“لا لتقسيم التونسيين بين نظام قديم وجديد..لا للتشكيك في نزاهة الهيئة العليا للانتخابات… ولا للتشكيك في نتائج الانتخابات…”
لاءات الغنوشي التي أطلقها في الحوار التلفزي على قناة نسمة وكررها في اليوم التالي على موجات احدى الإذاعات المحلية قدمت لشريحة واسعة من التونسيين وجها مختلفا لزعيم حركة النهضة الذي بدا على درجة من البراغماتية والواقعية على عكس المرات العديدة السابقة التي كان يخرج فيها للتونسيين تسبقه خطاباته وتوجهاته الاخوانية التي كانت سببا في نفور الكثيرين وتوجسهم منذ البداية. فهل فرضت التحولات الإقليمية والدولية بعد الصفعات المتتالية التي تلقاها الإسلام السياسي على زعيم حركة النهضة مراجعة مواقف الحركة حفاظا على موقعها ودورها ولمصالحها الانية والمستقبلية على المشهد، أم أن الامر جزء من مناورة تفرضها المرحلة تفاديا بالتالي للكثير من الانعاكاسات والحسابات التي قد لا تخفى على بعض قيادات الحركة ممن لا يمكن أن يفوتهم ما يحدث من تحولات متسارعة في المنطقة لا سيما ما حدث في مصر وليبيا.
الغنوشي خلص في حديثه الى نقطة مهمة مفادها أن الأصل في الاشياء هو الانسجام بين الرئاسة ورئاسة الحكومة لان إدارة التعدد صعبة وان كانت غير مستحيلة . معنى أن التعامل أسهل على رئيس جمهورية ورئيس حكومة لهما أغلبية في البرلمان. وفي ذلك رد صريح ورفض للاتهامات الموجهة لزعيم حركة نداء تونس بالتغول على السلطة.
وهنا بيت القصيد. وكلام زعيم حركة نداء تونس لا يستوجب مزيد التوضيح واشارته بأن يوم الاثنين القادم سيكون يوما عاديا في حياة التونسيين ولا يمكن لنتائج الانتخابات مهما كانت أن تؤثر على سير الحياة وهو تحذير مبطن لمن يحاول استغلال النتائج بعكس ذلك.
الأكيد أننا اليوم لسنا أمام تلك الخطابات المشحونة والاستفزازية للغنوشي والتي رافقته كلما ظهر للعموم سواء في مواقفه المعلنة من الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة والذي كان يرفض مجرد الترحم عليه معتقدا أنه بذلك قد ينجح في الغاءه من الذاكرة التونسية قبل أن يكتشف العكس تماما وصولا الى ذلك التسجيل المثير حول الجيش والامن والاعلام ومنه الى ما سجل على لسانه من اعترافات بدور قطر في الثورة التونسية أو كذلك من قناعة بأن الثورة قد خرجت من تحت ابط القرضاوي وغير ذلك من التصريحات التي كانت تقابل بالتوجس والمخاوف في العديد من وسائل الاعلام كما في الأحزاب السياسية وغيرها والتي طالما أجمعت على أن غياب زعيم حركة النهضة الطويل عن تونس جعله لا يفهم المجتمع التونسي ولا يدرك ميولات وتوجهات أبناءه وطموحاتهم بعد الثورة التي حاول الكثيرون داخل وخارج تونس التسويق لها تحت راية الثورة الإسلامية وأريد لها أن أن تلبس لباس الملالي وأهداف الاخوان على غرار ما حدث في ايران الخميني قبل أن يصطدم كل ذلك بواقع تونسي متمسك باسلامه وعقيدته وحضارته ولكن أيضا بثورته الشعبية من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية ولكن ضد كل أنواع الظلم والفساد والاستبداد وتحت أي غطاء كان سواء تحت غطاء العمامة أو العسكر أو الأيديولوجيا.
