تحيل إشادة الوزير الأول الجزائري، عبد المالك سلال، بعد أن استقبله، في القاهرة، الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بـ”استعادة مصر مكانتها وقوتها” إلى قراءة مفادها بأن النظامين، الجزائري والمصري، نسخة من خطة فشل واحدة، فقول سلال إن بلاده تدعم “الجهود المصرية الرامية إلى تحقيق آمال الشعب المصري وطموحاته”، يعني مباركة الجزائر رسمياً النهج الذي اختطه السيسي في قهر الشعب المصري، مباركة للانقلاب على الرئيس محمد مرسي، وكل ما تبعها، من مجزرة رابعة التي قضى فيها أبرياء، ومن عمليات دهم، واختطاف واعتقال ومحاكمات جنونية، وهلمّ جرّاً من عودةٍ إلى حكم الديكتاتورية العسكرية المطلق.
استنسخت الجزائر، في بداية عهدها بالاستقلال، نظام جمال عبد الناصر، فأممّت الأراضي من المُلاّك، وأسست نظام التسيير الذاتي للمزارع والمصانع، ولبس أول رئيس للجمهورية المستقلة، أحمد بن بلّة، قميص عبد الناصر غير المفصّل على مقاس الجزائر، فكانت نسخة ثانية غير أصلية. جاء هواري بومدين، بعد انقلاب يونيو/ حزيران 1965، فكانت له رؤيته الخاصة في تطبيق الاختيار الاشتراكي، وإن لم تكن بعيدة عن النموذج المصري. شهدت العلاقة المصرية ـ الجزائرية في بداية عهده بعضاً من عدم الوفاق، فبومدين كان يريد التحليق بعيداً عن الأجواء المصرية، وبأجنحة ليس للمخابرات المصرية فيها اليد الطولى. وبعد عامين، في يونيو كانت هزيمة 1967، طوت الجزائر صفحة العلاقة المتشنجة مع القاهرة، لتفتح جسراً جوياً لمساعدة مصر في حرب الاستنزاف ضد إسرائيل. تطورت العلاقة بعدها، وأصبح النظامان وجهين لعملة واحدة، لا يختلفان إلا في بعض التفاصيل. انسحب الأمر على السياسة العامة داخلياً، في المجالات الزراعية والصناعية، وفي تبني الاشتراكية منهجاً لبناء الدولة الحديثة. أما خارجياً، فجمعهما نهج دول عدم الانحياز الذي سارا فيه، جنباً إلى جنب، مع وجود بعض الحساسية المتبادلة، فمصر عبد الناصر كانت تتزعّم هذه المنظمة الدولية، وكانت الجزائر تطمح لتصنع لنفسها مكانةً، حاول بومدين أن تكون مستقلة عن الهيمنة المصرية.
شاركت الجزائر بفعالية قتالية على الجبهة المصرية في حرب 1973، غير أن هذه العلاقة المتميّزة سرعان ما تدهورت إثر زيارة الرئيس المصري، أنور السادات، إلى إسرائيل وتوقيعه اتفاقيات كامب ديفيد التي اعتبرتها الجزائر استسلاماً للدولة الصهيونية، وتراجعاً خطيراً عن الحقوق الفلسطينية والعربية، لتنشأ بعدها جبهة الصمود والتصدي، وتُنقل جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس.
مرّت سنوات قليلة، قتل أنور السادات، وتوفي هواري بومدين ميتة ما زالت لغزاً محيّراً. تبوّأ حسني مبارك رئاسة مصر، واعتلى سدة الرئاسة في الجزائر الشاذلي بن جديد، جلب الأخير معه سياسة انفتاحية، بشعار “من أجل حياة أفضل”، فلم يجد مثالاً قريباً يستنسخه، إلا التجربة المصرية في الانفتاح. كانت بداياتها محتشمة في الجزائر، لكنها تسارعت، في الأعوام التالية لحكم بن جديد. تخلت الدولة عن احتكار التجارة الخارجية، وأصبحت الجزائر مشرعة الأبواب، وطغت “الفهلوة” التجارية على أسواق البلاد، وتضاعفت مشكلات السكن الاجتماعي، وارتفعت البطالة، لتأتي السنوات العجاف مع الأزمة الاقتصادية، في منتصف الثمانينيات، لتزيد الأمر تعقيداً. لم يجد بن جديد، مرة أخرى، إلا اللجوء إلى أمثلة من مصر السادات ومبارك. سارع إلى فك رباط الحزب الواحد، فتناسلت من صلبه، ومن أضلاعه، أحزاب وجمعيات سياسية، لم يفكر أحد في تحضير أرضيات قانونية صلبة لإنشائها، فأتت متسرّعة، متعجّلة الخطى، لكسب ساحات سياسية، كانت غائبة عنها عقوداً طويلة. أُنشئت أحزاب على أسس دينية، وأخرى جهوية ومناطقية، وأكثرها نفعية مصلحية لا شعبية لها، إلا ما وفرته الإدارة لها من بعض الانتهازيين، ومن دعم مالي وتوزيع للريع، بدا وكأنه تقسيم لغنيمة، أو لمُلْكٍ غاب عنه صاحبُه. جاءت انتخابات 1990 البلدية، وانتخابات 1991 التشريعية، واكتسح التيار الإسلامي الصناديق، فزمجر وتجهّم وجهه، وتوعّد القيادة العسكرية بالمحاسبة والقصاص، حتى قبل أن يعتلي كرسي السلطة، فكانت له التيارات العلمانية والقيادات العسكرية بالمرصاد، أوقفت المسار الانتخابي، ومنعته من تذوّق طعم نجاحٍ، لم تكتمل فصوله بعد.
نادت القيادة العسكرية الجزائرية، آنذاك، على محمد بوضياف، فجاء من منفاه الاختياري في المغرب ملبّياً النداء، لكن غيابه الذي تجاوز ربع قرن عن الجزائر جعله يفقد بوصلة الحكم في بلاده، فكان قراره زج مناضلي جبهة الإنقاذ الإسلامية في معتقلات الصحراء في جنوب الجزائر قد أصاب سياسته الداخلية في مقتل. كان ذلك القرار بمثابة فتيل أشعل نار الفتنة في الجزائر، إذ أدى اعتقال آلاف المنتسبين والمؤيدين للجبهة، وجمعهم في محتشدات في منطقة رقان القاحلة، بمثابة إنشاء لقيادة أركان ما سيسمى لاحقاً “الجيش الإسلامي للإنقاذ”. كما أدى اعتقال آلاف المؤيدين للتيار الاسلامي إلى حالة من الاحتقان في جزء كبير من المجتمع، يدعو إلى الثورة على “الطغيان”، وإلى حمل السلاح، أقلّه للثأر، أو اقتناعاً بما أصبح يُعرف بفتاوى “الجهاد” التي لم تبخل تجارب أفغانستان، ولا التيارات الإسلامية المتشددة في بعض الدول العربية، في مد الجزائر بها. طبعاً لم يكن “الإسلاميون” في الجزائر ملائكة، ولم يكونوا منزّهين عن الخطأ، بل راكموا هم، أيضاً، تجارب الإخفاق، في الرؤية والتصوّر، وفي السبل ومنهجية العمل، فكانت النتيجة مزيجاً من التعنّت المتبادل، زاد من تفاقمه طبع الجزائريين الحاد، وسرعان ما التهبت الجزائر، من أقصاها إلى أقصاها، واكتوت، أعواماً طويلة، من نار فتنة داخلية، أتت على الأخضر واليابس.
