تجتاح الأحزاب السياسية الكبرى التونسية، هذه الأيام، موجة من الخلافات الحادة، التي أدّت إلى اندلاع “انتفاضات” تقودها القواعد والكوادر على قياداتها المركزية، ما تسبب في موجة من الاستقالات التي تنزّلت في إطار الاحتجاج على طريقة تزكية المرشّحين للانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في نوفمبر من هذا العام.
بدت الأحزاب التونسية الكبرى، تخطو نحو الانتخابات وهي منهكة بصراعات داخلية بين مركز القرار الذي تتحكم فيه القيادات العليا وبين القواعد التي تطالب بحقها في تزكية مرشحين يحظون بالثقة، الأمر الذي عكس أزمة ديمقراطية لدى أحزاب تقدم نفسها على أنها “حاملة لمشروع ديمقراطي”، تقول إنه سيقطع مع مختلف أشكال الاستبداد والتسلط والاستفراد بالقرار.
وقد طالت الخلافات حزب حركة “نداء تونس″ الذي يتزعمه الباجي قائد السبسي، وكذلك الائتلاف الحزبي اليساري المعروف بـ”الجبهة الشعبية” الذي يتزعمه حمة الهمامي، كما طالت أيضا حركة “النهضة” الإسلامية.
وفي هذا السياق، تتهم القواعد “المنتفضة” و”الكوادر” المستقيلة”، القيادات المركزية بـ”التسلط” و”الفوقية” و”الاستفراد بالقرار” في ما يتعلّق باختيار المرشحين للبرلمان دون الرجوع إليها بالنظر، مشددة على أنّ القائمات الانتخابية التي “أسقطتها” القيادة إسقاطا على القواعد، تم الحسم فيها على أساس “المحسوبية” و”الولاء للأشخاص”، وليس بناء على مبدأ “الإشعاع النضالي” أو “الكفاءة”.
نداء تونس يعاني الانقسامات
وبدا حزب حركة نداء تونس، أكثر الأحزاب السياسية التي تواجه هذا التسونامي الجارف من الاستقالات نتيجة خلافات عميقة جدّت بين أجنحته الثلاثة؛ التيار البورقيبي (نسبة إلى الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة) والتيار اليساري والتيار النقابي، الأمر الذي خيب آمال قطاعات واسعة من التونسيين الذين يراهنون على دور “النداء” في “تحقيق التوازن في المشهد السياسي”، وفي منافسة حركة النهضة منافسة جدية.
ويُذكر أنّ أزمة حركة نداء تونس كانت قد بدأت مع استقالة المثقفة ألفة يوسف التي أرجعت أسباب استقالتها إلى “ازدواجية الخطاب” و”اللهث وراء الكراسي”، لتكشف في نفس الوقت عن غياب “الشفافية” و”الديمقراطية” داخل هذا الحزب وعجزه عن استقطاب المثقفين بصفة عامة والمرأة المثقفة بصفة خاصة.
كما تعمقت الأزمة أكثر بعد استقالة القيادي في “النداء” فوزي اللومي، على الرغم من أنه شخصية سياسية بارزة، ويشغل عضوية المكتب السياسي للحزب، وهو كذلك قريب سياسيا من الباجي قائد السبسي.
وبحسب تسريبات، فإن اللومي كان “ضحية” الصراع القائم بين التيارات الثلاثة المكونة للحزب، ما جعل استقالته تعدُّ مؤشرا على أزمة هيكلية بدأت تنخر نداء تونس، من أبرز ملامحها “غياب التجانس″ الفكري والسياسي لدى أجنحة يمارس كل واحد منها ضغوطا متعدّدة وبأساليب مختلفة من أجل فرض ترشيح أنصاره.
أزمة حزب النداء هذه، بلغت أشدّها، حسب عدد من المراقبين، إثر ترشح نجل رئيس الحزب حافظ قائد السبسي، الذي كان سيترأس القائمة الانتخابية للحزب في دائرة تونس1، لكن الضغوطات الكبيرة التي تعرض لها الباجي قائد السبسي دفعته إلى التراجع عن ترشيح ابنه.
