هناك ثلاث كلمات رئيسية تردّدت كثيرا في شعارات الثورة التونسية، ولم تتوقف عن الدوران على ألسنة السياسيين والإعلاميين والمثقفين والمواطنين عموما هي الحريات والحقوق والعدالة. وهذه الكلمات الثلاث تواترت بنسبة عالية في دستور يناير 2014 مما جعلها تعد مفاتيحه الأساسية باعتباره دستورا ينطق بلسان الشعب التونسي ويعبر عن مشاغله.
ولكن الحريات هي جوهر دستور 2014 الذي كفل حرية الإعلام وحرية التنظم والتحزب وحرية التنقل وحرية التعبير وحرية النفاذ إلى المعلومة وحرية الملكية وغيرها من الحريات الفردية والعامة. ونجد التنصيص على هذه الحريات في فصول عديدة منها الفصل 21 الذي يقول “تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم”، والفصل 23 الذي منطوقه “تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد وتمنع التعذيب المعنوي والمادي ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم”، وكذلك الفصل 24 الذي يعتبر أنّ “لكل مواطن الحرية في اختيار مقرّ إقامته وفي التنقل داخل الوطن وله الحق في مغادرته”، وأيضا الفصل 30 الذي يلح على أن “لكل سجين الحق في معاملة إنسانية تحفظ كرامته” وغيرها من الفصول.
ولقد نص الفصل الثاني من الدستور التونسي ضمن المبادئ العامة على أن “تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون”، وهو فصل لا يجوز تعديله بما يعني أن دولة النظام والقانون والمؤسسات والحريات والعدالة هي المأمولة بعد ثورة الحرية والكرامة.
مع كل الضمانات التي تضمنها الدستور التونسي للحقوق والحريات والعدالة، فإن هذه القيم الكبرى مازالت بعيدة جدا عن التحقق لجملة من العوامل. منها أن القوانين الناطقة بروح هذا الدستور لم تسنّ بعد بسبب غرق مجلس نواب الشعب طيلة حوالي سنة من انتصابه في قوانين القروض والاتفاقيات المشتركة الملتبسة مثل اتفاقية التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي.
بل إن القضاء التونسي مازالت مراجع أحكامه تعود إلى قوانين قديمة مثل الفصل 235 من المجلة الجنائية التونسية القديمة، الذي ينص في القسم الثالث المخصص للاعتداء بالفواحش على أنّه “يحكم بتحجير الإقامة مدة لا تزيد على عشرة أعوام”، دون أن يفصل الفرق بين الاعتداء بالفاحشة وممارستها طوعا. وبسبب هذا القانون انفجرت قضية الحكم على المثليين مؤخرا بالسجن والإبعاد عن مدينة القيروان.
نذكر كذلك الفصل 108 من المجلة الجزائية الذي يعاقب القاضي الذي يمتنع عن إنفاذ القانون المتعلق بالفصل 235 من المجلة الجنائية المذكور أعلاه، والقانون عدد 52 لسنة 1992 المتعلق بالمخدرات والفصل 230 من المجلة الجزائية المتعلق باللواط والمساحقة. وهذه القوانين تطبق في غالب الأحيان دون اجتهاد بسبب ما يلحق بها من قوانين إلزامية للقاضي تنذره بالعقاب إذا لم يطبقها مما يجعلها قوانين استبدادية باعتبارها تؤثر على ضمير القاضي الذي هو مرجعه الرئيسي عند إصدار الأحكام.
إقرأ أيضا: الشرطية التي “صفعت” البوعزيزي: ألوم نفسي.. الموت في كل مكان بسببي!
وإضافة إلى ترسخ ممارسات معادية للحريات والحقوق صلب الأجهزة المنوط بها تنفيذ القانون، يبقى العائقان الكبيران هما المتعلقان بالدولة ومؤسساتها إذ لم تتحول من دولة القمع والمنع، إلى دولة العدالة والحرية، وبالأحزاب التي قادت الدولة وتقودها قبيل الدستور الجديد وبعده هي أحزاب غير ديمقراطية ولا تتماهى مراجعها ولا ممارساتها مع روح الدستور.
