معركة السياسات والصلاحيات في تونس

مادام باستطاعته ان يكتسح الارض ويسترجع بلدات وقرى خرجت عن سيطرته في السابق، ومادامت لديه القدرة على ان يستمر في قصفه الهستيري المجنون بكل الوسائل، بما في ذلك براميله المتفجرة ودق اعناق معارضيه وكتم اصوات شعبه، فما الجدوى من الاستمرار اذن في مقاطعته واعلان العداء الواضح له ولنظامه؟ ما الذي كسبناه طوال الشهور التي مضت بطرد السفير واغلاق السفارة غير تشجيع الاف التونسيين على السفر الى المجهول ليرجعوا لنا بعد ذلك قنابل موقوتة قابلة للانفجار في اي لحظة. ألم يكن من الاسلم ان نعيد العلاقات الى سالف عهدها ونغض الطرف عن اخبار الانتهاكات الفظيعة والجرائم التي تحصل بعيدا عنا الاف الكيلومترات، ونلتفت فقط الى شؤون بلد ما زال يتحسس طريقه نحو الاستقرار والهدوء بعد كل ما حصل فيه في السنوات الثلاث الاخيرة؟
اصوات كثيرة ظلت ترتفع داخل تونس همسا حينا وبحدة وعنف احيانا اخرى، رافعة تلك التساؤلات والدعوات الى مرتبة المطالب التي لا تحتمل الانتظار والتقت كلها بعد استلام التكنوقراط مقاليد السلطة على نقطة وحيدة وهي، مراجعة ما وصف بالاخطاء التي ارتكبها الاسلاف في ملف العلاقات الخارجية، كطرد السفير وغلق السفارة السورية، ورفض القبول بالامر الواقع في مصر بعد الانقلاب على شرعية الرئيس المعزول مرسي. بعدها بدت ردة فعل الحكومة الجديدة بطيئة لكن لافتة للانظار، فقد اطلق وزير الخارجية منذ الايام الاولى لاستلامه المنصب تصريحات اكد من خلالها على انه ينبغي التعجيل باصلاح علاقات تونس العربية. وحصلت في الاثناء بعض الايماءات التي لا تخطأها عين المراقب، مثل عودة السفير الاماراتي الى البلد واللقاء في القاهرة بين وزيري خارجية البلدين والحديث عن ايجاد وساطات هدفها اقناع النظام السوري بالقبول بفتح مكتب لرعاية المصالح التونسية في دمشق بعد اغلاق السفارة. حتى ذلك الوقت ظل موقف الرئيس مشوبا بنوع من الغموض والحذر، فخياراته في الملف السوري ومواقفه وتصريحاته حول ما يحصل في مصر، واشهرها خطابه الاخير في الجمعية العامة للامم المتحدة اواخر العام الماضي، كانت كلها هي المستهدفة من الناحية النظرية على الاقل بتلك المراجعة المطلوبة. لكن الوزير وحكومته لم يحرزا الاختراق الذي انتظره الداعون للمراجعة فلا جديد في ملف العلاقات مع نظام الاسد، ولا بوادر حتى الان على انتهاء البرود بين تونس والقاهرة. مايزال الرئيس رغم محدودية الصلاحيات في الداخل اللاعب الابرز والاهم على مستوى التوجهات والسياسات مع الخارج. وهو ما يزعج بالتأكيد انصار الخط الجديد ويثير لديهم قدرا واضحا من القلق والمخاوف، لكن هناك مسألة مهمة يدركها الجميع على حد سواء وهي ان الحكومة لا تستطيع الذهاب بعيدا بمفردها في تلك الرؤية الجديدة، كما لا يمكن للرئيس في المقابل ومن الناحية الاجرائية ان يتمسك بشكل مطلق ونهائي بمبادئه الثورية والحقوقية، فيبقي نفسه معزولا داخل كوكب الرئاسة. الاختبار الاهم لذلك التوازن السريالي الهش ظهر من خلال مسألتين هما، التطبيع مع الاسرائيليين والموقف مما يحصل الان في ليبيا. بدا الامر للجميع اشبه بعملية لي ذراع او اختبار قوة بين الجانبين اكثر من اي شيء آخر. ففيما تعطي الحكومة الضوء الاخضر لدخول اسرائيليين البلد، ضمن وفود سياحية تحت غطاء الزيارة السنوية لمعبد» الغريبة» في جزيرة جربة، بجوازات سفر اسرائيلية عكس ما كان يحصل كل عام، تثار ضجة تحت قبة المجلس التأسيسي ضد وزيرة السياحة والوزير المكلف بالشؤون الامنية، وبعيدا عن مآلات المساءلة الشكلية التي انتهت ببيان يجدد التمسك برفض التطبيع، يظل الصمت ملازما ردة فعل الرئيس، ولا يتبين الناس موقفه بشكل واضح وصريح مما يجري. قد تكون الرسالة وصلته او قد يكون فضل عدم المجازفة بالدخول في مواجهة خاسرة مع حكومة ترتفع اسهمها اعلاميا اكثر مما هو متوقع.
