لا توجد أية إشارات إلى أن عام 2015 سيكون عام حسم أو انفراج في منطقتنا، لن يغاث فيه الناس ولن يعصروا. سترحل كوارث 2014 وما قبلها إليه، وأقصى ما نرجوه «احتواء الضرر» المستحق قدر الإمكان.
لنبدأ بقضية العرب الأولى، «داعش»، لم يتطوع أحد ويعد بأنه سيهزمها هذا العام، إذاً هي باقية، ولكن الأمل ألا تتمدد. تحرير الموصل ليس في جدول أحد، ولكن المهم ألا تسقط بغداد أو إربيل، وبالتالي سيستمر التدافع في مدن السنّة البائسة في وسط العراق (الرمادي، وهيت، وبيجي) فلا يتمتع أهلها بأمن ولا استقرار، ستستمر الحرب سجالاً فيها بين «داعش» وجيش بغداد وميليشياته، يدعمهم حلفاؤهم الأميركيون والإيرانيون. ربما يشهد عام 2015 خروج الطرفين إلى العلن ومن على المسرح العراقي، وهما ممسكان بأيدي بعضهما. ولكن هذا أيضاً مرهون بالقضية الأهم بينهما، وهي المفاوضات على مشروع طهران النووي، والتي ستستأنف منتصف العام. إذاً لا شيء غير «داعش» يستحق الترقب في العراق، لا إصلاحات بنيوية، ولا مشاريع جديدة، ولا تغيير في الحكومة. ربما تدفع الأحداث إلى إصلاحات دستورية لإرضاء سنّة العراق وكسبهم صف التحالف.
وبينما يستبعد تغيّر الخريطة في العراق، فإنها ستتغير في سورية هذا العام، فالحرب هناك مستعرة، ولا توجد منطقة آمنة أو محصنة، بما في ذلك العاصمة، فتنظيم «الدولة الإسلامية» أصبح القوة الثانية بعد النظام، متخماً بالأسلحة والأفراد، فأين سيضرب ضربته التالية؟ ضد «النصرة» وبقية الثوار، أم يتوجه جنوباً نحو معاقل النظام. توقعاتي أن معركتهم القادمة ستكون ضد «النصرة»، فـ «داعش» وخليفتهم متلبس دور صلاح الدين وآل زنكي، وبالتالي سيكون هدفهم «توحيد الصف ورص الصفوف والخلاص من المرتدين والخونة قبل مواجهة العدو الكافر»، وما سبق قولهم وليس قولي.
تعوّد العالم على الوضع السوري المتردي، وفقد اهتمامه به، وبالتالي لن تكون هناك مبادرة كبرى لوقف النزاع أكثر مما يفعل الروس مثلاً، بمفاوضات موسكو نهاية الشهر الجاري بين معارضة لم يخترها أحد وحكومة مثلها، وفي الغالب لن تسفر عن شيء.
السعودية، الدولة الأكثر تأثيراً في المنطقة، تتمنى لو ابتعدت عن كل ما سبق، ولكنها لا تستطيع، فلقد حاولت إصلاح ما يمكن إصلاحه خلال السنوات الماضية وفشلت، وبالتالي لم يبقَ لها هناك غير سياسة «تخفيف الأضرار»، بحماية أمنها أولاً، ثم الانصراف إلى قضيتها الكبرى، اقتصادها المعتمد تماماً على سعر برميل النفط. أتوقع أنها ستحاول ضبط المعادلة التالية: استمرار الإنفاق الحكومي الذي يحرك الاقتصاد الوطني، وعدم توقف المشاريع الهائلة التي تميز بها عهد الملك عبدالله، ومعهما قدر من الترشيد. إن نجحت في ذلك فستحصر أضرار انخفاض سعر البرميل وتنجو من السحب الجائر على الاحتياط الهائل، الحريصة على بقائه سليماً، فهو ما يوفر شعوراً مريحاً بالاطمئنان للمسؤول والمواطن معاً.
بعد تحقيق هذه المعادلة، تستمر في حماية الوطن من تأثيرات الانهيار الحاصل من حولها، وتحسين ظروف استئناف دورها الإقليمي، واستعادة «العمل العربي المشترك»، وهي جملة رائعة في معانيها ولكنها ستكشف أنها خاوية ولا تعني شيئاً عندما توضع تحت الاختبار، فهل يستطيع «ع ع م» إسقاط «داعش» أو بشار أو وقف تمدد إيران في المنطقة؟ بالطبع لا، فالدول العربية التي تشكل «ع ع م» منهارة، بالكاد تنقذ نفسها قبل إنقاذ غيرها، فهل تبحث المملكة عن حليف آخر قادر على الفعل؟
إلى البحرين الآمنة، وستبقى آمنة، فجارتها الكبرى معنية بذلك، وكذلك تحالفاتها الدولية ضمنت لها ذلك، ولكنها أيضاً مثل غيرها لا تتوقع انفراجة هذا العام، فالحكومة باتت مقتنعة بأن المعارضة لن تقبل بأي تنازلات وحلول وسط أخرى تقدمها، فقرارها في طهران. وبالتالي أتوقع استمرار التشدد من الدولة حتى تعتدل المعارضة وتستعيد قرارها. في هذه الأثناء تحتاج إلى سياسة احتواء أضرار الوضع الذي يرفض الانفراج، وهي أضرار اقتصادية في مجملها، وهذه تحتاج إلى أفكار «تسويقية وإدارية» خارج الصندوق ومبدعة. المشكلة في البحرين لم تعد سياسة، إنها اقتصاد.
