بقدرة قادر، أو بسحر ساحر، أخرج «العرب» أنفسهم من ميدان المواجهة مع تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» واسم الشهرة «داعش»، وتركوا الأمر لصاحب الأمر حامي حمى الإسلام (والعروبة؟): الولايات المتحدة الأميركية، ومن تختار من حلفائها الغربيين (وبعض العرب) ممن يرغب في تخليص عالم القرن الحادي والعشرين من هذه الآفة الخطيرة التي تهدد الحضارة الإنسانية، وتسعى لتدمير التاريخ وإعادة العالم العربي ـ الإسلامي إلى الجاهلية.
من قبل، حدثت تجربة مماثلة وحققت نجاحاً باهراً: أخرج العرب أنفسهم، بأكثريتهم الفاعلة (جيوشاً ومالاً وخبرات) من ميدان الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتركوا لصاحب الأمر حامي السلام والاستقرار في «العالم الحر»، قضيتهم المقدسة، فلسطين، يقضي فيها بما تشاء عدالته، وجلسوا ينتظرون.. ولأن إجراءات العدالة الدولية بطيئة والعدو الإسرائيلي يعرف أهمية الوقت، بينما العرب يؤمنون بالمقادير، فقد انتهى الأمر بأن خرج العرب من فلسطين نهائياً وتركوها «للعدالة الدولية» التي تحرسها العين الأميركية الساهرة معززة بالسلاح الإسرائيلي المتفوق، حتى من قبل مفاعل ديمونا النووي.
أين وجوه التشابه في الميدانين؟
إنها أكثر من أن تُحصى! ليس أولها الغفلة العربية التي تتمثل في ألف وجه ووجه، قد يكون أهمها أن «الدولة» بين أنظمتهم الحاكمة نادرة الوجود، وأنها حيثما وجدت فهي «مصادرة» من حاكمها وحاشيته أو من أصحاب المال. والمال صاحب نفوذ لا يحد، ثم إنه يملك «مشروعه»، ولديه القدرة على تطويع «النظام» الآتي من خارج الإرادة الشعبية، أي تلك اللعنة المسماة بـ«الديموقراطية»، لمصالحه التي يمكن أن تصبح شركة مساهمة لكل قادر فيها نصيب بحجم قدراته!
وبالعودة إلى «داعش» وقدراتها غير المحدودة في خلخلة ما كان يسمى قديماً «النظام العربي»، والذي كان قد باشر مسيرة انهياره عبر انتفاضات الميدان، انطلاقاً من تونس، قبل أربع سنوات، فإن مصدر قوتها الأساسي ـ كما دلت التجربة ـ تمثلت في ضعف الأنظمة التي واجهتها أكثر مما في جحافل غزوها الآتي من الجاهلية بسيارات يابانية وآليات تواصل أميركية وتسهيلات تركية وتشكيلة سلاح «أممية».
كانت السماوات العربية مفتوحة والأرض تمتد أمامهم بلا حدود ولا من يحرس الحدود، لأن الجيوش كانت مشغولة ومبعثرة ومنهكة بصراعات الداخل التي لم توفر أي سلاح، بما في ذلك المحرمات كالطائفية والمذهبية والجهوية والعشائرية في «حروبها» على السلطة. وبالتالي، فقد كانت «الدول» مغيبة ومتهالكة، تتوزع أرجاءها تنظيمات مسلحة هي انعكاس للصراع على السلطة بين «المكوّنات الفاعلة» التي استدعت «التدخل الدولي» سياسياً، في البدايات، ثم مخابراتياً، إلى ان تلاشت «الدول» المعنية وبرزت إلى السطح صراعات القوى الفاعلة وذات القدرة على التأثير، على أطراف السلطة، خصوصاً أن «المال العام» صار منهبة مفتوحة، فصارت الطريق سالكة وآمنة أمام «التدخل من فوق» أي بالطيران الحربي، ثم تبدت الحاجة إلى العمل العسكري على الأرض، فاستُقدم «الخبراء» ثم «الأدلاء» وبعدهم المدربون أصحاب الخبرات في «الحروب الأهلية»، وقد نظموا أو شاركوا في الإشراف على العديد منها في مختلف أنحاء العالم.
اختلف الزمان وتبدلت المعايير.. وهكذا فتح العرب سماواتهم وأراضيهم أمام طيران «الحلفاء الجدد» ممن كانوا يوصفون بـ«الامبريالية» (أميركا) والاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) ومعهم من رغب فطلب من أصدقائهم (أهل الأرض) الحكام العرب، ففتح هؤلاء خزائن الذهب، وتحملوا الخسائر المقصودة في مداخيلهم من النفط والغاز. بل إن هؤلاء «المحررين» قد طلبوا فاستجيب إلى طلبهم بأن يشارك بعض طيرانهم الحربي ـ بأعلامه العربية المميزة ـ بطيارين وطيارات (كان ظهورهن أمراً مفرحاً) من أبنائهم وبناتهم، فلذات أكبادهم المتحدرات من «قحطان»، في هذه الحرب المقدسة ضد مشوّهي الدين الحنيف.
لقد جمع «العدو الجديد» الآتي من أعماق الجاهلية، معززاً بأحدث الأسلحة وآخر ما تم ابتكاره في عالم الاتصالات، أشتاتاً من الناقمين والغاضبين والمحبطين والمغامرين في أربع رياح الأرض العربية، وكذلك في المغتربات الأوروبية على وجه الخصوص، ثم الأميركية، تحت لواء «القاعدة» في البدايات، ثم بالاستقلال عنها بعدما انتبه المنظمون الجدد من أعضاء ذلك التنظيم الذي باغت العالم كله بقدراته، إلى ابتعاد «القاعدة» عن الشؤون والشجون في البلاد العربية وأولها وأخطرها: إسرائيل.
