في هذا الأسبوع اهتزت المعارضة الجزائرية الهشة بسبب تصريح عبدالرزاق مقرَي رئيس حزب حركة مجتمع السلم (حمس) الذي جاء فيه أن حزبه يفكر في الدخول في مفاوضات مع المعارضة والسلطة، واعتبرت مثل هذه الخطوة بمثابة ضربة قاسية لصفَها، ورميا للمنديل داخل الحلبة السياسية التي يسيطر عليها النظام الحاكم بأنيابه الفولاذية. ونتيجة لهذا التصريح تحركت أطياف “تنسيقية الانتقال الديمقراطي وقطب التغيير”، ومعها جوقة الشخصيات التي تدعو نفسها بالوطنية لاحتواء الموقف، ومن أجل ثني حزب حمس عن تنفيذ برنامجه.
وهكذا انعقدت اجتماعات عديدة هنا وهناك، وكان غرضها الأساسي هو الحفاظ على وحدة “التنسيقية” والحيلولة دون تفجيرها من الداخل. وتفيد الأخبار ذات الصلة بهذا الموضوع أن أقطاب المعارضة سيواصلون اجتماعاتهم الماراثونية للتأكد من أن حزب “حمس” لن يحاور السلطة، وأنَ عشها لن يخربه النظام أو أحزاب الموالاة. وفي هذا السياق قام نواب البرلمان المنتمون إلى أطياف المعارضة بمقاطعة اجتماع برئاسة رئيس البرلمان الجزائري محمد العربي ولد خليفة لتأكيد هذا الموقف. من الواضح أن هذا الذعر الذي اجتاح ولا يزال يكتسح ما يسمى قطب المعارضة يدل دلالة واضحة على أنها بلا سند شعبي من جهة، وأنها قابلة للتفجير في أي لحظة من جهة أخرى.
في هذا المناخ السياسي الجزائري الأعرج نجد الخارطة السياسية في البلاد مقسومة إلى خمسة أجنحة وهي: النظام الحاكم، وأحزاب الموالاة، وأطياف المعارضة الشكلية، وأغلبية الشعب الصامت، وشظايا المجموعات الشعبية القليلة التي تنتفض هنا وهناك، وخاصة في الجنوب الجزائري جراء قضية الغاز الصخري الذي تنوي حكومة النظام المضي قدما في استغلاله إذا تواصلت أسعار النفط في الانحدار في الأسواق العالمية.
إن هذا الشكل الخماسي للوضع السياسي الجزائري يرسم لنا صورة واضحة كل الوضوح عن غياب معارضة حقيقية لها مصداقية وحاضنة شعبية ومشروع وطني مقنع كبديل للفوضى العارمة في جميع بنيات الدولة منذ سنوات. لكي نفهم هشاشة المعارضة الجزائرية فإنه ينبغي أن نسلط الأضواء على بنية وعقيدة كل حزب إذا كانت لهذه الأحزاب بنية وعقيدة حقا.
على صعيد التيارات الإسلامية فإنه لا يوجد أي اتفاق مبدئي في ما بينها، والدليل على ذلك هو أنها مشتتة في صورة أحزاب أساسها الضعف البنيوي بشريا، والتبعية أيديولوجيا للخارج بسبب انعدام الاستراتيجي ذي الهوية الجزائرية لديها، والتباين في البرامج اقتصاديا واجتماعيا. علما أن برامج هذه الأحزاب هزيلة ولا ترقى إلى مطالب الشعب الآنية على الأقل، ناهيك عن طموحاتها في بناء الدولة العصرية أسوة بما تحقق في كثير من البلدان التي كانت إلى غاية التسعينات من القرن الماضي مصنفة ضمن دول العالم الثالث. وفي الواقع فإن الأحزاب الإسلامية الجزائرية كانت، ولا تزال، أسيرة للثقافة السياسية التقليدية المتخلفة، ولنموذج الإسلام العاطفي والانفعالي والطقوسي، البعيد كل البعد عن التحديث والعقلنة الإدارية للقوة الناعمة التي تملكها البلاد ولتنظيم الشعب، والتقدم الصناعي الهائل والتطور الاجتماعي المؤسس على العقل الرياضي والهندسة الفكرية.
إن دوران هذه التيارات الإسلامية، التي اتخذت شكل الأحزاب، في ثقافة العشيرة الدينية حينا، والفرقة المذهبية المغلقة حينا آخر، والعيش على قشور أفكار ماضوية مستوردة شكلا ومضمونا قد جرّدها من فاعلية الابتكار الذاتي، ومن القدرة على النفاذ إلى نفوس الشباب والشابات لقيادتهم في مسيرة قهر التخلف المادي والتعبدي معا. إلى جانب ما تقدم من ملاحظات فإن الأحزاب الإسلامية الكبرى قد تلوثت، لمدة معروفة، برائحة النظام الحاكم وذلك عندما انضمت إلى مخدعه في شكل التحالف الرئاسي سيئ السمعة. لو كانت هذه الأحزاب الإسلامية التي انضوت تحت مظلة نظام غير ديمقراطي منذ مدة قصيرة، تملك ذرة من العقل الذي يفكر بحصافة لأدركت أن ذاكرة الشعب لا تمسح مثل الطباشير، بل إنها تحتفظ بسجل كل حزب ولا تنسى أن من وقف في صفَ الدكتاتورية وحمل حقائب وزاراتها يوما، لن يصبح ديمقراطيا بين ليلة وضحاها بضربة ساحر.
إنَ هذا الإرث السلبي المشوب بالانتهازية السياسية والأخلاقية قد لعب ولا يزال يلعب دورا مفصليا في إدخال الحياة السياسية الجزائرية إلى غرفة الإنعاش، ويبدو أن الداخلين إليها قد صاروا مرسمين فيها مثل أهل الكف الذين تحدث عنهم أفلاطون منذ أكثر من ألفين وخمسمئة سنة وتكرر في الوحي الإسلامي بعد ذلك بقرون. وبهذا الخصوص كتب معلق سياسي جزائري موضحا ثقل إرث هذه الخلفية التي لم يسلم منها حتى حزب حركة مجتمع السلم الإسلامي حمس، الذي أسسه الوجه الإسلامي الكاريزمي محفوظ نحناح وبعد وفاته دخل الحزب معركة الانشقاقات مما “أضعف الحركة وإن ظلت تشارك بانتظام في الانتخابات التشريعية لتحصل على نسب تقترب من 10 بالمئة، بعد تحالفها مع حزب النهضة، وهو حزب إسلامي آخر أسسه عبدالله جاب الله عام 1990 في ذروة تنامي شعبية الإسلاميين في الشارع الجزائري، إلا أنه تعرض للانشقاقات هو الآخر والتي انتهت بخروج جاب الله نفسه ليؤسس حزبا جديدا يحمل اسم العدالة والتنمية. كما تأسست في العامين الماضيين بعض الأحزاب الإسلامية الأخرى الصغيرة مثل جبهة التغيير والحرية والعدالة.
لاشك أن ما يسمى بالأحزاب العلمانية الجزائرية الكبرى لا تختلف عنها في انتهازيتها السياسية، أو في تناقضاتها مع بعضها البعض التي أدت وتؤدي إلى ما حدث ويحدث في خيمة الإسلاميين. انطلاقا من هذه القراءة لواقع ما يسمَى بتنسيقية الانتقال الديمقراطي، والشخصيات الوطنية، وقطب التغيير ندرك أنها جميعا تضم وجوها سياسية قديمة.
– وزراء، رؤساء وزراء، سفراء، وغيرهم- كانت تسبّح بحمد النظام الحاكم وتنفذ سياساته في الماضي القريب، وهي الآن قد ضيعت أندلسها. إن بذور الانقسام قائمة داخل هذه الفسيفساء الغرائبية ويدرك النظام الحاكم تفاصيلها ويعرف متى يفرقعها ليواصل مسيرته في تأخير الجزائر وتفقير الشعب.
*كاتب جزائري/”العرب”