مهما علت نبرة السجال بين وسائل الاعلام المصرية والمغربية، ومهما ثار غبار المناوشات بينهما، ليحجب الرؤية الى حين، فإن هناك حقائق مغربية ومصرية صلبة، ستصمد في وجه كل إعصار، وستفرض على مختلف الأطراف التعامل معها بما هي حقائق سياسية واستراتيجية، غير قابلة للتجاهل او الدحض والتقويض.
الحقيقة المغربية الأساسية، هي ان الشعب والدولة قد أسدل الستار عن المرحلة الاستعمارية في أقاليمه الجنوبية، قبل عقود من الزمن، وان كل محاولات اعادة عقارب ساعة هذه القضية الى الفترة الاستعمارية في محاولة لنفي كل الذي تم تحقيقه مآلها الفشل الذريع. ومن الواضح ان القيادة السياسية الجزائرية تعرف هذه الحقيقة الراسخة، قبل غيرها من البلدان، وان أسلوب المكابرة الذي تنتهجه لن يغير شيئا من هذا الواقع، مستقبلا كما لم يغيره في السابق. وفي هذا السياق، فإن مواصلة رعاية المشروع الانفصالي الاستعماري، ومحاولة تمكين الدولة الصحراوية الوهمية من أسباب الحياة، لا تخرج عن نطاق التخبط في مأزق سياسي استراتيجي، لا أمل بالانفلات من كماشته، ما لم يتم اتخاذ قرار استراتيجي حاسم، يبدأ بالنظر الى الواقع كما هو، ويقرأ معطياته قراءة موضوعية وهادئة، وينتهي بالقطع مع منطق الهيمنة وتغذية الأحقاد بين شعوب منطقة المغرب الكبير. غير ان الذي يبدو هو ان القيادة الجزائرية متمادية في غيها السياسي ولا تريد ان تنظر الى الواقع بعيون المستقبل المشترك لشعوب المنطقة.
وإذا كان هذا هو الواقع، بالنسبة للموقف الجزائري الذي استثمر في التخريب لعقود طويلة، على امل ان يزحزح حقائق قضية الصحراء المغربية عن مواقعها، ليسهل على النظام ووكلائه الانقضاض النهائي عليها، فما بالك ببعض وسائل الاعلام المصرية التي تعتقد اليوم انها بدعوتها الى مخيمات العار في تندوف قد اكتشفت أميركا من جديد وان بإمكانها تغيير وجه العالم بصورة جذرية، دون ان تدرك انها لا تملك الوزن الكافي للتأثير، وان ما تستمده من وزن من الاصطفاف الى جانب أطروحة الانفصال الجزائرية، لا يمكن له ان يصمد كثيراً امام صلابة معطيات الواقع، في الأقاليم المغربية الجنوبية، وقوة ارادة الشعب المغربي المصمم، والذي قدم الدليل الملموس في ذلك، على عدم ترك الفرصة لمحاولات العبث بقضيته الوطنية. وكان يمكن لوسائل الاعلام المصرية هذه، ان تتوجه بالسؤال الصريح والواضح الى الجزائريين الذين اطروا زيارتهم الى المخيمات عن السبب في عدم فرض أطروحة الانفصال على الشعب المغربي، بعد مضي كل هذه العقود من المحاولات المستميتة التي رصدت لها موازنات تقدر بعشرات مليارات الدولارات.
لقد كان يمكن لتنشيط بعض الذكاء الاعلامي، واعتماد قدر مقبول من الحس النقدي لدى هؤلاء ان يكفيهم شر الوقوع في التفاهة التي تنم عنها تصريحاتهم لوسائل الاعلام الجزائرية وغيرها، حول الأقاليم الجنوبية وحول المغرب شعبا وقيادة. الأمر الذي زج بالعلاقات المغربية المصرية في متاهات هي في غنى عنها على اعتبار البلدين منخرطان في أوراش الإصلاح السياسي والدفاع عن مؤسساتهما الدستورية الوطنية في مواجهة تحديات التنمية والإرهاب المتربص بهما في كل وقت وحين.
