من حقّ التونسيين وغير التونسيين أن يشعروا بالقلق والحذر من عودة ممارسات النظام القديم، فحزب «نداء تونس» لم يخف قطّ أنه مفتوح للجميع بمن فيهم المنتسبون للحزب الحاكم سابقاً من الذين لم تصدر بحقهم أحكام قضائية. لكنّ تقديم فوز «النداء» في الانتخابات التشريعية وفوز السيد الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية على أنّه عود للنظام القديم لا يمكن أن يصدر إلاّ عن جهل بالوقائع أو نيّة مبيتة للتشكيك والتثبيط في كلّ بوادر التجربة الديموقراطية في المجتمعات العربية.
فمن القواعد الدنيا لكلّ ديموقراطية أن يوجد على الأقلّ تيّاران سياسيّان متعادلان ومتقاربان في القوّة، كي يتحقّق التداول على السلطة، وحتى 2014، مثّل «النداء» و «النهضة» هذين التيارين، وحصل التداول على السلطة بطريقة سلسلة وسلمية، وهذا المهمّ. والجزء الأكبر من الذين صوّتوا لـ «النداء» كانت دوافع تصويتهم الواقعية وليس الانقلاب على الثورة، بل ينبغي أن نتساءل ما هي القرارات الثورية التي اتخذها سابقاً حكم الترويكا، برئاسة الســيد المــرزوقي وقيادة حزب «النهضة»، كي نتحدث عن انتكاسة عن الثورة، هل هي استجلاب الدعــاة المتطرفين؟ أم ترك مئات الشباب يموتـــون في سورية؟ أم تشغيل مناضلي الأحــزاب الحاكمة وترك بقية الشباب في البطالة؟ أم إغراق البلد في الديون؟ أم إغـــراقه في الأوساخ؟ أم إطلاق سراح مسؤولي العهد السابق الذين أوقفوا أثنـــاء حكومة السبسي الأولى والتحالف معهم ضدّه؟ أم توزيع المناصب على المقرّبين والأصدقاء؟ أم السماح لأنصار الشريعة باحتلال كلية الآداب؟ أم ترك المتطرفين يهاجمون معارض الفنانين؟ أم تركهم يستولون على المساجد ويحرقون مقامات الأولياء؟ أم فضيحة ما سمّي بإعادة التعليم الزيتوني؟ والقائمة تطول لو سعينا إلى الاستقصاء.
لكنّ نهاية 2014 قد تفتح الطريق أمام تغييرات مهمة في المشهد السياسي التونسي. فالسيد المنصف المرزوقي حقّق المفاجأة في الانتخابات الرئاسية، والمفارقة أنّه أصبح رئيساً في عام 2011 مع أنّه لم يحصل آنذاك إلاّ على 7000 صوت، وخسر منصب الرئاسة هذه المرّة على رغم حصوله على مليون وثلاثمئة ألف صوت. والمفاجأة هي طبعاً هذا العدد من الأصوات التي حصل عليها، على رغم أنّ أغلب المراقبين كان يتوقّع فوز خصمه فوزاً ساحقاً منذ الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية. صحيح أنّ جزءاً من هذه القاعدة الانتخابية كان ينتمي إلى حزب «النهضة»، لكن من يضمن أنّهم سيعودون إلى حزبهم الأوّل؟ ومن يجزم أنهم لم يصبحوا من الآن فصاعداً أنصاراً لزعيم شعبوي لبّى تطلعاتهم وانتظاراتهم؟ وإذا سعى السيد المرزوقي إلى استقطابهم، فسيؤسّس تياراً سياسياً يمكن أن يصبح محورياً في الحياة السياسية التونسية التي تظلّ مفتوحة على إمكانات مختلفة. يكفي أن نتذكّر أنّ «نداء تونس» لم ينشأ إلاّ بعد انتخابات 2011 وأنه تشكّل خارج المجلس التأسيسي، فيمكن أن يؤسس المرزوقي تياراً بعد الانتخابات لا يكون ممثلاً في المجلس النيابي لكنه يصبح حزباً أساسياً في الحياة السياسية التونسية.
مبدئيّاً، لا يخلو هذا السيناريو من إغراء، لأنه سيجعل التداول السياسي يدور بين قوتين مدنيتين، إحداهما تنسب نفسها الى شرعية الاستقلال والثانية الى شرعية الثورة، فيتراجع الإسلام السياسي ويتقلّص وتتخلص البلاد من مساوئ التداخل بين السياسة والدين. لكنّ هذا السيناريو مستبعد، لأنّ السيد المرزوقي لا يتمتع بمؤهلات تنظيمية، ولم يؤسس حزباً حقيقياً في حياته، وقد تخاصم منذ أن تولّى الرئاسة مع أغلب أصدقائه ومستشاريه ولم يترك منهم إلاّ الهواة والمغامرين. ثم إن المرزوقي حافظ في السنوات الثلاث لرئاسته على نفس الراتب الشهري الذي كان خصصه النظام السابق لمنصب الرئيس (راتب يفوق ما يتقاضاه رئيس فرنسا!) وعلى نفس الامتيازات الخيالية التي تمنح للرئيس بعد نهاية ولايته، بما يؤكّد أن ثورية المرزوقي ونيته القطع مع النظام السابق هي كلامية أكثر منها فعلية، وشعارات أكثر منها إنجازاً.
ومع ذلك، فإنّ المشهد السياسي قابل لتعديلات مهمة، لأنّ المرزوقي أصبح قادراً على استقطاب جزء من القاعدة الانتخابية للنهضة، بل الحزبية أيضاً، في حين يصعب على «النهضة» أن تستعيد خطاباً راديكالياً تستعيد به هؤلاء، وإذا ما التزم «النداء» بسياسة القطع مع رموز العهد السابق، فقد يستقطب بدوره جزءاً من القاعدة الانتخابية لـ «النهضة» ممن يتهمونه الآن بأنه مطية لعودة هؤلاء. وفي كلّ الحالات، يبدو أن المرزوقي نجح في خلط الأوراق على رغم هزيمته الانتخابية، وزاد من مصاعب قيادة «النهضة» وهي تستعدّ لتنظيم مؤتمرها القادم في منتصف 2015، ولقد أخطأت هذه القيادة عام 2011 عندما ظنت أنّ الناخبين منحوها أصواتهم إيماناً منهم بمشروع الإسلام السياسي، في حين أنهم صدّقوا الوعود الخلاّبة التي قدمتها لهم في برنامج يضمّ 352 وعداً! وأخطأت في توقّع نتائج الانتخابات التشريعية التي كانت تظنّ أنها ستحقّق فيها فوزاً باهراً. وهذا هو السبب الحقيقي لالتزامها بعدم تقديم مرشح للانتخابات الرئاسية كي لا يحصل لها ما حصل للإخوان في مصر، فحينما خسرت التشريعة اختارت الوقوف على الحياد بين السبسي والمرزوقي ظناً منها أن الأوّل سيفوز بسهولة، لكن مفاجأة المرزوقي أوقعتها في مأزق كبير مع قاعدتها الانتخابية، وفي منافسة غير منتظرة مع المرزوقي في الاحتفاظ بهذه القاعدة.
هذه هي السياسة في ظلّ ممارسة ديمــوقراطيــة، معالمها ترسم من جديد مع كلّ مرحلة، بينما كانت نتائج الانتخابات في السابق تُعرف قبل حصولها.
*كاتب تونسي/”الحياة”