الأمل معقود على أن تتوحد إرادة الليبيين من أجل عبور المرحلة الانتقالية التي طال أمدها، باتجاه إجراء انتخابات برلمانية جديدة حرة ونزيهة تلتزم بالمعايير الدولية.
احتفل الليبيون قبل أيام بالذكرى الثالثة لانتصار ثورتهم على طغيان القذافي وبعض أفراد عائلته. الاحتفال بالذكرى سمح لليبيين بالخروج إلى
الشوارع في طرابلس وبنغازي وبرقة ومدن أخرى بصورة حرة. المناسبة أتاحت أيضا الفرصة لوقف الانقسام وبالأحرى الازدواجية بين الدولة الناشئة والناهضة من تحت ركام الديكتاتورية البائدة، وبين من باتوا يعرفون بـ”ثوار ليبيا”. والأمل الآن ألا يكون ظهور الليبيين في شوارع مدنهم مؤقتا ومقترنا بهذه المناسبة فحسب. ذلك أنه نشأ في بلد عمر المختار، على مدى العام الماضي على الأقل، ضربٌ من الازدواجية المستغربة بين الثورة والدولة، وإذ تتمثل الأخيرة في المؤتمر الوطني (البرلمان) والحكومة، فإن قوام الثوار ظل غامضا ومبهما وبصورة شبه متعمدة، من أجل منح هذه القوام سطوة كبيرة مع التكتم على وجوه الثوار وأسمائهم وهيئاتهم والنظم التي تحكم عملهم، والميثاق الذي يسوغ وجودهم، كقوة نظيرة وموازية للدولة من جهة، وكمرجعية مفروضة على الدولة بالإملاء والقوة العارية من أي سند قانوني أو دستوري من جهة أخرى.
في الأنظمة العسكرية التي صاغها انقلابيون في سوريا والعراق منذ أوائل الستينات، نشأ ما سُمّي بمجلس قيادة الثورة، وقد أُنيط به اتخاذ التدابير السلطوية، وتعطيل عمل السلطة القضائية، ومنع نشوء أجسام إعلامية مستقلة وسوْس المجتمع بالأوامر الزجرية، وقطع دابر المعترضين باحتساب كل اعتراض عمل من أعمال أعداء الثورة، مع تقزيم دور السلطة التنفيذية. ليبيا القذافي انتهجت النهج نفسه منذ أيلول 1970 فبات مجلس قيادة الثورة بديلاً عن السلطة التنفيذية وبديلا عن القضاء. وظل هذا المجلس يُختزل في شخص الزعيم الأوحد. وشيئا فشيئا اختفى هذا المجلس الثوري وبقي زعيم الثورة ممسكا وحده بتلابيب السلطات، مستعينا بأبنائه وقد شبّوا عن الطوق مع جهاز استخباري يسهر على مراقبة قيادة الجيش والشرطة، وعلى إحصاء أنفاس الناس.
الخشية أن يكون هذا الميراث الثوري البائس، هو جزء من عقيدة الثورة على حكم القذافي. عقيدة مستترة لكنها قائمة، مهمتها ضرب فكرة الدولة الدستورية المتعاقد عليها والتي تحتكر العنف وتقيّده، وتبسط سيادة القانون، لمصلحة نخبة عسكرية تؤمن أن مشاركتها في الثورة تجيز لها الإمساك بالسلطة إلى الأبد، وفق مما تراه مناسبا من أساليب الحكم بعيدا عن أية رقابة أو مساءلة، علما أن الممثلين المنتخبين للبرلمان والحكومة شاركوا بدورهم في الثورة، وكثير منهم يشهد له سجله بمعارضة شجاعة ومديدة لنظام الطغيان الذي ألقى بثقله على صدور الليبيين لأربعة عقود.
للأسف الشديد فإن هناك بعض تشابه بين أساليب حكم القذافي، وبعض الأساليب التي ينتهجها “الثوار” حتى لو اختلفت النوايا بين الفريقين، ومع الاعتراف بأن بعض الثوار كانوا من ضحايا الديكتاتورية الفردية والعائلية، وبعضهم دفع ثمن مناهضته للحكم الجائر. شيء من ذلك يحدث في العهد الثوري الجديد، الذي يشهد عمليات اختطاف طالت حتى رئيس الحكومة (علي زيدان) مع عمليات اغتيال شملت رموزا في العهد الجديد، دون أن تتيسر فرصة التحقيق في هذه الجرائم. ومن المفارقات الدالة أن مقاراً للأحزاب جرى تخريبها وإرهاب القائمين عليها دون سبب معلن، اللهم سوى تسخيف فكرة العمل الحزبي وترويع المؤمنين به كأحد ركائز الحياة السياسية العصرية بما يعيد إلى الأذهان مقولات القذافي عن “كل من تحزب خان”، وهي العبارة التي كان يطيب للقذافي تردادها أمام ممثلي الأحزاب العربية التقدمية الذين كان يستضيفهم في ذكرى “الفاتح “من كل عام. وذلك جنبا إلى جنب مع تعظيم الصفات الحزبية لكبار الضيوف العرب والأجانب في وسائل إعلامه.
