هل تملك التيارات الإسلامية الجزائرية، الراهنة، مرجعية فكرية وعقائدية لا تتناقض مع الهوية الوطنية، ومع أسس الحداثة المادية والثقافية والروحية؟ أليس تعدد أحزابها معادلا موضوعيا لتباين ولاءاتها؟ وهل تملك مشروعا واضحا أساسه الفكري والروحي العصرنة ومبدأ الحريات، أم أنها لا تزال تبحث عنه بكثير من الارتباك والنكوص إلى الماضي البعيد، فضلا عن غياب وضوح وانسجام الرؤية؟
لابد من القول بأن المشكلة الأولى التي لم تستطع الأحزاب الإسلامية الجزائرية أن تحسمها لتنطلق في نشاطها السياسي-بجرأة وعلى أساس العلم والاستراتيجيات الفكرية والثقافية، والبرنامج العملي المقنع، والاعتدال العقائدي، وتقديم الضمانات المبدئية للالتزام بحقوق الإنسان والمواطنة، والحريات الفردية والعامة، وبشرط التداول على الحكم في إطار المصداقية الأخلاقية والاحتكام إلى محك الممارسة- تتمثل في عدم انفتاحها على تنوع النخب المثقفة والشرائح الشعبية بكل أطيافها، بغض النظر عن توجهاتها الفكرية والعقائدية والإثنية، وذلك عن طريق محاورتها، والوقوف إلى جانبها من أجل حل المشكلات الكبرى المعلقة منذ زمن بعيد، وفي صلبها انسداد أفق التنمية الحداثية الراقية للإنسان وللبنيات المادية والرمزية بكل أشكالها وأنواعها.
من المؤكد أن الواقع الراهن لهذه التيارات الإسلامية الجزائرية يتمثل في أنها تسعى أن تصل إلى السلطة السياسية والإدارية قبل أن تبني لنفسها ولجمهورها السلطة الثقافية والذهنية والنفسية، وشرط اكتساب الثقة. عمليا، وكما هو واقع الحال، فهي قد جرت جرا إلى تقليد منطق السلطة التي توحي أنها تناقضها، ولكن على مستوى الشعار الفضفاض فقط، أما من ناحية المضمون والآليات فإنها لا تقوم بشيء مغاير عدا إعادة إنتاج الأزمة المركبة التي يجترها النظام الجزائري دائما.
هناك مسألة مركزية تتمثل في عدم تخلص الأحزاب الإسلامية من شبح إمكانية تكرار ما حدث عند إلغاء المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية في ثمانينات القرن الماضي، وما ترتب عن ذلك من صراع دموي، حيث أن هذا الشبح لا يزال يتحكم في “لا وعيها”، وجراء ذلك فقد وجدناها تسلك طريق التحالف الانتهازي (الشبيه بالتقية) مع النظام الحاكم كتكتيك مرحلي في محاولة منها لإيجاد ثغرات فيه من الداخل بعد إدراك كيف يعمل، وكيف يلعب سياسيا ولعلها بذلك تتمكن من الوصول إلى سدة الحكم.
بسبب هذا التكتيك المؤسس على الذهنية القاعدية التقليدية، وغير المحسوب بدقة فقدت هذه التيارات صفة المعارضة الحقيقية أمام المواطنين والمواطنات لأنه لا يمكن أن تصادق الذئب وفي الوقت نفسه تكون حليفا للشياه. إضافة إلى ما ذكر فإن ابتعاد التيارات الإسلامية، في ممارساتها اليومية، عن المجتمع المدني بكل تنوعاته وهمومه الحقيقية، والاقتصار على “فسائل” أتباعها التي لا تشكَل الأغلبية، أدى بها إلى فقدان هذا الرأسمال البشري الكبير ماديا والحاسم معنويا الأمر الذي جعلها تخفق في الانتخابات، وتفشل حتى في إجبار النظام على تقديم التنازلات أو القبول على الأقل بجزء من برنامج ما يسمى بالمعارضة.
أما المشكلة المركزية التي أريد التركيز عليها فتتمثل في تناقضات المرجعية الفكرية والثقافية والانتماء العقائدي لهذه التيارات الإسلامية الجزائرية، فضلا عن عدم استيعابها للفكر الديمقراطي نظريا وتطبيقيا وفق مخطط مدروس، إلى جانب انعدام ممارستها لعمليات التكوين الشعبي خارج نمطية الإطار التقليدي الملخص في ما يسمى بالأيام الدراسية والندوات الانتقائية والنخبوية المغلقة على نفسها، والتي تعقد مع المناضلين والمناضلات في مواسم بذخ الاصطياف.
في هذا السياق أعتقد أن ملاحظة رئيس وزراء الجزائر السابق ورئيس حزب التحالف الجمهوري “رضا مالك” التي سجلها على التيار الإسلامي الإصلاحي بشكل عام تصلح لقراءة واقع التيارات الإسلامية الجزائرية الموجودة الآن في المسرح السياسي. تقول الملاحظة: “فالحركة الإصلاحية كردة فعل إسلامية داخلية محضة، لم تتجاوز في الواقع إلاَ بصورة نادرة الإطار التقليدي الذي ولدت فيه، حيث كل شيء يصطبغ بلون ديني ولا ينظر إليه إلاَ من زاوية الإيمان. إنَ تقمص الحداثة -وذلك كان هدف الإصلاحية الإسلامية المعلن أو غير المعلن- كان يستلزم البدء بدراستها بصورة مستقلة، وبشفافية خالية من أيَ تدخل عقائدي، مما كان يفرض مسبقا تجاوز الأفق التقليدي وطرائق التفكير المتداولة”.