أما الكويت فهي الأحق بسياسة «احتواء الأضرار» فصراعات وجدل الحكم والمعارضة، هزت ثقة الكويتي بالمستقبل وأداء حكومته، ولكن لا أحد مستعداً لاتخاذ قرار جريء. المهم الآن، ألا تسوء الأمور والنفوس أكثر، وإبقاء الصراعات تحت التحكم حتى يمل أصحابها أو يأتي الصيف فينصرف الجميع إلى إجازاتهم، أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
قطر ليست لديها مشكلات داخلية ولا تحديات اقتصادية. شكراً للغاز الذي لم يتأثر بتقلبات براميل النفط، ستستمر في ما هي عليه، تمسك ألف عصا وعصا من المنتصف، وتراهن على أن قراءتها للتاريخ هي الأصوب.
أما مصر، فهي من يحتاج إلى أفضل خبراء «احتواء الأضرار»، فكل الاحتمالات واردة هناك، ولما تعبر من عنق الزجاجة. «الحزب الحاكم» متردد، غير قادر على العودة إلى الوراء الذي يعلم أنه تفكك، ومتهيب من المضي نحو المستقبل حيث الديموقراطية وتعب قلب الانتخابات البرلمانية، فيخشاها على رغم تملكه كل أوراق لعبتها. كان يفترض أن تجرى الانتخابات سريعاً بعد عزل الرئيس محمد مرسي في صيف 2013، فتم تأجيلها مرة تلو أخرى. الموعد الحالي وحتى إشعار آخر، آذار (مارس) المقبل. المهم عنده، كيف سيضمن برلماناً من دون معارضة حقيقية، وكيف سيتحسن الاقتصاد من دون دعم خارجي، وكيف سيوقف الهدر الداخلي؟ وكيف سيتحرر الاقتصاد، وتتوافر الوظائف وترتفع وتيرة الإنتاج؟
لا توجد أفكار حقيقية للخروج، مجرد عام آخر يهدر، المهم بقاء الدولة.
بعيداً إلى تركيا، يستمر رئيسها أردوغان في توبيخ العالم ثم لا يفعل شيئاً، المهم عنده استمرار وتيرة النمو الاقتصادي في بلاده بعدما خف وهج المعجزة التي حققها خلال العقد الماضي، وحماية بلاده من أن تطفح عليها صراعات جيرانه في الجنوب، «داعش» والأكراد. ربما تكون هناك مفاجأتان، الأولى اتفاق مع الولايات المتحدة بخصوص منطقة الحظر الجوي في سورية «تورط» الأتراك هناك، فيتوقف أردوغان عن الحديث ويبدأ بالفعل، والثانية لها علاقة بالأولى، وهي مبادرة تركية نحو السعودية لفتح نقاش في ترتيبات أوسع في المنطقة توقف حال التداعي المستمرة.
الأردن، فيه ما يكفيه، لم يستطع استيعاب المليون لاجئ سوري مثلما فعلت تركيا ذات الاقتصاد التريليوني الهائل، لا خوف من انتقال الحال «الداعشية» إليه، وتجلى ذلك في الوحدة الوطنية التي احتشدت خلف «كارثة» سقوط طائرة الـ «اف 16» وأسر قائدها معاذ الكساسبة، ولكن الأردن وبقية دول التحالف التي أعلنت الحرب على «داعش»، لا تريد مزيداً من هذه الحوادث التي ستجرها في النهاية إلى مواجهة أكبر ومباشرة مع تنظيم «الدولة». بالتأكيد يتمنى الأردن لو تتوقف الحرب في سورية، فقد بدأت أسوأ آثارها تظهر عنده، ولكن ما بيده حيلة، فلا يبقى لديه غير سياسة «احتواء الأضرار» وهو جيد فيها منذ يومه الأول.
ليبيا المثخنة بالجراح تحتاج إلى أن تستريح، بأن يعلن رسمياً أنها في «حرب أهلية»، فلعل ذلك يدفع العالم إلى تدخل لوقفها، فحتى الآن لم يتفق على ماهية هذه الحرب ومن يقاتل من؟ وعلى ماذا يتقاتل الليبيون؟
في اليمن سيستمر التدافع حتى يتعب الفرقاء ويدرك الحوثيون أنهم لن يستطيعوا حكم اليمن وحدهم، وسيشهد خلال العام مزيداً من جلسات الحوار الوطني مختلطة بجلسات الصلح القبلي. إنه زمن العودة إلى الأصول والتقاليد، إيران ستستمر في دعم الحوثيين، فهم آخر استثماراتها الناجحة في المنطقة، أما السعودية فستكتفي بإصدار البيانات في دعم المبادرة الخليجية والرئاسة الهشة، بعدما فقدت موقعها المميز في اليمن بانتصار الحوثيين، وقرارها إعلانهم و»الإخوان» «تنظيمات إرهابية»، فكيف تكون وسيطاً بين إرهابيين؟!
تونس والمغرب وعُمان بخير، وأعتقد أن البلدان الثلاثة لا تريد أن تكون جزءاً من هذه المقالة.
* إعلامي وكاتب سعودي