أبدت الأحزاب التونسية استغرابها من تشكيلة حكومة الحبيب الصيد، ومرد الاستغراب أن العمود الفقري للتشكيلة الوزارية كان من الكفاءات المستقلة وليس من الأحزاب بما فيها حركة “نداء تونس” الفائزة بالانتخابات التشريعية والمالكة للحق الدستوري بتشكيل حكومة سياسية مع من يتقارب معها في التوجه العام لإدارة الدولة.
الطريف في هذه التشكيلة أنها لم ترض الأحزاب جميعاً بما فيها “نداء تونس” وحركة “النهضة” و”الجبهة الشعبية” والأحزاب الدستورية، وواضح أن لهذه الطرافة مغازي عدة، إذ يبدو أن الحبيب الصيد ومن ورائه الرئيس الباجي قائد السبسي لم يقتنعا بأن حكومة مؤلفة من عدد من الأحزاب ستكون قادرة على العمل من دون تشويش، وربما اقتنعا أيضاً بأن إغضاب الجميع أفضل من إرضاء طرف وإغضاب الأطراف الأخرى، لا سيما أن هذه التجربة قد عاشتها تونس مع حكومة الائتلاف المؤقت السابق بقيادة حركة “النهضة”، فكان المصير أن دخلت تونس في سلسلة من الأزمات السياسية لم تنته إلا بسقوط ذلك الائتلاف وتفككه وتولي حكومة كفاءات وطنية برئاسة مهدي جمعة، ومقارنة بمن سبقتها، فقد حققت حكومة الكفاءات من التهدئة والنجاحات المختلفة ما لن تستطيع حكومة حزبية إنجازه في ظرف وجيز، ويكفيها حكومة جمعة من النجاح الإشراف على انتخابات تشريعية ورئاسية شهد لها العالم بالنزاهة واعترفت بنتائجها جميع الاطراف السياسية والتزمت بمتطلباتها.
عند محاولة البحث في دواعي تشكيل حكومة الصيد بتركيبة فوق الأحزاب، يتأكد أن الفلسفة التي تحكمت في المشاورات التمهيدية اقتضت أن تحرم جميع الأحزاب من حضور قوي باستثناء حضور شرفي للحزب الفائز بإسناد حقيبة الخارجية للأمين العام ل”نداء تونس” الطيب البكوش وإسناد وزارتين لحزب “الاتحاد الوطني الحر”، بينما كانت ثلاث من الوزارات السيادية هي الداخلية والعدل والدفاع لكفاءات مستقلة على غرار أغلبية الوزراء ووكلاء الوزارات. وكان لافتاً الحضور الكبير للشباب والمرأة، وهي رسالة ربما جاءت رداً على انتقادات المعارضة، التي تشعر بالقهر من فوز الباجي قائد السبسي برئاسة الجمهورية، وأطلقت أحكاماً مسبقة بفشل الحكومة الجديدة حتى قبل أن تتبين تشكيلتها الوزارية وبرنامج عملها.
صحيح أن ولادة حكومة لا تتشكل من قيادات الحزب الفائز بالانتخابات أو ائتلاف حزبي قد يدفع البعض إلى التساؤل عن جدوى إجراء الانتخابات أصلاً طالما أن الفائز لن يحكم، وقد يكون هذا الطرح مشروعاً لو أن أوضاع البلاد عادية، ولكن حينما تكون هناك ظروف استثنائية تعج بالرهانات، يتطلب الأمر حكومة إنقاذ وطني تقف على مسافة محايدة من جميع الأطرف وتواجه بجرأة عالية الملفات الأمنية والاقتصادية الحارقة، رغم أن نجاحها يتطلب منحها غطاء سياسياً يدعم شرعيتها السياسية. أما الإحجام عن منحها الثقة بأغلبية كبيرة فسيؤدي إلى نشوء أزمة جديدة، تونس في غنى عنها في هذه المرحلة الدقيقة.
منذ فترة طويلة يؤكد القياديون في “نداء تونس” وأولهم قائد السبسي أن حركتهم ليست حزباً كلاسيكياً، ويبدو أن حكومة هذه الحركة ليست كلاسيكية أيضاً، وربما يكون هذا الأمر ابتداعاً سياسياً ليس له مثيل، أما الحكم عليه فسيكون من التجربة فإذا صحت فستكون إضافة جديدة تعزز التجربة التونسية ولن تنتقص منها شيئاً.
*كاتب صحفي/”الخليج” الاماراتية