وكشفت “إقالة السبسي الابن” عن خلافات جوهرية داخل “النداء” بخصوص الموقف من حركة النهضة الإسلامية. حيث أكّدت دوائر قريبة من النداء أن حافظ قائد السبسي دفع ثمن خلافاته مع الجناح اليساري في الحزب المدعوم من الجناح النقابي، والذي يدفع باتجاه المواجهة مع النهضة، فيما يدافع رئيس الحزب ونجله عن مبدأ “التعايش” مع الحركة الإسلامية.
من جهة أخرى، فقد دفعت استقالة مكتب جهوي بكافّة أعضائه في جهة الساحل الشرقي لتونس “العريقة في ضلوعها بالعمل السياسي” من نداء تونس بالمحللين إلى التأكيد على أنّ القواعد تشعر بـ”الضيم” و”القهر” بعد أن تم ترشيح شخصيات سياسية ورجال أعمال وافدين حديثا على الحزب ولم يواكبوا المسار النضالي للنداء خلال “معاركه” التي خاضها ضد النهضة وفرض نفسه كقوة تتبنى مشروعا سياسيا وطنيا، وذلك على حساب نشطاء قاعديين انخرطوا في الحزب منذ نشأته.
النهضة: انتفاضة القواعد
موجة الخلافات هذه، لم تتوقف عند نداء تونس فحسب، بل طالت أيضا حركة النهضة التي كثيرا ما كانت تقدم نفسها على أنّها حركة ديمقراطية تسمح لكافّة نشطائها بممارسة الديمقراطية من خلال المؤسسات مثل مجلس الشورى، كما أنّها لا تتورّع دائما عن التأكيد على أنّ جلّ أتباعها “منضبطون” للقرارات التي تتخذها القيادة.
فقد سرت، خلال الأيام الماضية، حالة من الغضب والاحتقان بين قواعد النهضة وكوادرها الوسطى، بعد أن “فرض” رئيس الحركة راشد الغنوشي، حسب بعض التسريبات، اسم الصحبي عتيق، رئيس كتلة الحركة بالمجلس التأسيسي، على رأس القائمة الانتخابية لمحافظة منوبة، أحد أهم معاقل النهضة منذ نشأتها في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وهي محافظة تزخر بنشطاء ينتمون إلى الجيل المؤسس للحركة.
وفي ذات السياق، هددت تلك القواعد الّتي “انتفضت” ضد “قرار الشيخ”، بالاستقالة الجماعية إن لم يقع الإصغاء إلى صوتها وترشيح أحد النهضويين الناشطين بالمحافظة، غير أن القيادة المركزية تمسكت بترشيح عتيق في تحدّ صارخ لشعار “حق القواعد في اتخاذ القرار عبر المؤسسات”، الذي طالما ردّده أتباع الحركة سرّا وجهرا على الملأ.
ولا يتردد النهضويون في التعبير عن “الضيم” الذي يشعرون به جراء استفراد الغنوشي بقرار حسم أسماء المترشحين للانتخابات البرلمانية، خاصة بعد أن تمّ ترشيح رجال أعمال لا ينتمون إلى الحركة أصلا على حسابهم، حيث تواترت أنباء عن ترشيح رجل الأعمال معز إدريس على رأس قائمة حركة النهضة في سوسة مهد العمل السياسي في تونس منذ عشرينات القرن الماضي.
كما يبدو أنّ قيادة النهضة ماضية في ترشيح نجم كرة القدم التونسية ووزير الرياضة في حكومتها السابقة، طارق ذياب، ضمن القائمة الانتخابية لمحافظة أريانة معقل التيارات الليبرالية والعلمانية، في محاولة منها لتوظيف “النجوم” لجذب الناخبين.
وعلى الرغم من أن الخلافات داخل النهضة لم تظهر للعلن، إلا أن دوائر قريبة من الحركة، تتحدث عن “حالة من الغضب والاستياء” في صفوف النهضويين بعد أن همشهم القرار المركزي وتجاهل نضالاتهم وفضّل عليهم أسماء لا علاقة لها بالحركة.
