يدور الحوار الليبي اليوم، إن كان هناك حوار صادق بين الأطراف المتنازعة، كما يدور الصراع القائم بين الطرفين، كر وفر، وصولة وجولة، بل يتعدى أكثر من ذلك ليصل إلى المفاجأة والمباغتة أحياناً، ليوحي بأنه حوار ليس له مبدأ عند أحد الأطراف، إلا مصالحه الضيقة، بحسب مكانته ووضعه في الصراع القائم على الأرض. هذا من جانب، والجانب الآخر هو عدم (جدية) الأمم المتحدة، الراعي للحوار والداعي له، في إنجاحه في وقت قريب وقصير على أقل تقدير، ليضعه في عدة مناقشات وجدليات منها:
اعْتُمِدَ، مَبْدَأً وَعُرْفًاً، أن الراعي للحوار، إن لم يكن ذا قوة ومؤثراً في الأطراف المتنازعة، لا يحقق النتائج المرجوّة، وهذا المبدأ، أي القوة، واقع في الأمم المتحدة، بطرق مباشرة وغير مباشرة، وعدم استعمالها هذا المبدأ يجعل الاستفهام قائماً على صدقها في إنجاحه، ويفتح باباً للتأويل لكل طرف كما يريد، وله الحق في ذلك.
المداهنة في الحوار غير مقبولة للوسيط القائم به، وهذا العنصر أي (المداهنة) نراه جلياً واضحاً من مبعوث الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بل من الأمم المتحدة نفسها، وإلا لأعلنتها صراحة، وبكل قوة، أن حكم المحكمة العليا نافذ بما يخص البرلمان المنحل، وهذا ما لم يحدث، بل داهنت الطرف الآخر بعبارات وتوهمات سياسية غير منطقية، من مبدأ القانون والأعراف الدولية القضائية، وخصوصاً كونها على مقربة من طرابلس، مقر المحكمة، وعلمها بوضع العاصمة أمنياً وقانونياً عند النطق بالحكم.
العين الثالثة واللسان المحجور، وهذا وصف آخر للأمم المتحدة في إدارتها الصراع قبل الحوار في ليبيا، بمعنى: تُبصر تارة فيكون النطق قوياً، ولا تُبصر ويتحجّر لسانها تارة أخرى، وإلا ما الذي يجعل الدفاع عن والحفاظ على ثوابت ثورة فبراير عملاً إرهابياً، وقتل المدنيين بالطائرات وتدمير البنية التحتية للدولة وزهق الأرواح المسالمة عنواناً لمكافحة الإرهاب؟! أليس هذا إرهاباً بكل معانيه، أم أن هناك إرهاباً محموداً وآخر مذموماً؟
مسودة حوار المبعوث السابق منطلقاً للحوار، إن كان الحوار معتمداً على مبدأ مؤسسي وفكري يحمل مدلولات عميقة في فهم الحالة الليبية، كونها ليست وليدة آنية، بل تراكمية ناتجة عن تعبئة مصلحية حزبية، يعيها المبعوث السابق أكثر من الحالي، ولربط المسودة بواقع الحوار، اليوم، نقف عند بنودها في وقفات:
الأولى: تذكر المسودة، في إحدى نقاطها، أن العنف أو التهديد به مرفوض رفضاً تاماً، كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية، وهذه النقطة أرى أن توضع في أولويات الحوار المقبل لكونها منصفة للجميع، وخصوصاً للبرلمان المنحل الداعم لعملية الكرامة المنعدمة سياسياً، وتبحث عن موضع قدم لها، ولمن يدعمها إقليمياً، عن طريق العنف والقتل، لتدخل من بابه إلى المساومة السياسية الخارجة عنها ضمنياً وقانونياً.
الثانية: وتورد المسودة أن الدولة وحدها تحتكر الحق الحصري في الاستخدام المشروع للقوة، وهذا مبدأ قوي، يجب أن يُدرج في أولويات الحوار، أيضاً، ولكن هذا يُلزم الأمم المتحدة بتحديد الدولة قانونياً، بعيداً عن التجاذبات السياسية الداخلية للأطراف السياسية المتصارعة، حتى يصير الحوار مرتكزاً على مبدأ جلي وواضح بين الدولة والخارج عنها، وإن قيل إن الحوار ينعدم بعدها في الضد، أقول: إن الحوار يُقبل وإن كان للخارج عن الدولة في حدود الثوابت والمبادئ التي تضعها تلك الدولة، ولا سبيل بقول انعدامه تغليباً للمصلحة العليا للبلاد.
كل هذه المناقشات وغيرها تجعل الحوار بين كر وفر كالصراع نفسه، إلى أن يصل الوسيط إلى درجة صادقة، يريد الحوار والتوافق، بعدها يكون حواراً يحمل صولات وجولات، ويكون أقرب منه إلى الوفاق من الافتراق.
وعود على بدء، لا بد أن يتيقن الوسيط الداعم للحوار في ليبيا أن ثورة فبراير لا تقبل عودة العسكر المتسلط للحكم، ولا تقبل النقاش والتفاوض فيه، وليس في وسع من يمثلها أن يتفاوض على مبدأ واحد من مبادئها.
ومن هذا المنطلق، يجب أن لا يكون هذا الحوار، كما يريد له بعضهم، مجرد مساومة يتنازل فيها عن المبادئ، والقبول بعودة أركان الحكم السابق، بطرق غير مباشرة، والخضوع لفرض الإملاءات والشروط، حتى تكون الثورة بين الحقيقة والخيال، كما أريد لها في دول مجاورة، وهذا بعيد الاحتمال في ثورة فبراير، إذ إنها، في أقل تقدير، لا بد أن تكون مُترنحة بين الراجح والمرجوح لا غير.
* كاتب ليبي/”العربي الجديد”