ثمة أسئلة كثيرة بعد انقضاء 26 عاما عن توقيع اتفاقية بناء المغرب العربي، تستبد بأي تفكير في المصير الذي ينتظر بلدانه في ظل العولمة وعصر التكتلات الكبيرة والوحدات الإقليمية، حيث تتجاذبه متلازمتان متناقضتان: وحدة الجغرافيا والتاريخ من جهة وانقسام السياسة وانفصامها عن واقع وحلم الشعوب من جهة أخرى، حيث من مفارقات المغرب العربي الصعبة اليوم أنه ما زال يحتاج إلى تضميد جراحه وطيّ صفحات خلافاته وتصفية أجوائه، حيث الأجواء السياسية العامة بين مد وجزر.
إن تعثر مشروع الاندماج والتكتل وضعف وتيرة التعاون بين أقطاره، يبدو مدهشا بالقياس إلى الوحدة الجغرافية والإرث التاريخي والثقافي المشترك بين شعوبه، ناهيك عما تحبل به المنطقة من عناصر تكامل وقدرات قد توفر الكثير من الجهود للنهوض بتنمية مشتركة، بحيث لا يخفى أن شروط التكتل وعوامل الاندماج موجودة سلفا بقوتها الذاتية والموضوعية، ما يصعب معه تصور مستقبل لهذه المنطقة دون تعاون وتكامل واندماج يطبع عالم الألفية الثالثة.
بيد أنه لبناء المستقبل لا يمكن حجب الكلام عن الأسباب والعوائق التي تقف في وجه تعبيد الطريق أمام انطلاق قطار الاندماج المغاربي، فالخيارات الاقتصادية ما زالت متضاربة شكلا ومضمونا، فيما التوترات والاحتكاكات السياسية التي وقعت في الماضي وتقع اليوم ما زالت تلقي بظلالها على الجميع وتعمل بداهة على طمس أي تقارب بين نخب المجتمع المدني التي تمتلك ثقافة تضامنية كبرى تفوق ما هو متوفر لدى السياسيين، إذ من دون ذكر ذلك، سيكون حالنا أشبه بالنعامة التي تدفن رأسها في التراب أو ذلك المريض الذي يستبطن أمراضه ويخفيها.
لذا إن الوقوف على العراقيل والمثبطات والنزاعات التي تعوق بناء الاتحاد ضروري وإرهاصاته تاريخية، بحيث سارعت البلدان الاستعمارية بعد الاستقلال إلى توقيع اتفاقيات مع المغرب الصغير (المغرب، تونس، الجزائر) واستثنت ليبيا حينذاك، بينما أدمجت موريتانيا في اتفاقية ياوندي وبعدها لومي لإلحاقها بأفريقيا السوداء ودول الساحل وفكها عن محيطها المغاربي.
لكن مفارقة الاستعمار في السابق وأطماعه في الحاضر، تزداد حدة عندما نجد أن بلدان المغرب العربي الخمسة لم تستطع إقامة بنيات سياسية أو اقتصادية سواء كانت ذات طبيعة فيدرالية أو مشتركة تربط بينها. فالحدود الجزائرية المغربية مغلقة منذ 1994، والنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية عمق الشرخ بين المغرب والجزائر، كما أن البيت الليبي يحترق بمن فيه، وليس هناك من محاولة مغاربية لجمع الإخوة وإطفاء النيران المشتعلة جماعيا، وذلك لمنع أن يحترق البيت بكل ما فيه، فيما انتهى التنقل من تونس إلى ليبيا ومنها إلى تونس إلى فرض إتاوة عبور لا تنسجم وروح اتفاقية المغرب العربي. هذا فضلا عن سباق تسلح ممقوت ومميت، فيما الأمن الإقليمي أصبح على كف عفريت بسبب ما يجري في البيت الليبي والإرهاب المتصاعد من دول ساحل الصحراء.
