بمرور سنوات أربع على الثورة، وفرار زين العابدين بن علي، شهدت تونس تقلّبات كثيرة في مشهدها السياسي، وأحداثاً متسارعة وتغيّرات مهمة، ومثّلت سنة 2014 إطاراً زمنياً لجملة من التحولات المؤثرة التي سيكون لها امتداداتها وحضورها في التاريخ السياسي للبلاد حاضراً ومستقبلاً. وربما كان الحدث المركزي في 2014 المصادقة على الدستور الجديد (27/01/2013)، والذي كان نتاج سنتين من جهد المجلس التأسيسي الذي تم انتخابه بعد الثورة، فترة شهد خلالها المجلس تجاذبات حادة وصراعات بين القوى المختلفة، وانفتح في أثنائها المجال لنقاش عمومي واسع. وإذا كان النقاش والحوار العمومي حول القضايا الكبرى والمصيرية سمة أساسية للديمقراطية المعاصرة، فإن حداثة التجربة التونسية حوّلت النقاش إلى ما يشبه الحروب السياسية، حيث تتخندق الأحزاب خلف شعاراتها وتصوراتها، وحولت المشهد إلى ما يشبه المبارزة بين القوى المختلفة لفرض رؤاها، خصوصاً في ما يتعلق بالمشروع المجتمعي والنظام السياسي الممكن الذي سيحدد الرؤية المستقبلية للبلاد. وربما من المفيد أن يُشار إلى جملة “تنازلات” أبدتها قوى سياسية فاعلة حينها، من أجل إيجاد أكبر قدر ممكن من الإجماع حول الدستور المقبل (تنازل النهضة، مثلاً، عن تضمين الشريعة مصدراً للتشريع، أو قبول قوى علمانية مسالة الهوية العربية الإسلامية للبلاد). وفي الإجمال، كان إقرار الدستور، وبما يشبه الإجماع، حدثاً مهمّاً لبلد عانى طويلاً من الاستبداد. وقد تضمن الدستور الجديد تقريراً للحقوق والحريات، ويحاول التأسيس لدولة ديمقراطية فعلية، تخدم جميع التونسيين من دون تمييز.
تبقى إشارة إلى أن الدستور في ذاته ليس إلا وثيقة، قد تتضمن أرقى القوانين، وتضمن كل الحقوق، لكنها تظل حبراً على ورق، إن لم يتم تفعيلها، ولنتذكر أن دولة، مثل بريطانيا، ليس لديها دستور مكتوب بالصيغة المعتادة، لكنها إحدى أعرق الديمقراطيات في العالم، وأن دولاً أخرى عاشت الاستبداد في ظل دساتير مكتوبة تنص على الحقوق والحريات، مثلما كانت تونس في عهودها السابقة، كما أن دولاً أخرى لم تعرف دساتير ولا أنظمة دستورية، وتعيش أسوأ عهود الاستبداد، مثل ما يحصل في دول عربية ودول في العالم الثالث، ما يعني أن الضامن الوحيد للحقوق والحريات وعدم الردة لزمن الاستبداد هو الشعب ويقظة المواطن ووعيه.
وفي العام المنقضي، بدأت حكومة مهدي جمعة مهامها في إدارة الشؤون العامة للبلاد (تولت مهامها في 29/01/2014)، والجميع يعلم الظروف التي حفت بوصولها إلى هذا الموقع، حيث خلّفت حكومة الترويكا، برئاسة علي العريض، وكانت نتيجة خارطة طريق تم الاتفاق عليها في حوار وطني شهدته تونس سنة 2013، وبعيداً عن منطق الثناء المبالغ فيه، أو التقزيم لدور هذه الحكومة، فقد عرفت فشلاً واضحاً في إدارة الملفات الاجتماعية والاقتصادية التي زادت تدهوراً، إلا أنه ينبغي الإقرار بأن السقف الزمني الذي كانت محكومة به وخضوعها لتجاذبات القوى الراعية للحوار وضغوطها، أفقدها الكثير من القدرة على المبادرة، أو اتخاذ إجراءات حقيقية ذات تأثير على الوضع العام في البلاد، وربما ما يحسب لها هو إنجازها الانتخابات البرلمانية والرئاسية في موعدها، واستمرارها في إدارة المصالح الحكومية بنوع من الاستقرار النسبي الذي حافظ على تواصل الدولة خارج تجاذب الأحزاب السياسية. وفي الإجمال، لم يكن المنجز الاقتصادي لحكومة التكنوقراط في مستوى ما رافقها من انتظارات وحديث عن كفاءات عالية في إدارة هذا الجانب المهم والمؤثر، وذي العلاقة المباشرة بحياة المواطنين.
