عندما كنت في تونس مؤخراً كان الجدل المهيمن على الساحة بعد تصدر حزب «نداء تونس» المشهد السياسي في الاستحقاقات النيابية والرئاسية هو: ماذا تعني انتكاسة تيار الإسلام السياسي وصعود الاتجاه الليبرالي الذي ينعت عادة بأنه يمثل التجربة «العلمانية» الوحيدة في العالم العربي، أي التجربة البورقيبية. والواقع أن هذا التقويم السائد لدى الإسلاميين للتجربة البورقيبية ليس صائباً ولا دقيقاً. فعلى الرغم من إعجاب بورقيبة المعلن بالزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، إلا أنه لم يقتف أثره في تدبير المسألة الدينية، بل كان يستند على الأصح للتركة الإصلاحية التونسية التي تعود لمنتصف القرن التاسع عشر، ومن أبرز رموزها من فقهاء الزيتونة وعلمائها: ابن أبي ضياف والطاهر الحداد وسالم بوحاجب، انتهاء بعلامة تونس الكبير «الطاهر بن عاشور». كان بورقيبة ذو الثقافة الدينية الواسعة يقدم نفسه مصلحاً مجدداً للدين، ورغم مواقفه الجريئة أحياناً وتقويضه للمؤسسة الدينية التقليدية (إلغاء الأوقاف والتعليم الزيتوني الأصلي)، إلا أنه حرص على إضفاء الشرعية الدينية على إصلاحاته الاجتماعية الأكثر راديكالية بما فيها مدونة الأحوال الشخصية التي أصدرها عام استقلال تونس 1956 بإشراف مفتي تونس البارز «محمد الفاضل بن عاشور».
لم تكن تونس في عهد بورقيبة علمانية، إذا أخذنا بالتعريف القانوني للائكية من حيث هي نظام الفصل بين الاعتقاد الديني الفردي والمجال العمومي المحايد إزاء المعتقدات والديانات، فالدستور التونسي نص بوضوح على أن الإسلام هو دين الدولة، كما قنن مؤسسة الإفتاء، وأقر رعاية الدولة للشعائر التعبدية، على غرار ما هو متبع ومألوف لدى عموم البلدان العربية. ما يتم الحديث عنه إذن من علمانية بورقيبة هو من آثار المواجهة، التي اندلعت في بداية الثمانينات بين الزعيم التونسي وخصومه من «الاتجاه الإسلامي» (حركة النهضة لاحقاً) الذين وجهوا له تهم معاداة الدين ومحاربته. نفس المشهد يتكرر اليوم بتوجيه تهم مماثلة لنداء تونس ومرشحه «الباجي قائد السبسي»، مع أن المعركة الدائرة في الساحة السياسية التونسية ليست صراعاً حول المرجعيات الدينية التي لا خلاف حولها، وإنما بين الكتلة الواسعة الساعية للحفاظ على مكاسب التحديث الثقافي والاجتماعي في تونس في إطار السقف الديمقراطي الجديد، وتيار الإسلام السياسي الذي ركب موجة التغيير الثوري، وفشل في تحقيق الاستقرار والإصلاح للبلاد. استقالة أمين عام حركة «النهضة» السابق ورئيس حكومتها الأولى «حمادي الجبالي» عكست مأزق تيار الإسلام السياسي في تونس الذي تعود على تحويل الصراع السياسي إلى صراع مشاريع حضارية وأفكار، في حين أن التنازع غير قائم حول طبيعة القيم العمومية ومنزلة الدين في المجال المشترك.
ما نريد أن نبينه هو أن الخطاب الاحتجاجي لتنظيمات الإسلام السياسي في العالم العربي تمحور في العقود السابقة حول معركة وهمية ضد علمانية الدولة الحاكمة، ولما وصلت إلى السلطة في عدة ساحات عربية منفردة بالحكم أو متحالفة مع القوى السياسية التي كانت تنعتها باللائكية لم تحمل جديداً بخصوص مقاربات الأسلمة، وإنما حافظت على المرجعيات الدستورية نفسها، واتبعت من دون كفاءة عملية نفس سياسات الأنظمة التي حاربتها، إلى حد أن وزير داخلية سابق في إحدى دول المغرب العربي خاطب قادة الحزب الإسلامي الحاكم بالقول إن البلاد أضاعت فترة طويلة من الصراع في حين لم يكن المطلوب يتجاوز حقائب وزارية محدودة.
وحاصل الأمر اليوم أن العديد من قيادات الإسلام السياسي أصبحت مضطرة للإقرار بأن المسألة العلمانية مفتعلة في العالم العربي، واعية بصعوبة تعبئة قاعدتها الانتخابية حول خطابها الديني الاحتجاجي. ومن هنا التأرجح القلق بين نزوع دعوي إصلاحي فاقد للعمق النظري والأفق الروحي، ونزوع أيديولوجي راديكالي يفضي إلى حركية العنف والتكفير. كان القيادي المستقيل في حركة النهضة التونسية «الجبالي» قد دعا حزبه بعد سنة من ممارسة الحكم إلى التخلي عن السلطة في إقرار ضمني بالعجز عن تطبيق مشروع الإصلاح الطوبائي الذي استمالت به الحركة الشارع التونسي المحبط الثائر، وقد أخبرني أوانها أحد المقربين منه أنه قال له: «لقد اكتشفت بعد دخولي مكتب رئيس الحكومة أن ما يحتاج إليه الناس هو الحرية والأمن والتنمية، ونحن عاجزون عن توفيرها، أما الدين، فليس من حقنا احتكاره، فضلاً عن أنه لا خوف عليه».
* أستاذ الفلسفة والدراسات بجامعة نواكشوط/”الاتحاد” الاماراتية