الامر طبعا لا يتعلق بمحاكمة النوايا. تلك أمور تتجاوز قدرة البشر ولا يعلم النوايا غير الخالق. ولكن الامر يتعلق بقراءة الكلمات. والكلمات هذه المرة وردت بكثير من الوضوح وبالتالي فقد لا تقبل في مجملها أكثر من تأويل. فالحوار الذي أجرته قناة نسمة والتي يتهمها أنصار حركة النهضة بمحاباة السبسي والانتصار للنداء يأتي في مرحلة حساسة. وقد لا تكون الصدفة شاءت أن يسبق حوار الغنوشي حوار كل من الرئيس المتخلي المرزوقي والسبسي على القناة الوطنية في اطار الحلقة النهائية من السباق للفوز بكرسي قرطاج للسنوات الخمس القادمة بكل ما يمكن أن تعنيه تصريحات الغنوشي من تلميحات مباشرة أو غير مباشرة قد تدفع للاعتقاد بأنها تتجه الى دعم مرشح بعينه دون غيره.
تصريحات الغنوشي وان حرص في جزء منها على التأكيد على مبدأ الحياد إزاء المتنافسين على الرئاسة فانه لم يخفِ قناعته وميوله الى أفكار ومواقف زعيم حركة نداء تونس. وعندما يقول الغنوشي أنه ليس من الاحلاق التشكيك في نزاهة هيئة الانتخابات وأن التشكيك في النتائج سعي لافشال التجربة الانتخابية، فانه لا يمكن أن يكون مؤيدا أو داعما للرئيس المتخلي. فليس سرا أن المرزوقي وفريقه من شككوا في هيئة الانتخابات وفي نتائج الانتخابات التشريعية وحتى في الجولة الأولى من الرئاسية. ثم انه عندما يشدد الغنوشي على أنه لا يمكن القبول بتقسيم التونسيين بين نظام قديم ونظام جديد فهو بالتأكيد يتجه بالكلام الى المرزوقي وفريقه الذي يصر على ضرورة قطع الطريق أمام عودة النظام السابق ممثلا بالنداء.
قد تتضح توجهات حركة النهضة أكثر يوم الانتخابات. وفي انتظار ما ستبوح به صناديق الاقتراع، الثابت اليوم أننا لسنا أمام نفس الغنوشي الذي صدم التونسيين بتصريحاته عن السلفيين الذين يذكرونه بشبابه. والأرجح أن التجربة التي مرت بها الحركة في الحكم قد جعلتها تقبل بتغيير وتعديل الكثير من المواقع حتى تتمكن من البقاء والاستمرار. وقد يكون المنطق فرض على الحركة أيضا مراجعة الكثير من الحسابات بعد أن وقعت في الخطأ في تقدير نتائج الانتخابات التشريعية.
الأكيد ان البقاء خارج السلطة للسنوات الخمس القادمة قد يفقدها شعبيتها ويبعد عنها الكثير من الأنصار. والحكيم من يتقن فنون السباحة ويعرف كيف يواجه الأمواج العاتية دون ان يجرفه التيار. استطلاعات الرأي التي يتم تداولها عبر المواقع الاجتماعية تشير الى تقدم السبسي بـ54 بالمائة مقابل 46 بالمئة للمرزوقي. وهي بالطبع تبقى توقعات قد تصدق وقد لا تصدق. ولكن يبدو حتى الان وكأن زعيم حركة النهضة غير مستعد لتجاوز الاحراج الذي أوقعه فيه الرئيس المتخلي المرزوقي وتلاعبه بمصداقيته عندما وعده بمراجعة مسألة الطعون قبل أن يتجاهله ويستخف به أمام أنصاره.
كيف سيتقبل اخوان مصر هذه التحولات في حركة النهضة؟ والإجابة أيضا مرتبطة بنتائج الانتخابات ورد فعل الاخوان منها علما وأن وجدي غنيم، القيادي الإخواني الذي رُحل من قطر إلى تركيا قبل فترة لم يخفِ اشمئزازه من قبول الغتوشي بنتائج الانتخابات التشريعية وتهنئته منافسه السبسي آنذاك. وسخر غنيم من تصريحات الغنوشي وبعض قياديي النهضة التي قالوا فيها إن الديمقراطية انتصرت في تونس، وقال كيف يفرح هؤلاء بفوز العلمانيين وانتصار الديمقراطية التي تترك الشريعة والدين وراء ظهرها؟
*إعلامية تونسية/” ميدل ايست أونلاين”