تبتعد تونس عن وسط الدائرة العربية ثم تظهر فجأة في قلبها. أول ظهور درامي كان يوم جاء الحبيب بورقيبة إلى أريحا عام 1965 يناشد العرب والفلسطينيين قبول قرار التقسيم لكي لا تضيع القدس وباقي فلسطين. وهو ما حصل. والمرة الثانية عندما أصبحت تونس البعيدة مقرا للجامعة العربية التي خرجت من مصر، ولمنظمة التحرير التي خرجت من بيروت، وكانت المرة الثالثة في حريق محمد بوعزيزي الذي أشعل ربيعا جهيضا.
المثال الأهم هو ما تقدمه قوى تونس السياسية والاجتماعية اليوم: قبول «الإخوان» بالانكفاء إلى دور محدود وعدم اللجوء إلى العنف لفرض حكم الأقلية على رغبة التونسيين. كان النقاش حول الدستور راقيا وأدّى إلى إقرار دستور راقٍ ومرضٍ لتطلعات النُّخبة وآمال العموم. وبعكس الدول العربية الأخرى، لم يغلق التونسيون الحوار فيما بينهم رغم تباعد المواقف السياسية من أقصى الاختلاف إلى أقصاه.
تميزت التجربة التونسية تميّزا لا تمكن معاملته بخفة عابرة. منذ تنحي بن علي، دون دماء ومتاريس وسفسطة، إلى وضع هذا النص الدستوري المرتقي، أجبرنا التونسيون على النظر إليهم كمجموعة مختلفة. ليبيا دمرها حاكمها قبل القبض عليه، ومصر أدخلها رئيسها الجديد في متاهة لم تخرج منها، وسوريا أفاقت، بعد 150 ألف قتيل، أنها «بلد تعددي» ليس حزب البعث هو «قائد الجميع»، وهو وصف لم يُعطَ لأي قافلة.
أثبت المجتمع التونسي صموده وشجاعته في وجه محاولات السيطرة والاستقواء بحجة الثورة والتغيير. وتوافق التونسيون على نصوص، نكرر أنها رفيعة وتليق بالشعوب الحرَّة. وبدل أن يتحول الدستور إلى مشروع حرب وقتال واعتداءات على الجيش وقوى الأمن، تحوَّل إلى مرجع وملتقى، تُقرُّه معظم الاتجاهات السياسية، على تناقضها.
تتحاور تونس في الصحف والمنتديات والمؤتمرات وليس في متفجرات مقار الأمن. وتقرأ نقدا واسعا لكتاب أصدرته الرئاسة فيتراجع الرئيس المرزوقي وليس النقّاد. لست أفهم لماذا التقليل من مدى التجربة التونسية. صحيح أنها لم تصبح سويسرا بعد. وقد يستغرقها ذلك أضعاف ما استغرق هنيبعل في حملة روما، ولكن تونس فاجأت العرب مرة أخرى في أصول الحوار وتقبل الآخر. تبتعد تونس طويلا ثم تعود فتصبح في قلب الدائرة العربية كبلد مغاربي صغير وله أصداء بعيدة. والقدوة، في أي حال، ليس راشد الغنوشي، بل المجتمع المدني، رغم بعض مظاهر العتم.
“الشرق الاوسط”