صناعة مناخات سياسية في تونس

تنتشر، هذه الأيام، على مواقع التواصل الاجتماعي، إشاعة مفادها أن أكبر مراصد الأحوال الجوية في العالم يتوقع أن تضرب عواصف غير مسبوقة، في الأسابيع المقبلة، البلاد التونسية، لتحدث بها كوارث وأضرار لم تشهد لها المنطقة مثيلاً منذ آلاف السنين. وعلى الرغم من نفي معهد الأرصاد الجوية التونسي ذلك، فإن الإشاعة لا زالت تلقى إقبالاً غير عادي، في ظل أزمة ثقة متعاظمة بين المواطن والإعلام الرسمي، ولعل لغز انقطاع التيار الكهربائي يوم الأحد، الأسبوع الماضي، على كامل البلاد عينة عن ذلك. ولا تعنى الدراسات الحديثة للإشاعة بتتبع مصدرها، ولا صدق المعلومة الواردة فيها، بل أثرها واستراتيجيات استخدامها.
يستعد التونسيون لسنة سياسية رابعة بعد الثورة، وهي سنة ترتبط بعودات أخرى، لا تقل شأناً عن السنة السياسية، على غرار السنة الدراسية والجامعية والسنة الفلاحية. إنها السنة العملية، أما السنة الإدارية البادئة في شهر يناير/كانون ثاني، فإنها مجرد احتفال طقوسي إداري، يحل في وسط السنة العملية تلك البادئة في سبتمبر تحديداً. سنة التونسيين العملية تبدأ مع موسم الخريف، موسم التقلبات المناخية الكبرى التي تكون محرراً لكامل السنة، وكلما كانت أمطاره مبكرة كان مبشراً بسنة خصبة مدرارة واعدة.
ربما تقلص اهتمام الأجيال الشابة بالفصول، ولكن ظلت البنى اللاواعية في المخيال الجماعي شديدة الارتباط بهذا الفصل بالذات، وتعلم النظم السياسية المتعاقبة هذا الأمر فرتبت ممارساتها، وفق تلك المناخات في تناظر عجيب. كان النظام السابق، مثلاً، يعلم أن الصيف هو أفضل موسم لاتخاذ أسوأ القرارات على غرار المحاكمات الكبرى والإجراءات اللاشعبية، وخصوصاً المتعلقة بالزيادة في الأسعار وغيرها.
ولم تفوّت حكومة التكنوقراط مرور الصيف الحالي، من دون تمرير أكثر الإجراءات إثارة للجدل، بتجميدها أكثر من 300 جمعية، وغلق كتاتيب عدة تحت شبهة تمويل الإرهاب أو الدعوة إليه. كما اتخذت إجراءات عدة، ضمنتها قانون المالية التكميلي، كالاقتطاع من راتب الموظفين، وفرض إتاوات متعددة، فضلاً عن ترفيع الأسعار، وتفكيك متسارع لمنظومة الدعم العمومي، وكان خدر الصيف مواتياً لمثل ذلك.
أما موسم الشتاء التونسي، فهو موسم العواصف الاجتماعية والمناخية الأشد التي عرفها المجتمع التونسي: الانتفاضة النقابية يناير/كانون ثاني 1978، أحداث قفصة 1981، أحداث الخبز يناير/كانون ثاني 1938، وأخيراً 17 ديسمبر/كانون أول 2010، تثبت كل تلك الأحداث هذا المصادفة العجيبة من أحداث جسام وفصول معينة. إنه تناسب غريب.