لا تنتهي الامور عند ذلك الحد، فبمجرد انتهاء موسم الزيارة السنوية الى المعبد اليهودي بنجاح، وفقا لتعبير وزارة الداخلية، يثير دخول ثلاثين فلسطينيا فروا من الحرب في سوريا ليعبروا تونس قادمين من لبنان في الطريق الى بنغازي الليبية تصدعا آخر، اذ ترفض السلطات منحهم تأشيرات دخول بعد ان تعذر عليهم اكمال الرحلة نحو ليبيا، بالنظر للوضع الامني هناك. لكن بعد اسبوع كامل تقرر الحكومة منحهم تاشيرات دخول صالحة لشهر واحد وتعلن وزيرة السياحة انها ستستضيفهم في مدرسة سياحية بالحمامات وعلى نفقة الدولة. التخبط الحاصل لا يسمح بتسرب شيء عن حيثيات الموضوع عدا اعلان المتحدث الرسمي باسم حركة حماس في تصريح صحافي عن توجيه كل «التقدير للرئيس التونسي المنصف المرزوقي لاستجابته العاجلة للمطلب الانساني بحل مشكلة الفلسطينيين العالقين في مطار قرطاج منذ اسبوع، والسماح لهم بدخول الاراضي التونسية»، وما تكتبه رئيسة تحرير صحيفة يومية تونسية حول ما تسميه «القصة الكاملة للفلسطينيين العالقين بمطار قرطاج»، جدير بالتأمل حيث تقول «لدى خروجهم من المطار لاحظ الجميع ان الركاب الفلسطينيين ليست لهم علاقة لا بتنظيمات متطرفة ولا جهادية… وذلك من خلال شهاداتهم العلمية ومن خلال شكل كل واحد فيهم.. ومن بينهم فنان تشكيلي..». مثل ذلك الكلام قد يكون محاولة لتبرير البطء الذي عالجت به السلطات مسألة انسانية قبل ان تكون وطنية او قومية، لكن خطورته تتجاوز ذلك من حيث انها تعطي مبررا لاعتبار كل فلسطيني ارهابيا حتى يثبت العكس، في وقت تتعالى فيه الاصوات في المقابل بالترحيب بالزوار الاسرائيليين من دون التشكيك في ملامحهم او هوياتهم، سعيا لانجاح الموسم السياحي، بحسب ما تروجه وكالات الاسفار ووسائل الاعلام المحلية.
بعيدا عن ذلك يبدو ان العملية التي اطلقها اللواء المتعاقد حفتر في ليبيا، زادت من حدة الشرح بين الرئيس وحكومته، ففيما سارع هو منذ اليوم الاول لمكالمة رئيس المجلس الوطني الليبي والاعراب له عن دعمه للشرعية التي يمثلها المجلس، اكتفت وزارة الخارجية ببيان مقتضب اعلنت فيه انها تتابع ببالغ الاهتمام وعميق الانشغال التطورات الاخيرة، داعية افراد الجالية التونسية في ليبيا توخي اعلى درجات الحيطة والحذر. ومما لا شك فيه ان تشتت القرار بين الرئيس والحكومة في الملفات الخارجية يزيد في تعقيد الامور والتباسها، وفي ضبابية المشهد وقد يعطى ايضا رسائل مغلوطة لاكثر من جهة في الداخل والخارج، لكن ما يأمله التونسيون هو ان لا تستغرق معركة السياسات التي تعلنها الحكومة والصلاحيات التي يكبل بها الرئيس، كثيرا من الوقت، لانها لن تكون بالنهاية وفي مطلق الاحوال في صالح اي طرف منها مهما بدا في الظاهر عكس ذلك.
“القدس العربي”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *