كشفت مشاورات تشكيل الحكومة تجاذبا سياسيّا وحزبيّا شديدا وفضحت نوايا الفاعلين تطاحنا إيديولوجيّا عنيفا وضع هدفا لَهُ البحث عن سبيل محاصرة الخصم وركنه في الزاوية.
وعلى الرغم من الاستبشار والترحيب الواسع الّذي لقيهُ حبيب الصيد ، رئيس الحكومة المكلّف، إلاّ أنّ سلوك القيادات الحزبيّة المعنيّة بتشكيل الحكومة كثّف من الصعوبات وأوجد قدرا هائلا من العراقيل الناجمة عن الحسابات الضيّقة المرتبطة بحرب التموقع داخل الدولة ونوايا الهيمنة والاقصاء والاستثناء وذات الصلّة أيضا بثقافة الغنيمة وصراع المناصب والكراسي.
الواضح أنّ أحزابنا بقيت مُنشدّة إلى الرؤى محدودة الأفق والّتي تسعى في جزء منها لاجترار اخطاء الماضي حينما غلبت نزعات التطرّف والاستبعاد وعدم الإيمان بالآخر المُخالف ورفض المشاركة السياسيّة الواسعة ، وكانت مفاوضات تشكيل الحكومة في نسختها الأولى فضاء لتكريس كلّ النوايا الضيّقة والتي بلغت لدى بعض القيادات حدّ الضغط من اجل تعيين الأقارب والأصدقاء في الفريق الحكومي أو تمرير خيارات الاقصاء الايديولوجي.
ولكن وعلى الرغم من ذلك، ونتيجة مجهودات الكثير من العقلاء خاصة من الفاعلين في مجلس نواب الشعب، فقد تمّ اسقاط التشكيلة الحكوميّة ومنح رئيسها المكلّف فرصة ثانية لمزيد إنضاج الظروف والمناخات للتصويب والتعديل وتقريب وجهات النظر والدفع نحو توسيع التمثيل الحزبي والسياسي في الحكومة للاقتراب من هدف الوصول الى حكومة وحدة وطنيّة او توافق واسع مثلما تقتضيه ذلك استحقاقات المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها بلادنا وتجربتها الديمقراطيّة الناشئة.
إنّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي كما يُشخّصهُ الخبراء والمختصّون، هو وضع مفزع من حيث ارتفاع حجم التداين ونسبة التضخّم وتواصل تراجع قيمة الدينار ومختلف مؤشرات الماليّة العموميّة وتزايد الضغوط على المقدرة الشرائية ، هذا الوضع سعى كثير من السياسيّين إلى تجاهله وهم يُخطّطون بمنطق الهيمنة والغنيمة ونوايا الاقصاء والاستبعاد لهذا الطرف او ذاك.
ومن المؤكّد الآن أنّ العقل والحكمة باتا غالبين في ظل الملامح التي بدأت تتوضّح حول طبيعة التشكيل الحكومي الجديد والذي من المرجّح أن يكون مُعبّرا عن وعي جماعي بضرورات التوافق ووضع اليد في اليد والمُشاركة الواسعة وتغليب المصلحة العليا للبلاد على سائر الاعتبارات الضيّقة والمحدودة.
لقد أثبت التونسيّون على مدار السنوات الاربع الماضية أنّهم، وعلى الرغم من الحماسة الايديولوجيّة التي تهزّهم بين الفينة والأخرى وتصاعد وهج التطاحن والصراع، أنّهم سُرعان ما يعُودون الى رُشدهم وينطلقون بالحياة السياسية وبالبلاد إلى أفق جيّد فيه الكثير من الانتظارات الايجابيّة.
*صحفي تونسي/”الشروق”