في الماضي القريب، وإلى ما قبل اتفاقات الصلح مع من كان يحتكر صفة «العدو» بالنسبة للعرب، إسرائيل، كانت فلسطين هي «القضية».. في ظلال الكفاح من أجل تحريرها يتلاقى «المجاهدون» مع الأنظمة التي وصل رجالها إلى السلطة باسم «فلسطين» وحكموا طويلاً باسمها.
أما وقد تراجعت «القضية المقدسة» عن موقع الصدارة في اهتمامات النظام العربي الذي قامت «شرعيته» على أساس «أنه ذاهب إلى فلسطين»، ثم وجد من الأعذار ما يشغله عنها: فلا بد من بناء «الدولة» بجيشها أولاً، ثم بمؤسساتها المؤهلة والقادرة على الإسهام في بناء الدولة القوية والمؤهلة للانتصار. وعلى هذا فلا بد من «تصفية كل القوى المعادية التي ترتبط بالإمبريالية والاستعمار»، ولا بد من العمل على توحيد العرب وبناء قدراتهم المؤهلة لمواجهة هذه «الدولة العصرية» التي يحتضنها الغرب كله ويحرص على جعلها الأقوى من العرب مجتمعين.
كانت العقبة تتمثل في القوى السياسية المنظمة، قومية وتقدمية ووطنية. وكان لا بد من استيعابها بمختلف الوسائل، عبر الرشوة بالوظيفة أو بإشراكها في المغانم، وإلا فالسيف والسجن.
وعبر صراع الأنظمة مع المجتمعات التي حكمتها، تمت تدريجياً إعادة الاعتبار إلى الشعار الديني، باعتباره قد يكون طريق الخلاص. ولقد ساهمت هذه الأنظمة في تعزيز بعض التنظيمات الإسلامية، سواء عن طريق إشراكها في السلطة بموقع خلفي، أو عن طريق تشجيعها على العمل في الأرياف لاستقطاب المتدينين وضمان ولائهم للسلطة.
تعددت الرايات الإسلامية بتعدد الأحزاب والحركات السياسية التي رفعت شعار «لا إله إلا الله»، وسُفكت دماء غزيرة في العديد من الأقطار العربية (والإسلامية) باسم الدفاع عن الدين أو تحت راية إعادة الدين إلى مواقع الحكم، وبالخلافة أساساً.
ارتدى عسكريون يحكمون شعوبهم بالانقلاب ملابس الأولياء الصالحين، وتقدموا الصفوف يؤمون صلاة الجمعة ويخطبون موظفين الآيات البيِّنات لأغراض سياسية مباشرة.
نبت فجأة مشايخ بعمامات بيضاء أو سوداء، تديّنهم محدث… واتُّهم الملايين من المسلمين البسطاء بالكفر أو الزندقة، وصار الحكم على التدين «سياسياً» من خارج منطق الإيمان.
سقطت رايات النضال الوطني والقومي والتقدمي لأن حَمَلتها اشتبكوا في ما بينهم، وانقسموا فاشترت «الأنظمة» بعضهم ووظفتهم في خدمتها وفي محاولة تبييض سجلها أمام «رعاياها».
سقطت الحصانات المعنوية (والمادية) للأنظمة، التي بشكل أو بآخر عادت إلى «بيت الطاعة»، فأوقفت حربها على «الامبريالية» بمعاهدات الصلح مع إسرائيل أو بمهادنة العدو القومي.
دُمّرت غزة مرات ومرات، والرايات الاسلامية خفاقة فوق بيوتها التي جعلها القصف الإسرائيلي المنهجي أثراً بعد عين. فلم يتحرك نظام عربي للدفاع أو للتهديد بقطع العلاقات، أو لمطالبة الصديق الأميركي الكبير بالتدخل.. ولو لمنع المزيد من الإحراج!
برغم ذلك، رأى «الخليفة» الآتي من سجن طويل في بغداد، أن الوقت قد حان لإعلان «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، فالكل مشغول عنه. والصراعات السياسية التي اتخذت مضموناً طائفياً قد تفجرت حروباً في كل من سوريا والعراق، ورمت بانعكاسات ثقيلة الوطأة، على جوار هاتين الدولتين وصولاً إلى اليمن، ما أكد تهمة التدخل على إيران، بما تستثيره من ذكريات الماضي البعيد بصراعاته المذهبية.
ولقد وجد «الخليفة» في موقف العداء التركي لسوريا، والخلافات التركية مع العراق والسعودية، ما يشجعه، فانطلق بغزوته مفيداً من نقاط الضعف، ليقاتل الدولتين في كل من سوريا والعراق.
وهكذا فتح «الخليفة»، بالتواطؤ من موقع التضاد مع الأنظمة الحاكمة، الباب على مصراعيه أمام عودة الاستعمار بالطلب، بل بالرجاء، وبشروطه، لترفع إسرائيل رايات الانتصار خفاقة على العرب والمسلمين مجتمعين.. لا سيما وقد مد الإرهاب نفوذه الدموي في اتجاه مصر ليشغلها فيصرفها، ولو إلى حين، عن دورها القيادي الذي لا يُعوَّض: عربياً وإسلامياً.
إبحث عن تركيا، بحكمها الإسلامي، داخل «حلف الأطلسي»، وتحالفها الإستراتيجي مع إسرائيل، و«التسهيلات» التي قدمتها وما تزال لجيوش «الخليفة» الذي يبيع النفط المصادر من أهله لـ«السلطان» التركي بأقل من سعر الكلفة.
.. والكفاح دوَّار!
* صحافي لبناني/ “السفير”