على ضوء هذه الملاحظة التي تنطبق على التيارات الإسلامية السياسية الجزائرية نفهم أن تجاور الوعي التقليدي، وما ندعوه بالتفكير الرغبي في الحداثة، أو التوهم الرغبي لها هي مجتمعة ما يميز البنية الذهنية للتيارات الإسلامية السياسية الجزائرية التي تتقاطع سلبيا مع بعض العناصر المهمة التي طرحها الإمام الشيخ عبدالحميد بن باديس في سلوكه كرجل دين عصري، والتزامه بمبدأ إعطاء المكانة اللائقة للنهضة التعليمية والتربية الفكرية لبناء طور المجتمع عمليا في الميدان، ثم الشيخ البشير الإبراهيمي في قبوله مبدأ فصل الدين عن النظام السياسي الذي طرحه في عهد استعمار فرنسا للجزائر، من أجل إعادته إلى الحاضنة الشعبية كبعد روحي، وتنقيته من الشعوذة والخرافة. والحال فإن أطروحة الإبراهيمي صالحة الآن في الجزائر لأن النظام الحاكم فيها يعمل منذ الاستقلال بكل ميراث الاستعمار المتمثل في شكل الدولة-الأمة، وفي القبضة الحديدية للإدارة، والخيار الرأسمالي المستغل رغم الشعارات التي تقول عكس ذلك، والتراتبية الاجتماعية والاقتصادية، والمركزية السياسية واختزالها في الرجل الحاكم لوحده، وتحويل الدين إلى طقس سياسي ملحق بالحكومة توجيها وإشرافا أيديولوجيا.
بعد الشيخين المذكورين آنفا بسنوات يأتي المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي بمشروعه الفكري والثقافي والتربوي النظري لإبراز شروط النهضة، ومعالجة مشكلات الحضارة. لاشك أن هذا المشروع يمكن أن يكون مرجعية مهمة، وهو جدير بالتطوير والتنقيح والإضافة من طرف التيارات الإسلامية الجزائرية، شرط أن يعاد النظر جذريا في أطروحة بن نبي المتصلة ببرنامجه لبناء الدولة الإسلامية العالمية المنسجمة من المحيط الأطلسي إلى ذرى العالم الآسيوي الأقصى، دون أن يقول لنا شيئا عن الاختلافات العرقية والإثنية وأنماط طبيعة الحكم، والانتماءات الإقليمية والدولية المختلفة حينا، والمتباينة حينا آخر بين الدول المكوَنة لما يسمى بالمحيط الإسلامي في عالمنا الراهن. كما أنه لم يوضح كيف يمكن تجاوز كل هذا ما عدا رسم الجغرافيا الإسلامية الموحدة قبليا في المخيلة وبواسطة التفكير الرغبي المثالي الطوباوي.
بناء على ما تقدم فإن تيار الإخوان المسلمين في مشهد التعددية الحزبية الجزائرية يلتقي، من حيث الشكل الخارجي، ببرنامج الدولة الإسلامية العالمية عند مالك بن نبي، ولكن هذا الأخير يختلف عن الأول في كونه يرى أن أساس معمار هذا النوع من الدولة ينهض على قواسم الحضارة والثقافة الدينية الروحية المتفتحة على منجزات المدنية والحضارية الغربية، في حين ينظر التيار الإسلامي الإخواني الجزائري إلى هذا النمط من المشروع كهدف سياسي غالبا، وكإطار معاد للغرب ولما يدعى ببؤر الإلحاد فيه وفي هوامشه، علما أن التيارات الإسلامية بصفة عامة، والتيار الإخواني الجزائري كجزء منه تمثل-كما قال سمير أمين- “الوجه الآخر للرأسمالية الاستغلالية المطبقة الآن في بلداننا بعد أن كانت قد أفشلتها حركات التحرر الوطني في زمان الصدام الاستعماري”.
*كاتب جزائري/ “العرب”
اقرأ أيضا
خريطة المملكة وزخم اقتصادي.. صوصي علوي لـ”مشاهد24″: هذه دلالات الشراكة الاستراتيجية بين المغرب وفرنسا
"المغرب وفرنسا يكتبان فصلاً جديداً في العلاقات التاريخية بمنطق جديد". هذا ما خلُصت إليه قراءات عدد من المراقبين، ووسائل إعلام أجنبية. ويبدو أن هذه الخلاصة قد تكوّنت بعد أن وثّقت عدسات الكاميرات الاستقبال الكبير الذي خصصه الملك محمد السادس لـ"ضيف المغرب"، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وزخم الاتفاقيات الموقعة بقيمة 10 مليارات يورو، تشمل مجالات متعددة ذات أهمية استراتيجية لكلا الطرفين، إلى جانب مباحثات همت مجموعة من القطاعات.
مباحثات عسكرية بين المغرب وفرنسا
تنفيذا للتعليمات الملكية السامية، استقبل عبد اللطيف لوديي، الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإدارة الدفاع الوطني، والفريق أول محمد بريظ، المفتش العام للقوات المسلحة الملكية وقائد المنطقة الجنوبية، اليوم الثلاثاء بمقر هذه الإدارة، سيباستيان لوكورني، وزير الجيوش وقدماء المحاربين بالجمهورية الفرنسية، مرفوقا بمستشاره الدبلوماسي، والملحق العسكري لدى سفارة فرنسا بالرباط.
في بولندا.. جثة تسقط من سيارة إلى وسط الشارع
بحادثة صادمة وقعت في بولندا، سقطت جثة من سيارة لنقل الموتى وسط الطريق، مما أجبر …