يطوي التونسيون، حينئذٍ، آخر أيام عطلهم الصيفية، وهم لا يصدقون أنها كانت، بالفعل، عطلة، فللمرة الثالثة على التوالي، عجزوا عن فك الارتباط بين عقلهم المشتت وجسدهم المنهك. كانوا يخلدون، في السنوات الخوالي، إلى عطلهم، فتتعطل بعض حواسهم، ليسترخي الجسد خدراً بين البحر والظلال. لم تسلم حتى الطبقات الشعبية من عدوى “الخلاعة”، وهو مصطلح يستعمله حصرياً التونسيون، للدلالة على متعة الاستحمام البحري، وما يرتبط بها من ممارسات ترفيهية، ويبدو أن للفظ جوار مع المعنى الفصيح الدال على فك الارتباك بالوقار والانضباط الاجتماعي. ويبدو أن هذا التقليد، بحسب دراساتٍ تاريخية وأنثروبولوجية، قد نشأ مع قدوم الجاليات الأوروبية في بداية القرن الماضي، وولعها بالبحر والشمس. انتشرت “الخلاعة”، أول الأمر، لدى أوساط عريقة أو مرفهة، ثم ما لبثت أن انتشرت لدى أوساط شعبية، ولكن، بعد أكثر من قرن، بدت وكأنها جزء من تاريخ طويل، فهي بمثابة طبع تونسي خالص، والتونسي مشدودٌ، في ترفيهه الصيفي، إلى البحر والشاطئ خصوصاً.
بعد أسابيع قليلة، يدلي التونسيون بأصواتهم في ظل مخاوف متنامية من حدوث عمليات إرهابية، تستهدف إفساد العملية الانتخابية وتعطيل المسار الانتقالي برمته. ساعد الإعلام العمومي في تضخيم تلك المخاوف، فالمقاربة الرسمية لتلك التهديدات فشلت في طمأنة الناس، والناخبين خصوصاً، بل قد تكون هيجت مخاوفهم بشكل غير مسبوق. كيف يمكن أن تكون شفافاً في إعلامك، حتى في أحلك الفترات، وفي الوقت نفسه، مطمئناً هي المعضلة التي لم يوفق الإعلام الحكومي في حلها.
الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، في ندوة صحفية خصصت لتعداد التهديدات التي قد تعيق العملية الانتخابية، لم تنج من توقع أن تكون العوامل المناخية ثالث العوامل المحدقة بها، وتأتي مباشرة بعد عاملي الإرهاب والعنف السياسي، ولا أحد يعلم المقاييس العلمية المعتمدة في بلاد عرفت باعتدال طقسها المتوسطي، خصوصا في شهر أكتوبر، ويبدو أن الهيئة وقعت، فعلاً، تحت تأثير تلك الإشاعة، ولو بشكل غير واع.
ثم من يشتهي أن تتوتر الأوضاع، ولكن بشكل متحكم فيه، فهو توتر محمود، يخدم أطرافاً سياسية بعينها. لذلك تصعد نقابات وتهدد بسلسلة إضرابات، على أمل أن يذهب فيئها إلى أطراف سياسية تجاهر بأن الاتحاد العام التونسي للشغل يظل خيمتها الاجتماعية، وحتى السياسية، ولم يستغرب التونسيون أن يعلن الاتحاد أنه، وإن اختار ألا يترشح، طرف في الانتخابات التشريعية، تاركاً حرية ذلك لأعضائه، فإنه لن يقف على الحياد، وذلك ما يتناقض في اعتقادنا مع دوره راعياً للحوار الوطني الذي من المفترض أن يقف بين الفرقاء السياسيين على المسافة نفسها.
ولكن، هناك من يشتهي أن يصل التوتر إلى مداه، ليفيض إرهاباً، لا يقف عند جرف العملية الانتخابية فحسب، بل ينسف المسار الانتقالي برمته، ولعل في توقع عواصف تضرب البلاد، هي ليست إلا تطييفاً لتلك الرغبات المحرمة. إرهاب المناخ لا يختلف عن إرهاب المجموعات المتطرفة. ضحايا وبارود. أما أدنى ذلك فهو التوتر “المحمود” الذي يغلّب أطرافاً سياسية على أخرى. المناخ لم يعد معطى طبيعياً بل صناعة.
يحبس التونسيون أنفاسهم، وستتكرر هذه العملية أكثر من مرة، فبينهم وصندوق الاقتراع عواصف ستضرب البلاد، وعمليات إرهابية ستسيل دماء كثيرة وإضرابات ستشل البلاد، وتمنع عنها أشد الخدمات إلحاحاً وحاجة. مناخ تدبره في كل الحالات أياد خفية، بعضها يشير إلى الله، وبعض آخر إلى بشرٍ، قلبه من دم وحجر.
السحب الملبدة وعد خصوبة، أما رياحها فلواقح ذلك فأل الأولين.
“العربي الجديد”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *