بقلم: المهدي مبروك*
لم تسلم جوائز نوبل، حال الإعلان عنها أواخر كل سنة، من النقد والتحفظات بما فيها نوبل للآداب والاقتصاد، وحتى العلوم التجريبية والصحية. رفض تسلمها بعضهم، وشكك فيها آخرون. ومع ذلك، ظلت أكثر الجوائز أهمية وقيمة. فالتشكيك فيها واستهجانها لا يعد سابقة، ولا حسداً، أو خيانة وطنية، كما ذهب بعض التونسيين الذين ساءتهم المواقف المناهضة لمنح جائزة نوبل للسلام لعام 2015 للرباعي الراعي للحوار الوطني. لم تخل، إذن، الجائزة من التحيز والتوجيه، خصوصا فيما يتعلق بجائزة نوبل للسلام بالذات، فكما يقول خصوم الجائزة إن شيمون بيريز وباراك أوباما وغيرهما حصلوا عليها، وبعض هؤلاء يعدون، أخلاقيا على الأقل، مجرمي حرب، فشعوبٌ بأكملها، كانت ولا تزال من ضحاياهم. ويوغل آخرون في العدمية، حين يلعنون الجائزة برمتها، وقد ارتبط اسمها بشخص أراد أن يشتري راحة ضميره بالمال، وهو الذي أهدى للبشرية أبشع أنواع المتفجرات. فوراء كل الأشلاء التي نرى يبرز نوبل الديناميت، ولن تمحو الجائزة خطيئته الكبرى.
لم تنل تلك التحفظات من الجائزة، بل على خلاف كل التوقعات، رسخت هذه الجائزة في وجدان الناس، وغدت موعدا يتشوف له العالم كل عام. لقد غدت إحدى شعائر إنسانيتنا، وربما عكست ما فينا، نحن البشر، من تردد وتناقض.
يرفض قسم مهم من الرأي العام الوطني التونسي الجائزة لسببين، وإن كانت الكفة تميل لصالح المفتخرين بها، فالرافضون يستندون، أولاً، إلى التباس شخصية نوبل ومؤسسته التي تزكّي خيارات عادة ما تصب في اتجاه تأييد المنظومة الغربية واختياراتها الليبرالية، مع مسحة إنسانوية، فاليسار الراديكالي التونسي مازال يرى أن جوائز نوبل للسلام والاقتصاد وغيرها تصب في تسويق هذا المنظور الليبرالي وترويجه، وهو الذي يساوي الضحية بالجلاد. ويرى الطيف الثاني من الرافضين أن الرباعي التونسي الفائز بالجائزة، قبل أن يرعى الحوار، عمل على دفع البلاد نحو شفا الحرب الأهلية، فحرّض على حكومة الترويكا التي كانت في الحكم، فتلك المنظمات الوطنية عملت على إفشال تلك التجربة، بكل الوسائل وجيّشت الشارع التونسي للإجهاز على شرعية منحتها صناديق الاقتراع . كان الرباعي، حسب هؤلاء، صنّاع الأزمة، ولما استفحلت قدموا حلولا لها، وكان الحديث عن سيناريوهات لإسقاط الحكومة، في وسائل الإعلام الوطنية، برهاناً على تلك المساعي الانقلابية. لذلك، يعتبر أصحاب هذا الرأي أن الجائزة منحت للانقلابيين على الشرعية، قاموا بانقلاب مدني، وهم لا يختلفون عن عبد الفتاح السيسي في مصر، وما أحجم عنه الجيش التونسي، نفذه الرباعي الراعي للحوار.
للمزيد: «نوبل للسلام» مفاجأة ساّرة للّتونسيين!
سيكون هذا الموقف صائباً، لو حصرنا النظر في هذا الرباعي. ولكن، حين نوسع المشهد، وننظر إلى السياقين، الإقليمي والدولي، اللذيْن مرت بهما البلاد، ستكون الجائزة استحقاقا جديراً بهذه المنظمات. يستحق هؤلاء “نوبل للسلام” نيابة عن التجربة التونسية برمتها التي ظلت استثناء جيداً. كان فوز الرباعي تكريما لهذه التجربة والتحول الديموقراطي عامة الذي تحياه بلادنا. لجنة الجائزة غير معنية بالبحث عن تفاصيل الشأن التونسي، فضلا على أنها غير ذات دلالة في مثل ذلك السياق، فجاذبية التجربة التونسية تكمن في تجنب العنف المعمم وتغذية ثقافة الحوار الذي جنب البلاد ما يحدث في دول الربيع العربي التي انزلقت إلى حروب أهلية. كما أكد الرباعي الراعي للحوار ميزة تونسية خالصة في المنطقة العربية، هي قوة المجتمع المدني إلى حد الإزعاج أحياناً، خصوصا حين يتحول إلى هيكل فوق الدولة، لا يكتفي بمراقبتها، بل يُملي عليها ما يشتهي أحيانا.
ولكن، علينا ألا ننسى، في نشوة افتخارنا بجائزة نوبل، أن تكريم رعاة الحوار التونسي يستحضر منطقياً الأطراف التي تحاورت، وهي الأحزاب التي اختلفت إلى حد التلاغي أحياناً، لكنها قبلت، في النهاية، أن تجلس إلى بعضها للتشاور. فما كان لهذا الحوار أن ينجح، لولا الأطراف التي أقبلت على الحوار، ورضيت بمخرجاته، حتى ولو كانت مؤلمة. كان تنازل الترويكا عن السلطة موجعاً، ومع ذلك قبلت به. غادرت الترويكا الحكم، ترجيحاً لمصلحة البلاد، ولو ركبت رأسها حتى باسم الشرعية، لانزلقنا إلى حرب مدمرة. لذلك، علينا أن نثمن هذه الخطوة، ونثني على تلك الأحزاب.
أبدت حركة النهضة، بشكل خاص، قدراً كبيرا من المسؤولية. هل كان ذلك محض إيثار، وتقديراً للمصلحة الوطنية، أم قراءة دقيقة للوضع الدولي والرياح الإقليمية غير المواتية للإسلام السياسي، بعد مآلات التجربة المصرية، واندلاع حروب أهلية في الأقطار التي شهدت الربيع العربي؟ لا تناقض في ذلك، فالذكاء السياسي والحكمة في قراءة الوضع واتخاذ القرار السليم، وتجنب ركوب شهوة العناد القاتل والمكابرة هي أيضا خصال تحتاج إلى مثل هذه الجائزة، وهي لا تقل نبلا عن التنازل الإيثاري عن السلطة. كان في وسع “النهضة” أن تتعنت، مثلاً، وترفض الخروج من السلطة، حتى ولو أدى ذلك إلى حربٍ أهلية، تدمر البلاد والعباد. ولذلك، تتجاوز جائزة نوبل للسلام، كما ذكرنا سابقاً، الرباعي، لتشمل منطقياً المجتمع السياسي، والأطراف التي انخرطت في ما سمي آنذاك خارطة الطريق التي عبّدت الطريق لاستكمال كتابة الدستور وإجراء انتخابات تشريعية، بعد سنة من ذلك التاريخ.
لكل تلك الأسباب، علينا أن نفتخر بنيلنا جائزة نوبل للسلام، هي تشريف للثورة التونسية. ولكن، علينا أيضا ألا ننسى أن ذلك التكريم يحملنا مسؤولية ترسخ قيم الحوار والمحافظة على مدنية الدولة، وعلى ما تبقى من أهداف هذه الثورة (العدالة الانتقالية، مكافحة الفساد، احترام الدستور…)، حتى لا تكون ثورتنا نزوة عابرة، أو إصبعاً نلعق بعده الطين، كما كان جحا يردد، وهو يبيع عسله المغشوش.
*وزير تونسي سابق /”العربي الجديد”