ويظل الحدث الأبرز الذي عرفته تونس، والسنة المنقضية تلفظ أنفاسها، هو الانتخابات النيابية والرئاسية، حيث دخلت البلاد في ماراثون انتخابي استمر ثلاثة أشهر بين دعايات وصراعات سياسية ونتائج أفرزت تغيّراً في المشهد السياسي التونسي، حيث صعد حزب “نداء تونس” إلى المرتبة الأولى انتخابياً، وانفرد برئاستي مجلس النواب والجمهورية. وبالنظر إلى خلفية تشكل هذا الحزب، فقد أثار مخاوف كثيرة متعلقة بعودة النظام القديم وانتصار الثورة المضادة، ولكن انتخابياً هذه المرة. وقد عرفت الحملة الانتخابية انقساماً واضحاً في الشارع السياسي التونسي، خصوصاً في الدورة الثانية للرئاسيات، ولعب الإعلام دوراً مركزياً في شيطنة فترة ما بعد الثورة، ومحاولة توجيه الناخب نحو خيارات انتخابية معينة. وعلى الرغم من كل هذه التجاذبات، يمكن القول إن ما استقر عليه التوزيع الانتخابي للأحزاب الصاعدة لمجلس الشعب لا يمنح الحكام الجدد رفاهية الانفراد بالسلطة، أو التصرف بأحادية مطلقة، عرفناها لدى حكام ما قبل الثورة.
من هنا، ستركز انتظارات التونسيين للسنة الجديدة، وما بعدها، على الحفاظ على المنجز الأساسي لثورة 17 ديسمبر، أعني التعددية السياسية والمنظومة الحقوقية وتداول السلطة، بالإضافة إلى ملفات أساسية، تتعلق بالشأنين الأمني والاقتصادي الشائكين، وهو ما يقتضي تشكيل حكومة مقبلة تتمتع بأقصى ما يمكن من التوافق الوطني، والتمثيل البرلماني الواسع، فالوضع الحالي في تونس لا يحتمل قرارات فردية، أو تمرير أجندات حزبية أو فرض تصورات أيديولوجية، وإنما السعي نحو تمشٍّ تدريجي لبناء نظام سياسي مستقر، قادر على الاستمرارية، والأهم أن يكون قادراً على الإنجاز والبناء، في ظل الوضع المأزوم اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وضعف المشاركة السياسية، وفقدان الثقة بمؤسسات الدولة، وتراجع مستوى التأطير الحزبي للمواطنين، وإعلام غير حرفي، يتقن فن الدعاية والتلاعب بالعقول، أكثر من قدرته على خلق الوعي السياسي، وبث القيم الأخلاقية الكبرى، كالحرية والديمقراطية والوطنية.
سنة مرّت، بما لها وما عليها، ويظل الشعب التونسي منتظراً تحقق المطالب المركزية التي من أجلها ثار، ومن أجلها ضحى وبذل الدماء، وإن أي انتكاسة مقبلة سيقابلها ما يناسبها من الشارع غير المؤدلج والمتحزب، لكنه المتحفز دوماً، وهذا ما أثبتته الأحداث.
* كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي /”العربي الجديد”