كان الملك الراحل الحسن الثاني يقول عن مملكته إنها مثل الشجرة، جذورها في إفريقيا وأغصانها في أوربا..
لا تغرنكم بلاغة الملك الراحل، فعلى الأرض لم يتحقق شيء من هذا. مات من حكم المغرب 38 سنة، وترك المغرب معلقا في الهواء، لا جذوره في إفريقيا ولا أغصانه في أوربا… مات الحسن الثاني وعلاقاتنا بإفريقيا محدودة جدا، تدل على ذلك أرقام التجارة ونشرات مكتب الصرف، باستثناء العلاقات الشخصية التي كانت تربطه ببعض حكام إفريقيا، مثل عمر بونغو وموبوتو وسيكوتوري، وعبدو ضيوف… غير هذا لم تكن هناك رؤية دبلوماسية للمملكة إزاء القارة السمراء، كل ما هنالك سياسة دفاعية إزاء الهجمات الجزائرية على المغرب بخصوص ملف الصحراء.
اليوم الأمور تغيرت، والزيارة التي بدأها الملك محمد السادس إلى إفريقيا يوم أمس تعد ثاني زيارة في ظرف أقل من سنة إلى مالي والغابون وغينيا وكوديفوار… لم يكن يتصور أحد أن الملك الراحل، الحسن الثاني، سيزور إفريقيا مرتين في أقل من سنة، ولا أحد في وزارة الخارجية المغربية المليئة بالفرانكفونيين، الذين لا يعرفون غير باريس وبروكسيل على خريطة العالم، كان يتصور أن المغرب بلد إفريقي أولا، وأنه قوة صغيرة اقتصاديا ودبلوماسيا وعسكريا، وأن مجاله الحيوي في الإقليم الذي يوجد فيه، وعندما يلعب دوره كاملا في إفريقيا عندها يمكن أن يلعب مع الكبار في العالم (فرنسا وأمريكا والصين وروسيا)، أما إذا خرج من مجاله الحيوي دون أن يكتسب قوة ونفوذا وتأثيرا، فإن أحدا لن يسمعه في عالم شديد الضجيج، لا يُسمع فيه سوى صوت الأقوياء.
لنلق نظرة على الميزان التجاري بيننا وبين الدول الإفريقية القليلة التي تجمعنا بها علاقات اقتصادية. سنلاحظ أن أرقامه كلها في صالح المغرب، ونحن نصدر أضعاف ما نستورده من هذه البلدان، ويكفي أن تعرفوا أن اتصالات المغرب، مثلا، حققت سنة 2013 زيادة في رقم معاملاتها في مالي وبوركينافاسو وموريتانيا بلغت 27%، هذا في حين نزل رقم معاملاتها في المغرب بـ%17-، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن والتجاري وفابنك، الموجود اليوم في 11 دولة إفريقية، ونسبة تطور أرباحه تفوق نسبة أرباح مقره المركزي في الدار البيضاء، والبنك المغربي للتجارة الخارجية BMCE موجود في 16 دولة إفريقية تعرف أرباحه صعودا كبيرا في إفريقيا.
للمغرب دور كبير يلعبه في إفريقيا التي تحتاج إلى أصدقاء في الأوقات الصعبة، فرغم أزماتها ومشاكلها وعدم استقرارها، فإنها قارة واعدة جدا، خاصة بالنسبة إلينا كدولة متوسطة، لا هي صناعية ولا هي فلاحية ولا هي بترولية، بل دولة خدمات ومعبر نحو أوربا… ما نحتاجه إلى جانب الدبلوماسية الملكية، دبلوماسية مؤسساتية تشتغل طوال السنة وتتابع الملفات عن قرب، إنها دبلوماسية غائبة اليوم ولهذا يقوم الملك بسد الفراغ، لأن آلة وزارة الخارجية آلة معطوبة وفقيرة وروتينية وبلا رؤية استراتيجية، وهذا عطب قديم حاول بعض الوزراء إصلاحه لكن بلا جدوى.
في السنة الماضية شكلت فرنسا لجنة حكماء تضم خمسة أشخاص كبار يرأسهم هوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسي السابق، وكان مطلوبا من هذه اللجنة أن تضع تصورا استراتيجيا من أجل شراكة للمستقبل مع إفريقيا بعد أن لاحظت باريس أن نفوذها ضعف في إفريقيا… المثير أن اللجنة، التي قدمت تقريرها إلى الحكومة في 15 توصية، تقول إحدى توصياتها: «ضرورة اعتماد فرنسا على المغرب لدخول بعض دول إفريقيا والاستفادة مما توفره المقاولات المغربية التي تمتلك مؤهلات كبيرة في القارة السمراء، وذلك لعدم ترك المجال فارغا للأمريكيين والصينيين الذين انتشروا بقوة في إفريقيا».
هل تعرفون الآن لماذا نزل الملك محمد السادس إلى إفريقيا مرتين في أقل من سنة؟ إنه يغرس جذور المملكة في إفريقيا، عملا بنصيحة والده الذي لم يأخذ بها هو نفسه رحمه الله.
“أخبار اليوم” المغربية