هذه الحال خلقت ما أسميه سكيزوفرينيا سياسية أو انفصاما سياسيا ولا اسم آخر يصلح لتوصيف جملة من المفارقات القاصمة في الواقع التونسي. من هذه المفارقات، أن نجد الحزب الذي حكم تونس بعد انتخابات أكتوبر 2011 حزبا ثيوقراطيا دينيا معاديا صراحة للعلمانية والمدنية وحقوق الإنسان، سمح لقادته والمقربين منه والموالين له بأن يتكلموا باسمه في المساجد وأن يكفّروا غيرهم ويدعوا لإقامة الحدود عليهم وإهدار دمائهم، وفي الوقت نفسه يرفع شعارات الديمقراطية والمدنية وحقوق الإنسان.
ويذكر التونسيون المعركة المريرة التي خاضتها الأحزاب التقدمية والمنظمات المدنية والحقوقية والنقابية من أجل فرض الفصل السادس من الدستور الذي يقول “الدولة راعية للدين كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي”. ومع ذلك، لم تكف الأحزاب الدينية في تونس عن توظيف المساجد وعن تحريض الأئمة لخدمتها وتجنيدهم سياسيا لاسيما في انتخابات 2014. ومازالت هذه العملية مستمرة إلى اليوم. ومساندة حركة النهضة للأئمة الذين عزلتهم وزارة الشؤون الدينية واضحة في بيانات رسمية، بما ينسف كل التزاماتها المعلنة بمنطوق الدستور التي كانت مؤثرة وفاعلة في صياغته وأمضى عليه أمينها العام باعتبار صفته رئيسا للحكومة وقتها.
نحن بصدد استعراض بعض المفارقات، نذكّر بمفارقة أن يكون الحزب الذي يحكم تونس بعد انتخابات أكتوبر 2014 يعيش أزمة قيادة بسبب الافتقار إلى الممارسة الديمقراطية داخله، هذا إضافة إلى هويته النيوليبرالية التي دفعته إلى تكريس السياسات والتشريعات التفقيرية القديمة نفسها، في الوقت الذي يرفع فيه شعار العدالة الاجتماعية التي نص عليها الفصل 12 من الدستور الذي يقول “تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية”.
مجمل القول إن تونس تعيش أزمة قيم، وهي أزمة اجتماعية ومشكلة أخلاق ومشكلة فلسفية .لاسيما أن دستور يناير 2014 سكت عن الأخلاق والقيم وتركهما لباب الاجتهاد الذي تمارسه السلطة التنفيذية والقضائية. ولكن هذا الاجتهاد لازال قاصرا عن الاقتراب من فلك حقوق الإنسان، إضافة إلى قصوره المزمن عن التنظير الفلسفي والأخلاقي. وهذا الواقع المتردي يزداد تعقيدا بسبب تراجع العامل التربوي في إنتاج القيم والعامل الجامعي في مساءلة القيم. ويبقى التباعد المستمر بين الجامعة ومحيطها الاجتماعي والمؤسساتي مما يجعل أزمة القيم ومشكلة الأخلاق أكثر حدة وأبعد أثرا.
ولنضرب مثالا على ذلك قضية المثليين في القيروان، فلقد وقعت بين المسكوت عنه والمسموح به. وفتحت المجتمع على مآزقه الأخلاقية وجعلت الموروث والدستور موضع مساءلة بين الحرية الفردية وبين الحرية الجماعية، بين دور الإنسان في إعمار الكون وبين تعارض المثلية مع هذا الدور. كما أثارت هذه القضايا ردود فعل متباينة، لاسيما في مفهوم الجناية والجريمة وروح القانون، باعتبار أن المثلية ليست اعتداء جسديا على الغير، ولكن هناك من يعتبرها اعتداء أخلاقيا باعتبار السلوك المنحرف للمثليين في مستوى اللباس والكلام والحركة والتشبه بالنساء.
إن أزمة القيم ومشكلة الأخلاق حادتان حين نجد دستورا تحرريا تقدميا تقابله قوانين رجعية استبدادية تكبل القضاء، إضافة إلى سلطة تنفيذية قمعية وأجهزة أمنية يريدها الدستور أن تكون جمهورية ولكنها لم تبرح ممارساتها العنفية. ويبقى الدستور التونسي مفتقرا إلى ممارسات فكرية وتنظيرات فلسفية تواكبه وتؤصل مقولاته.
*كاتب وباحث سياسي من تونس/”العرب”