بات واضحاً حتى لمن لا يعرف من السياسة غير اسمها أن الولايات المتحدة التي تحتكر، منذ 1991، رعاية مفاوضات ثنائية لتسوية الصراع العربي الصهيوني، وجوهره القضية الفلسطينية، ليست مجرد منحازة لشروط إسرائيل ومطالبها، فحسب، بل معادية لحقوق الشعب الفلسطيني المكفولة بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، أيضاً. ما يعني أن الولايات المتحدة هذه لم تكن ولن تكون في وارد الضغط على حكومات الاحتلال لإلزامها بتسوية الصراع وفق مقاربة “الأرض مقابل السلام” التي لم تفضِ إلى استعادة أرضٍ ولا جلبت سلاماً، ولا أوقفت حتى سياسة العدوان والاستيطان والتهويد.
اتهام الولايات المتحدة بالعداء للشعب الفلسطيني وقضيته وللحد الأدنى من حقوقه الوطنية ليس اتهاماً اعتباطياً أو أيديولوجياً مسبقاً، بل اتهام تزكيه تجربة 25 عاماً، لم تمارس الولايات المتحدة خلالها الضغط على أيٍ من حكومات الاحتلال، بما فيها أشدها تطرفاً وعنصرية وفاشية، حكومة نتنياهو، التي تستهدف إنهاء الصراع وفق رؤية صهيونية تريد “فلسطين يهودية كما هي انجلترا انجليزية وهولندا هولندية”، كان بدأها هيرتسل بالإنكار المطلق لوجود الشعب الفلسطيني: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، ويختمها نتنياهو اليوم بالإقرار الشكلي بوجود الفلسطينيين كمجموعات سكانية تعيش تحت سيادة “الدولة القومية للشعب اليهودي”، لهم حق التمتع بحقوق فردية في مناطق 48، وإقامة “سلطة حكم إداري ذاتي مُسيطر عليه براً وجوا” في الضفة بلا القدس، ومفصول عن قطاع غزة المُسيطر عليه، (يعني المُحتل)، براً وبحراً وجواً. ما يعني أننا في البدء والخاتمة أمام إنكار لحقيقة أن الفلسطينيين شعب له الحق في تقرير المصير وبناء دولة مستقلة وسيدة وعاصمتها القدس، وللاجئين منه الحق في التعويض والعودة لديارهم التي شردوا منها، وللصامدين منه على أرضهم في مناطق 48 حقوقاً وطنية.
إذاً مشكلة الشعب الفلسطيني ليست مع حكومات الاحتلال، فقط، بل مع راعيها الولايات المتحدة، أيضاً. وبالتالي، فإن مسؤولية عدم التوصل إلى تسوية سياسية للصراع طيلة 25 عاماً خلت من المفاوضات، تقع، أساساً، على عاتق الولايات المتحدة، بإداراتها المتعاقبة. والأنكى هو أن الولايات المتحدة هذه تصر على إدامة احتكارها لملف القضية الفلسطينية، وكأنه حق أصيل وحصري لها لا مجال للتنازل أو التراجع عنه، وعلى إطالة أمد المفاوضات العبثية إلى أجل غير مسمى، بل وعلى اعتبار لجوء الطرف الفلسطيني إلى هيئة الأمم، ولو في حدود مطالبة مجلس الأمن الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال عن الضفة وقطاع غزة، مع الاستعداد لاستئناف المفاوضات، “خطوة أحادية” تقابل بالرفض والضغط والابتزاز والتهديد والوعيد، بل وبتفعيل كل أوراق القوة الأميركية، وتجنيد كل حلفائها، وما أكثرهم، من دول الإقليم والعالم ضدها.
أما الخطوات الأحادية لحكومات الاحتلال التي لم تتوقف منذ بدء المفاوضات وحتى اليوم عن سياسة الاستيطان والتهويد والقتل الممنهج والاستباحة الشاملة، بل ولا حتى عن سن “قوانين أساسية” تُمأسس وتقونن العدوان والتوسع، وترفع العنصرية إلى حدود الفاشية، ولا تترك متسعاً لحل وسط أو تسوية سياسية للصراع، بل وتحوله من صراع سياسي إلى صراع ديني، فليست من وجهة نظر الولايات المتحدة “خطوات أحادية” تدفع نحو إنهاء تعاقد اتفاق أوسلو سياسياً وأمنياً واقتصادياً، بل نحو استمرار التمسك بهذا التعاقد، ونحو مواصلة الرهان على الراعي الأميركي، ونحو تقديم المزيد من التنازلات المجانية، وكأنه تبقى بحوزة القيادة الفلسطينية أوراق قوة غير فك هذا التعاقد السياسي، والتنصل من التزاماته، وتفعيل واستنهاض وتعبئة العامل الشعبي، لإخراج ملف القضية الفلسطينية من القبضة الأميركية، والدعوة إلى مؤتمر دولي في إطار هيئة الأمم مرجعية وقرارات، لإلزام إسرائيل بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالصراع، بما فيها القرار 194 القاضي بتعويض اللاجئين وعودتهم إلى ديارهم التي شردوا منها بفعل أبشع عملية تطهير عرقي مُخطط عرفها التاريخ المعاصر للبشرية.
