يعتقد كثيرون في العالم أنّ ما يحدث بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبرعاية أميركية، لا يعدو كونه نوعا من إدارة الصراع. ولذلك، تسعى القيادة الفلسطينية إلى الذهاب إلى الأمم المتحدة لفرض حل الصراع. لكن الحقيقة أنّ ما يجري منذ عقود من قبل الإسرائيليين والأميركيين، هو عملية تحويل للصراع؛ جوهرها إجبار الفلسطينيين على تغيير أنفسهم، وتاريخهم، ومعتقداتهم، وقيادتهم، وتغيير تعريفهم لقضيتهم، بل وتغيير تعريفهم “للطرف الآخر”، وأن يتخيلوا أنفسهم بطريقة مختلفة عن الواقع.
تنقسم مناهج التعامل مع الصراعات عالميا إلى ثلاثة أنواع رئيسة: أولها، إدارة الصراع؛ حيث المطلوب احتواء الصراع وتقليل مظاهره العنيفة، من دون طموح كبير أو اهتمام حقيقي بحله وإنهائه في المدى المنظور. وثانيها، حل الصراع؛ ويركز على مسببات الصراع ومحاولة حلها. وثالثها، هو منهج تحويل الصراع؛ ويقوم على التعامل مع أطراف الصراع وبيئته أكثر من التعامل مع أسبابه وقضاياه. وربما يحتاج هذا المنهج الثالث إلى مراجعة فلسطينية وعربية لفهمه وتبنيه.
ما تقوم به حركتا “حماس” و”فتح”، منذ سنوات، هو محاولة إدارة الصراع بينهما، بهدف تقليص مظاهره العنيفة. وهناك جهود لم تثمر كثيراً بعد لحل الصراعات على مستوى الخلاف بشأن القضايا الاستراتيجية، اللّهم أنّ “حماس” تتبنى تدريجيا مواقف سياسية من مستقبل القضية الفلسطينية، أقرب إلى مواقف منظمة التحرير الفلسطينية.
على الصعيد الإسرائيلي، فإنّ منهج تحويل الصراع الذي نظّر له علماء بارزون منذ نهاية التسعينيات (نظروا له بعيداً عن القضية الفلسطينية وبشكل عام أكاديمي؛ ومن أبرزهم أوليفر رامسبوثام من جامعة برادفورد، وتوم وودهاوس من جامعة برادفورد، وهيو ميال من جامعة كنت)، يقوم على التركيز على التغيير في عقلية وسلوك وأيديولوجيا واهتمامات ومصالح المتصارعين، وتغيير بيئة الصراع ومواقف المحيطين فيه، كسبيل للوصول إلى حل للصراع؛ لأن التركيز على أسباب الصراع ذاته، مع استمرار الأطراف ذاتها، لن يؤدي إلى حل. وتغيير أطراف الصراع يعني العمل على التأثير في توجهات وأفكار القيادات والجماهير.
ويجد الناظر للحالة الفلسطينية أنّه، وبشكل مقصود وغير مقصود، صارت هناك عملية “تحويل”. فالخلاف الداخلي بين “حماس” و”فتح” لم يكن ليحدث ويتصاعد لولا خلافات واختلافات أساسية في أفكار وبرامج وشخصيات وأيديولوجيا ومصالح الطرفين. وإسرائيلياً، فإنّ العمل على تحويل المجتمع الفلسطيني، وتحويل الثورة الفلسطينية إلى سلطة، وتحويل الثائر إلى موظف وبيروقراطي، وتحويل الاهتمامات من اقتصاد مقاومة إلى تنمية وفق معايير الدول التقليدية المستقلة، كانت جزءاً من عملية تحويل.
وتحويل تعريف الصراع من قضية الوطن الفلسطيني وكل الفلسطينيين في كل مكان، خصوصاً اللاجئين وأراضي الاحتلال الأول (1948)، أو قضية مناهضة احتلال كولنيالي، إلى قضية دولة وحدود على جزء من فلسطين، وبالتالي قضية جزء من الفلسطينيين (على الأقل يتم استثناء فلسطينيي أراضي الاحتلال الأول من عملية صنع القرار والتفاوض).. كل ذلك أدى إلى عملية تحويل، تبعها رفع المطالب الصهيونية أكثر بطلب الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية (وهي عملية تتعلق في صلبها بالخطاب الفلسطيني، وبالتفكير والمعتقدات والصور العقلية المتبناة عن التاريخ والوطن والجغرافيا والعاطفة الإنسانية والوطنية، وبكيف يتخيل نفسه ومستقبله).
تغلب على التفكير السياسي دائماً فكرة أنّ الوضع حرج ولا ينتظر ترف الفلسفة. والحقيقة أنّ الصراع طويل، وبموازاة الإجراءات العاجلة السياسية، يجب التفكير في عملية سريعة أيضاً، ولكنها مركبة وشاملة، وبالتالي ربما تستغرق وقتا، للعودة للعمل على الشخصية الفلسطينية وحركته الوطنية، وكيف يرى نفسه.
وواقع الأمر أنّه إذا بدأ الفلسطينيون والعرب يعودون إلى الينابيع في رفض الاستعمار الإحلالي الصهيوني، ومواجهة الغرب بأنّه بدعمه (إسرائيل) فهو يواصل عملية استعمار كولنيالي؛ وإذا عاد الفلسطيني إلى جذوره الوطنية باعتباره يُعبّر عن كل فلسطين، وبأنه جزء لا يتجزأ من محيط عربي له هويته الخاصة، المنفتحة على الإنسانية في الوقت ذاته، فإنّ هذا تغيير للخطاب الفلسطيني، وجزء من عملية تعبئة شاملة. وسيكون هذا نوعا من شن الحرب الموجعة أيضاً ضد كل مخططات الإذابة (التحويل) الأميركية الإسرائيلية، وسيؤدي إلى توجيه رسالة قوية بشأن مستقبل الأداء الفلسطيني.