصورة تضمن تحقيق التوازن في الصلاحيات والسلطات بين الحكومة المركزية والأقاليم كما هو الحال في الولايات المتحدة، وما سيحدث هو تطبيق فيدرالية هشة وضعيفة لا تمتلك فيها الحكومة الاتحادية مقومات الدولة خاصة الدفاع والخارجية والمالية والأمن.
7. إن تشكيل الأقاليم يتطلب تأسيس مجالس تشريعية وحكومات محلية ووزارات وممثليات في الخارج ومؤسسات وأجهزة أمنية خاصة بكل إقليم وهذا يستوجب زيادة في حجم الإنفاق المالي بشكل كبير، مما يؤدي إلى إنهاك الميزانية العامة للدولة في ظل أجواء التدني المستمر لمصدر الدخل الرئيسي للعراق وهو النفط وبالتالي تهديد الاقتصاد العراقي بالانهيار.
8. تحفظ المرجعية الدينية في النجف الاشرف على تشكيل الأقاليم انطلاقا من وجهة نظرها الخاصة التي تفضل بقاء العراق دولة بسيطة وليس مركبة، وهي التي تتبنى خطابا عاما ينطوي على عدم تشجيع أي خطوة تمهد لتقسيم العراق، ونظرا لتأثير المرجعية الدينية الكبير على النخب والأحزاب السياسية وعموم الجمهور، فأن تحفظها على فكرة الأقاليم يعد مانعا رئيسيا لتطبيق النظام الفيدرالي في العراق.
لكن رغم المخاوف والصعوبات الأنفة الذكر، يبقى النظام الفيدرالي نظاما سياسيا حديثا ومتطورا ويشتمل على محاسن عديدة يمكن استثمارها بشكل صحيح عندما تتهيأ الأجواء المناسبة لتطبيق هذا النظام، وبعد تجاوز المشكلات المعرقلة لتنفيذه كما حدث من قبل في دول عديدة.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث/المنتدى السياسي