اما بالنسبة للحقائق المصرية التي لا ترتفع تحت أي ذريعة كانت، ومهما كانت المواقف منها، هنا او هناك، ايجابية او سلبية، فهي ان الشعب المصري الذي قام بثورة الخامس والعشرين من يناير والذي انتخب محمد مرسي في شروط سياسية دقيقة ومعقدة، الى أبعد الحدود، قد بادر الى تصحيح مساره السياسي بثورة شعبية عارمة ضد حكم مرسي والإخوان الذين حاولوا مصادرة ثورة الشعب المصري، ودولته في آن واحد. وكما تحرك الجيش المصري في الخامس والعشرين من يناير لحماية قوى الثورة، وتكفل بقيادة المرحلة الانتقالية، بعد الإطاحة بالرئيس حسني مبارك، فإن الجيش قام، أيضاً، بحركته الرامية الى حماية ثورة الثلاثين من يونيو، وكان للمشير عبدالفتاح السيسي دور بارز في هذا الحراك بتنسيق مع مختلف قوى الشعب المصري السياسية والمدنية والدينية، الأمر الذي دفع بمختلف قوى تصحيح مسار الثورة الى تتويجه زعيما للشعب المصري، قبل ان يصبح رئيساً للجمهورية بعد الانتخابات الرئاسية التي لم تكن موضع طعن من اي جهة موضوعية، اذا استثنينا حركة الاخوان المسلمين والقوى التي تدعمها في الداخل المصري او التي تقف وراءها في الإقليم وعلى الصعيد الدولي والتي اعتبرت نفسها المستهدفة بهذا التحرك قبل غيرها.
ان الاعتراف بهذه الحقائق واستعصاءها على الدحض، مغربيا ومصريا، يدفع باتجاه إعطاء الأولوية للقضايا المشتركة بين البلدين، في ظل احترام ما يعتبره كل طرف ثوابته الوطنية، وربما مقدساته، أيضاً، باعتباره الضمانة الحقيقية القادرة على منع انزلاق، هنا او هناك، الى قرارات ومواقف لا صلة لها، في الواقع، بالمصالح الحقيقية للبلدين، وانما هي من صميم استراتيجيات قد تكون مناوئة، بهذا الحد أو ذاك، لتلك المصالح، لأنها قد تمت بلورتها أصلا لخدمة مصالح واستراتيجيات مغايرة.
وعندما يكون هذا الإدراك أساسا لتحديد المواقف، وتوجيه مسارات الممارسة، تصبح كل الإغراءات، ووسائل الخداع السياسي، التي تلجأ اليها قوى دولية او إقليمية للتأثير في سياسات الدولتين، غير ذات جدوى الأمر الذي يحصن العلاقات بينهما من كل الأعطاب التي لا تعمل الا على تدمير ما تم بناؤه خلال عقود بسرعة قياسية.
خلاصة القول: إن المغرب يضع في قلب استراتيجية بنائه الوطني والديمقراطي قضية صحرائه المسترجعة ومؤسساته الديمقراطية والوطنية بحيث ليس مسموحا لأي كان الطعن فيها او العمل على مناهضة سياساته الرامية الى تكريس سيادته في هذه المجالات الحيوية.
وان مصر باعتبارها دولة مستقلة ذات سيادة هي المعنية، أولا وأخيرا، باختيار نظامها السياسي، بمختلف مؤسساته. وبالتالي، فلا أحد غير شعبها قادر على البت النهائي في مختلف القضايا المرتبطة بهذه الأبعاد السيادية في حياتها السياسية والوطنية.
ان استحضار هذه الحقائق يهمش كل الأصوات النشاز التي تحاول التشويش على ما هو أساسي في العلاقات بين البلدين.
“ميدل ايست أونلاين”