الأنباء التي يتحدث بها ليبيون مقيمون في بلادهم أو زائرون للبلاد، تدور حول نمط من الفوضى المستشرية وغياب المركزية الإدارية والفراغ القانوني، مع تفشي الغلاء وانفلات أسعار المواد والخدمات الأساسية وازدهار تجارة الأسلحة الفردية والخفيفة، وحتى تسرب الممنوعات مثل المخدرات، هذه الأعراض التي تهدد أمن المجتمع وتمنع دوران عجلة الحياة الطبيعية ليست من الثورة في شيء، ولا هي حتى من سمات دول رجعية، بل هي إعادة إنتاج لبعض سمات ونمط الحياة الذي أشاعه نظام القذافي من أجل إبقاء الناس تحت وطأة الذعر، ورهائن للرعب فلا يفكر أحد إلا بتدبير قوت يومه والنجاة بنفسه وحماية أفراد عائلته.
ليس من مصلحة ثوار ليبيا إعادة إنتاج مساوئ حكم الديكتاتورية سواء تم ذلك بصورة واعية أو غير واعية. فالنموذج السلطوي البائد لا يستحق أن يكون مصدر إلهام أو محاكاة له. والعالم (بما في ذلك بعض جيران ليبيا كمالطا وتونس والمغرب) زاخر بتجارب الحكم الناجحة التي تستحق الاستفادة، واستخلاص أفضل الدروس منها.
وفي الدائرة الأوسع من شرائح الثوار، فإن الشعب الليبي، يستحق أن ينعم بحياة آمنة طبيعية، وأن ينخرط في تطوير بلاده والتمتع بثمرات مواردها، بتوظيف الجزء الأكبر منها في تنمية مستدامة، ومن المحزن أن تتعرض الثروة النفطية للتبديد والسيطرة الفئوية، على نحو يعيد إلى الأذهان التحكم غير الرشيد في هذه الثروة واحتكار عائداتها من طرف الحكم البائد.
أما المساس بوحدة البلاد الترابية وازدهار دعوات ذات نزعة تقسيمية كما هو الحال في نموذج “دولة برقة” فيمثل ارتدادا عن الفضيلة الوحيدة لنظام القذافي الذي بقيت البلاد في عهده موحّدة، وإن تحت حكم جائر.
الأمل معقود الآن أن تتوحد إرادة الليبيين من أجل عبور المرحلة الانتقالية التي طال أمدها، باتجاه إجراء انتخابات برلمانية حرة ونزيهة تلتزم بالمعايير الدولية، وأن يصار إلى وضع دستور يملأ الفراغ القانوني، ويرسي معالم دولة ليبية مدنية حديثة تنتسب إلى العصر كما إلى أفضل ما في التراث الوطني الليبي، ينتهي معها كل ما بقي في الأجواء وفي الأذهان والنفوس من إرث حكم الطاغية، بما في ذلك ظاهرة مجلس خفي لقيادة الثورة، وبحيث يحل الثوار في هيئات عسكرية وأمنية تحتكم إلى الأهلية والمهنية وتخضع للقانون. بدل وضعهم الحالي الذي يجعلون فيه من أنفسهم أوصياء على الشعب والدولة الناشئة.
“شبكة الأخبار” الليبية
اقرأ أيضا
أمن البيضاء يوقف المتورط في جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة
تمكنت عناصر فرقة الشرطة القضائية بمنطقة عين السبع الحي المحمدي بولاية أمن الدار البيضاء بتنسيق مع مصالح المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، مساء أمس الأحد، من توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة،
المحترفون المغاربة.. حكيمي يقود سان جيرمان للتأهل في كأس فرنسا ودياز هداف بمدريد
تأهل باريس سان جيرمان إلى دور ال 16 من كأس فرنسا، بعد فوزه على لانس …
تقرير.. النظام الجزائري يمارس الوصاية على الرئيس قيس سعيد
أفاد تقرير نشره “البيت الخليجي للدراسات والنشر”، وهو بيت خبرة مقره العاصمة البريطانية لندن، بأن النظام العسكري الجزائري متوجس من أي تغيير قد يقع في الجوار، ولذلك، يمارس اليوم ما يشبه الوصاية على الرئيس التونسي قيس سعيد،