وعزا مراقبون ترشيح النهضة لعدد من رجال الأعمال إلى خيار كانت قد اتّخذته في مرحلة سابقة، يهدف إلى استغلال أصحاب رؤوس الأموال في تنافس انتخابي سيكون على أشدّه مع كلّ من “النداء” و”الجبهة الشعبية” اليسارية، لافتين إلى أنّ الخيار النهضوي قد يؤدي إلى “ديمقراطية فاسدة” يمسك بأطراف خيوطها المال السياسي.
الجبهة الشعبية في قلب التيار
التيارات اليسارية بدورها، لم تسلم من موجة “الخلافات” و”الاستقالات” على الرغم من تاريخها النضالي العريق، والذي يعود إلى عشرينات القرن الماضي، حيث بدا الائتلاف الحزبي اليساري المعروف باسم “الجبهة الشعبية”، وهو يخطو نحو الانتخابات “هشّا” و”مرتبكا” بعد أن تأجج “سخط الرفاق القاعديّين على رفاقهم القياديّين”.
وقد أدّى ذلك السخط إلى استقالات في صفوف الجبهة، حيث أعلن المشرف السابق على أعمال تنسيقية “الجبهة” بمحافظة بنزرت أنور القوصري عن استقالته، احتجاجا على عدم ترشيحه على رأس قائمة الإئتلاف ببنزرت.
هذا، وتقول قواعد التيارات اليسارية إنّ “معركتها” المصيرية مع النهضة في الانتخابات يجب أن تتم على أساس قائمات انتخابية يتمّ وضعها من قبل النشطاء في المناطق لا أن يتم فرضها من قبل القيادة المركزية. وممّا عمق الخلافات داخل “الجبهة الشعبية”، هو تنافس الأحزاب المكونة لها، والتي تسعى إلى أن تكون كلّها ممثلة في القائمات الانتخابية، وهو أمر يبدو صعبا من الناحية العمليّة.
وسواء تعلق الأمر بنداء تونس أو بحركة النهضة أو بالجبهة الشعبية، فإن المراقبين يرجعون “الخلافات” و”الاستقالات” القائمة، إلى “غياب وسائل التسيير الديمقراطي داخل هذا الأحزاب التي تزعم أنّها تمارس الديمقراطية، ملاحظين أنه من الصعب أن تُوَلّد الانتخابات القادمة ديمقراطية حقيقية يقودها حزب أو عدد من الأحزاب، التي لم تتعود أصلا على ممارسة الديمقراطية داخل أطرها التنظيمية.
ويشدد هؤلاء المراقبون على أنّ تلك الخلافات والاستقالات شكلت صورة ضبابية اصطبغت بها الأحزاب السياسية في أعين الناخب التونسي، الذي يبدو اليوم أقل ثقة في هذه الهياكل التي تتعامل مع الانتخابات بمنطق “الغنيمة”، وأكثر شكّا في أن تقود الانتخابات القادمة إلى ديمقراطية حقيقة تعبّر عن تطلعات جلّ التونسيين.
اقرأ أيضا
توقيع اتفاقية شراكة لحماية المنشآت الإدارية لبنك المغرب وتأمين نقل الأموال
وقعت المديرية العامة للأمن الوطني وبنك المغرب على اتفاقيتين، الأولى عبارة عن بروتوكول بشأن تخويل …
صحيفة: غواصة نووية فرنسية تشارك لأول مرة في مناورات بحرية مع المغرب
قالت صحيفة “mer et marine” الفرنسية المتخصصة، إنه بمناسبة النسخة الثلاثين من مناورة “شيبيك”، وهي …
تخطط لجنازتها بعد زيارة قصيرة للطبيب
بعد زيارة اعتقدت أنها بسيطة للطبيب بعد إصابة في كتفها، أصبحت أم لطلفين، تخطط لإقامة …