بعد هذا العرض، تتزاحم بعض الأسئلة، ولتكن البداية من نقطة النهاية: ألا تكرر مصر، حالياً، أخطاء النظام الجزائري نفسها في التسعينيات؟ ها هي تتمسك بالقبضة الأمنية، طريقاً وحيدةً لما تعتقده حلاً لأزمتها. ألم يعتقل نظام التسعينيات في الجزائر الإسلاميين، ألم يشرّد عائلاتهم، ألم يلاحق الطلبة في حرم الجامعات، ألم يسلّط آلته الإعلامية ضدهم، ألم “يُشيطنهم”، كما وصف أحد منهم ما جرى لهم؟ ألم يرفع النظام لواء “نحن أو هم” في توصيفه المعركة التي قادها ضد منتسبي الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ ألم يقل رضا مالك، رئيس الوزراء الجزائري يومها، “يجب أن ينتقل الرعب إلى صفوفهم”؟ ألا يقول عبد الفتاح السيسي القول نفسه اليوم؟
بعد فترة من الاقتتال الشرس، انتبهت الجزائر إلى ضرورة تجريب مشاركة التيار الإسلامي “المعتدل” في الحكم، فكانت مشاركة حزب “حمس”، المحسوب على تيار الإخوان المسلمين، في “المجلس الوطني الانتقالي” الذي كان بمثابة البرلمان غير المنتخب في منتصف التسعينيات، كما حمل بعض أعضاء حزب محفوظ نحناح حقائب وزارية غير سيادية، وهي مشاركة شكلت أولى لبنات المصالحة الوطنية في ما بعد، غير أن الظاهر في ما يجري في مصر أن فكرة الإقصاء ما زالت مسيطرة على القاهرة، حيث لا تريد مراجعة نفسها في السياق نفسه، ولا تترك باباً لمشاركة سياسية حقيقية من شأنها أن تُبعد عنها شبح أي تأزّم أمني.
يحيلنا المشهد المصري الحالي إلى إعادة الفيلم الدرامي الجزائري من جديد، فالنتائج، بحسب البدايات، وما يجري في مصر حالياً هو بداية انفعالية عمياء، لا تأخذ ما سبقها من تجارب غيرها في التعامل مع الشأن الداخلي في الحسبان. قد يقول قائل إن الظروف تختلف، لكني أقول إن “طبائع الاستبداد” واحدة، والمآلات بالضرورة واحدة. قد يقول آخر إن الحركة الإسلامية في مصر قد نأت بنفسها عن ممارسة العنف، وإن لها من التجارب ما يكفي لحماية نفسها من الاختراقات التي قد يمارسها النظام ضدها. لكن، مَن يضمن أن العنف لا يكون من مصادر أخرى؟ ومَن يؤكد، أيضاً، أن ما يجري، حالياً، في سيناء ليس عملية توريط مقصودة يُراد بها دفع بعضهم إلى ارتكاب حماقات، من حيث يحتسب أو لا يحتسب؟ لا أحد يستطيع الجزم بحقيقة ما يجري، وخصوصاً أن كمين “كرم القواديس” في شمال سيناء، والذي أودى بحياة 31 عسكرياً، تبنته جماعة “أنصار بيت المقدس”، ما زاد في الطين المصري بلّة.
لم يستوعب النظام المصري الدرس الجزائري بعد. بل وزايد في الأمر، فأطلق العنان لزبانيته من “حملة المباخر” لتطويق مصر إعلامياً. ولم تستفد الجزائر، أيضاً، من أي تجربة مصرية سابقة، فلا الاشتراكية فلحت، ولا الانفتاح الشرس أتى أُكُله بما ينفع الناس، ولا الاقتصاد عرف نمواً بما يضمن للسكان رغد العيش. فالمحسوبية والرشوة والفساد ضارب أطنابه في عمق مجتمع الأعمال، ويعمل جاداً على إفساد المجتمع برمته، رافعا شعار “إذا عم الفساد هان”.
ولم تشذ أزمة كرة القدم العام 2009 بين مصر والجزائر عن القاعدة، فالاختلاف جُيّر، أيضاً، هذه المرة لمصلحة النظامين. كانت مهمة النظام المصري فعل المستحيل لتوريث الرئاسة لجمال مبارك، وكان لنظام الجزائر مآرب أخرى في تعبئة الجماهير من أجل انتخابات برلمانيةٍ، لصالح أحزاب السلطة، وتحضير عهدة رابعة لفخامة الرئيس بوتفليقة، ولو على كرسي متحرك.
اليوم، تعود العلاقات بين النظامين “سمن على عسل”.. عادت اجتماعات اللجنة العليا المشتركة إلى الانعقاد، لا لتخدم مصلحة الشعبين، كما قيل عنها في ديباجة لقاء القاهرة أخيراً، ولكن، للعمل من أجل تثبيت نظام عربي موحّد، لا مجال فيه للحرية والديمقراطية والتداول على السلطة.
* إعلامي جزائري/ “العربي الجديد”