لم يكن العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة مجرد عدوان عابر، فقد كان عرضاً جديداً من عروض القوة المتبادلة، فقد أثبتت فيه المقاومة قدرتها على الصمود والتصدي وإلحاق الأذى بالقوى المعتدية، وأثبت العدوان فيه قدرته على القتل والتدمير دون محاسبة أو رقيب، وقد دفع المواطن الفلسطيني في قطاع غزة جراء هذا العدوان فاتورة غالية التكاليف من أمنه وسكنه ودمائه، وأحال ربع سكان القطاع إلى مشردين دون مأوى، وكان معظمهم من أبناء قطاع غزة الأصليين ليتساوى معظم سكان القطاع في صفة (التشرد واللجوء)، بعد ما حل من دمار كارثي لمناطق الغلاف في قطاع غزة مثل بيت حانون، وبيت لاهيا، والشجاعية، وبني سهيلة، وخزاعة، والزنة، وشرق رفح، من مدن وقرى وأحياء غلاف غزة، والتي تركز فيها ميدان القتال وأهداف العدوان.
فقد أحال العدوان قطاع غزة إلى منطقة منكوبة، وأحال الحياة فيها إلى جحيم، لا يقوى على تحملها البشر ما يضع غزة وسكانها أمام تحدٍ بالغ الخطورة والصعوبة، (إنها مسألة كارثية)، تنتظر التحرك الفوري (الإسرائيلي – والعربي والدولي) للتصدي لها، وحيث ندرك أو لا ندرك أن هدف العدوان الإسرائيلي كان توجيه رسالة قوية كاوية للوعي الفلسطيني، أنه لن يتهاون إزاء أية أعمال للمقاومة المسلحة من قطاع غزة وليحول المجتمع الفلسطيني فيه إلى ضاغط على قوى المقاومة لوقف نشاطها، وفرض معادلة جديدة تحكم العلاقة بين دولة الاحتلال والقوى المسيطرة عليه، هنا تبرز الإشكالية الرئسية لإعادة إعمار ما دمره العدوان وحل المشاكل المترتبة عليه من إيواء للمشردين وخلق فرص عمل تقضي على البطالة والفقر ووضع حد لحالة البؤس التي تلف قطاع غزة، لقد تمكن الاحتلال الإسرائيلي أن يفرض على المجتمع الدولي دوراً مركزياً له في ذلك من خلال جملة من الاشتراطات على عملية إعادة الإعمار كشفها المبعوث الأممي للشرق الأوسط (روبرت سيري) أن الأمم المتحدة توسطت للتوصل إلى اتفاق بين (إسرائيل) (والفلسطينيين) حول إدخال مواد البناء والإعمار إلى غزة، وفق آلية تضمن عدم استخدامها من قبل حركة حماس لأغراض أخرى، وقد دعا السيد (روبرت سيري) إلى التحرك السريع لتغيير الأوضاع في غزة بشكل جذري لأجل تلبية الاحتياجات الملحة، وإحلال الاستقرار فيها، محذراً في الوقت نفسه أن الأزمة لم تنته بعد، وإنه في حال عدم المسارعة إلى ذلك (فإن غزة ستنفجر من الداخل، أو أن النزاع فيها سيفجر مرة أخرى ربما من خلال جولة جديدة تكون أكثر تدميراً وعنفاً من السابق)، يبدو ذلك أنه سيكون شرطاً أساسياً لنجاح مؤتمر الإعمار الذي تدعو إليه كل من مصر والنرويج والسلطة الفلسطينية، والمزمع عقده في الشهر القادم في مصر، وإذا عرفنا أن الدول والمجتمع الدولي بصفة عامة ليسوا جمعيات خيرية تقدم المال والإحسان والصدقات للغير سواء في الحروب أو النزاعات أو حتى في مواجهة الكوارث والنكبات دون شروط، ندرك أن الدول المانحة لن تقدم أي دعم يذكر لإعادة إعمار غزة دون توفير الضمانات الكافية لعدم تجدد العدوان وتدمير ما سيتم إعماره، وهنا تبرز أهمية إشكالية الأمن والسلام الدائم من أجل توفير المناخ الملائم لإتمام عملية الإعمار المستهدفة، وإلا سيبقى وضع القطاع وضعاً كارثياً لا يطاق، ويهدد بانفجار غزة من الداخل في وجه اقوى التي تفرض تحكمها وسيطرتها عليه، أو تجدد العدوان والعنف والقتل والدمار بصورة تتفوق على ما جرى سابقاً، فغزة اليوم تقف على مفترق طرق بين الانفجار والإعمار، ما يعطي أهمية قصوى للتحرك الفلسطيني الدبلوماسي الذي تقوده م. ت. ف والسلطة الفلسطينية في التوجه للأمم المتحدة في دورتها السنوية الحالية التي ستبدأ خلال أيام، على إعادة إحياء دورها واستصدار قرار ملزم يؤدي إلى إقرار السلم والأمن في المنطقة وفق جدول زمني يؤدي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية، وتوفير الضمانات التي تكفل حماية الفلسطينيين من بطش الإحتلال وإعتداءاته، وإلا فإن الوضع الكارثي سوف يستمر في قطاع غزة وغيره من الأراضي الفلسطينية إلى أجل غير معلوم، ويبقى الوضع متأزماً ومتفجراً وآثاره عندها لن تتوقف على الجغرافيا الفلسطينية.
*عضو المجلس الوطني الفلسطيني – المدير العام لمكاتب اللجنة الشعبية لمساعدة الشعب الفلسطيني بالمملكة – الرياض