إن الولايات المتحدة بعدائها للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وحقوقه المكفولة بقرارات دولية تتحمل مسؤولية التغطية على إفشال حكومات الاحتلال لإمكان تسوية الصراع طيلة 25 عاما خلت، بل تتحمل أيضاً مسؤولية تعقيد هذا الصراع، وإطالة أمده إلى أجل غير مسمى، وتحويله إلى اشتباك مفتوح على المجهول المهول من إزهاق الأرواح وسفك الدماء بفعل سكوتها، أي الولايات المتحدة، على تنامي الفاشية الصهيونية بقيادة حكومة نتنياهو، كفاشية تجتاح إسرائيل مجتمعياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً، وتتعاظم وتشتد يوماً بعد يوم، وتعبر عن نفسها في القتل الممنهج للفلسطينيين على يد جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين الفالتة من كل عقال، وفي استخدام سياسة الدمار الشامل والإبادة الجماعية في الحرب الأخيرة على قطاع غزة، وفي الإمعان في تهويد القدس وتكثيف التوسع الاستيطاني في الضفة.
وكل ذلك مترافقاً مع سياسة غطرسة وإملاءات لن يكون آخرها إقرار حكومة نتنياهو لمشروع قانون “إسرائيل دولة للشعب اليهودي”، تمهيداً لعرضه على “الكنيست” لإقراره كقانون أساس، (أي مُحصَّن)، يستهدف تصفية حقوق الشعب الفلسطيني من جميع جوانبها، ويجعل كل حديث عن تسوية الصراع بالتفاوض الثنائي برعاية أميركية بلا معنى، ببساطة لأننا أمام قانون يلغي رواية كاملة، هي رواية الشعب الفلسطيني، الذي كما لم يسلِّم ولم يستسلم طيلة قرنٍ، رغم هول ما أُرتكب بحقه من جرائم، ورغم ما واجه من اختلال في ميزان القوى، لن يسلم ولن يستسلم لهذا القانون، النكبة، بل سيناضل ضده بكل ما أوتي من أوراق قوة ووسائل دفاع مشروعة، بعدما أعطى فرصة عمرها 25 عاماً لخيار التفاوض لأجل تسوية الصراع، ونيل الحد الأدنى من حقوقه الوطنية في العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس. لكن إدارات الولايات المتحدة التي غطت صلف حكومات الاحتلال وغطرستها، بل وفاشيتها، هي من دفن هذا الخيار، حيث أثبتت أنها لا تريد تسوية الصراع على قاعدة “الأرض مقابل السلام”، كواحد من شعارات مضللة كثيرة رفعتها بعد فوزها في “الحرب الباردة”.
ولا عجب. فهذه ليست سوى واحدة من عواقب سياسة الولايات المتحدة الهجومية بعد أن صارت قطباً أوحد للسياسة الدولية ومؤسساتها وقراراتها. يقول المفكر والأديب اللبناني الكبير أمين معلوف في كتاب قيم بعنوان “اختلال العالم”:
“لعلنا نجد هنا العاقبة الأكثر مفارقة والأكثر فساداً لانتهاء الحرب الباردة، هذا الحدث الذي كان يفترض أن يحمل السلام والمصالحة، لكنه أتبع بسلسلة من النزاعات المتوالية، راحت أميركا من خلالها تقفز من حرب إلى أخرى دون مرور بمراحل انتقالية، كما لو أن الأمر بات “نهج حكم” لسلطة كروية بدلاً من أن يكون وسيلة أخيرة. إن اعتداءات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 الفتاكة لا تكفي لتفسير هذا الانحراف؛ فهي قد عززته وشرعنته جزئياً، لكنه كان قد ابتدأ قبلها بكثير. ففي كانون الأول/ ديسمبر 1989، بعد مرور ستة أسابيع على سقوط جدار برلين، تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً في باناما ضد الجنرال نورييغا، وكانت هذه الحملة الأشبه بأعمال المداهمة البوليسية بمثابة إعلان يقول: على كل فرد أن يعرف بعد الآن من هو آمر هذا الكوكب، وأن يطيع، لا أكثر ولا أقل. ثم جاءت حرب العراق الأولى سنة 1991؛ فالمغامرة الفاشلة في الصومال خلال 1992-1993؛ ثم التدخل في هايتي سنة 1994 لتنصيب الرئيس جان-برتران أريستيد في الحكم؛ ثم حرب البوسنة سنة 1995، ثم في كانون الأول/ ديسمبر 1998، حملة الغارات الجوية الكثيفة على العراق التي سميت “عملية ثعلب الصحراء”؛ ثم حرب كوسوفو سنة 1999؛ وابتداء من سنة 2001 حرب أفغانستان؛ وابتداء من سنة 2003 حرب العراق الثانية؛ وسنة 2004 حملة عسكرية جديدة على هايتي لخلع الرئيس أريستيد هذه المرة. ناهيك عن الغارات الجوية التأديبية والأعمال العسكرية الأقل ضخامة في كل من كولومبيا والسودان والفلبين وباكستان، وأماكن أخرى”.
*كاتب فلسطيني