ومجمل القول، إنه رغم عناد السياسة واستمرار العلاقات بين البلدان المغاربية دون المستوى المطلوب، لا بد من الإشارة إلى أهمية العوامل والعناصر الطبيعية أو الجغرافية، كما المعطيات الاجتماعية والثقافية التي من شأنها تعزيز مشروع الاندماج عموما، والتي ما زالت تملي وتفرض أكثر من غيرها الإبقاء على جذوة الأمل مشتعلة لا تخبو مهما كانت الصعاب والعراقيل خصوصا، فالتعاون الذي يمهد إلى الاندماج والتكتل الاقتصادي وتوثيق التعاون، يظل الرهان الأساسي لإنجاح مشروع الإصلاحات وتوفير السند والدعم لها بقوة، تفوق ما تستطيع أي دولة منفردة القيام به أو توفيره جهدا وإمكانية. لذا ما هي أبرز تحدياته ومعوقاته؟
إن السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه، هو معرفة ما إذا كان بحوزة دول المغرب العربي، في ظل واقع الاندماج والوحدة الذي تعرفه الضفة المتوسطية الأخرى (بلدان الاتحاد الأوروبي)، كما في ظل العولمة والتوجه الحالي نحو التكتل وظهور التجمعات الإقليمية والجهوية الكبرى، أن تخرج منفردة أو جماعيا من المأزق الاقتصادي الذي وصلت إليه حاليا بتحطيم جدار التخلف والتبعية للخارج.
والحال أنه مهما بلغت قوة الشعور الفياض بالوحدة بين المواطنين والقائمة على الإرث الثقافي واللغوي المسنود بقوة الجغرافيا والتاريخ المشترك، فهي لا تكفي لسد الاختلافات والخصوصيات المحلية التي نشأت من نفس التاريخ. فإذا كان الاستعمار الفرنسي قد دفع حركات التحرر الوطنية إلى التعاضد والتعاون وشد أزرها لتتمكن من مقاومته، فإن هذه المقاومة الوطنية المشتركة سرعان ما تركت المكان لمصالح واختيارات وطنية ضيقة خلفت شحنات سلبية متفاوتة ساهمت في صقل روح وطنية شوفينية، على نحو سد المنافذ أمام الوحدة والتكامل من أجل قهر الفقر والتخلف، بل ضربت مصالحها الضيقة في صميم أي تقارب بينها.
لذلك فإن بناء المغرب العربي لن يتم دون المصالحة بين هويته المزدوجة: الهوية الوطنية المحلية والهوية المغاربية المشتركة. الأمر الذي قد يساعد على بناء هوية إقليمية جامعة تتسع للتنوع والإضافة والتكامل وتقفز على مخلفات إرث حدود الاستعمار السلبية وتقضي على أي هوية وطنية شوفينية ضيقة الأفق، ما يسمح بتغذية سياسات التنمية الوطنية المعتمدة في كل بلد على حدة، بسياسات تكاملية واندماجية تدفع في اتجاه تجاوز أسباب الإخفاق الحالية بالتكامل، وبناء المجال الاقتصادي والتجاري والمالي والنقدي المغاربي الموحد.
والغاية من هذه المشاكل الإشارة إلى أن مسألة الحدود والتدخل في سيادات الدول ما زالت أحد الأخطار الجسيمة التي يمكن أن تدفع في ظل توترات سياسية إلى إشعال لهيب حرب ضارية، كما وقع في حرب الرمال في الصحراء سنة 1963 بين الجزائر والمغرب من جهة، كما أن من شأن عدم احترام السيادات الوطنية الدفع إلى التوتر أو الاحتراب بين الأنظمة كما وقع في مدينة قفصة جنوب تونس التي اشتعل فيها توتر حاد جراء الدعم الذي قدمته ليبيا والجزائر في 26 يناير إلى عناصر ثائرة سنة 1980 من جهة أخرى، تطلبت الوقت طويلا لإصلاح ذات البين وإرجاع الأمور إلى نصابها.
والواقع أن كل هذه التجاذبات التي نشأت بفعل الحرب الباردة تارة، أو بفعل التوجهات الأيديولوجية للنخب الحاكمة ذاتها تارة أخرى، وفر في الماضي ولايزال يوفر الذريعة للمصالح الضيقة الداخلية والتدخلات الأجنبية التي لا يمكن أن ننتظر منها غير تأبيد الوضع كما هو عليه، دون أن ينتظر منها أي مساهمة في تأسيس كيان واحد ومستقبل وواعد، مهما قل أو كثر شأنها في حل المشاكل التي تسببت فيها في السابق أو القدرة على مواجهة أخطار جديدة.
* باحث جامعي، مركز أنظمة الفكر المعاصر، جامعة السوربون/”العرب”