بدأت حكايتي مع تاريخ الشقيقة سلطنة عمان فجر يوم من أيام الصيف الحارة، شهر غشت عام 1995، عندما حللت بها صحبة ثلة من الأساتذة الباحثين للعمل في سلك هيئة التدريس بناء على اتفاقية التعاون الثقافي، كانت أبرمتها من قبل وزارتا التعليم العالي بين البلدين: المغرب وعمان: وقتها وطئت أرض عمان وزادي المعرفي عنه يشكو العوز إلا ما تعلق منه بتاريخه القديم الزاخر بالأمجاد والبطولات قص بعضها ابن بطوطة في رحلته الشهيرة، إذ حظيت عمان فيها بقسط وافر من وصفه([2]).
أما التاريخ الحديث، فقد بدأ عندي من مطار السيب بمسقط في مطلع يوم شديد الحر. كانت الحرارة حرارتين: حرارة مصدرها طبيعة المناخ، وفي هذا الأمر تتساوى بلدان الخليج العربي مع تفاوت يقل أو يكثر فيما بينها. أما الحرارة الثانية، فمختلفة، فيها برد وسلام على كل وافد على أرض السلطنة، فما بالك إذا كان من بلاد المغرب التي تحظى باحترام العمانيين وحبهم، وأعني هنا الترحاب القوي حساً ومعنى، يلوح أولاً في البشاشة الصادقة التي تعلو محيا العماني وهو في اتجاهه لاستقبالك قبل أن تترجم بعباراته الرقيقة.
والحق أقول بأن حرارة الاستقبال حجبت عنا حرارة الطقس المشتعلة التي لم نتعوَّدها نحن المغاربة. فالعرق يتصبب بفعل اللهيب المنبعث من الجو الراكد. لذلك لا تجد راجلاً، فالجميع نراهم يركبون سيارات مكيفة ينتعشون بداخلها، وينسون إلى حين قساوة الطبيعة خارجها.
إن أرض عمان التي نزلنا بها – للتذكير- أرض صحراوية، تتكون تضاريسها من سلاسل جبلية صخرية، تتخللها سهول وأودية يصعب اجتياز بعضها في بعض الفترات، نظراً للسيول الطارئة التي تهددها كل وقت وحين؛ غير أن سكان البلد يدركون ذلك ويعرفونه.
أما السهول، فعريضة ممتدة، بعضها يحاذي البحر، والبعض الآخر يؤنس الجبال العارية السوداء بالداخل. فإذا انطلقت من العاصمة مسقط في اتجاه مدينتي صحم وصحار، فإنك تقطع سهلاً يسمى بسهل «الباطنة»([3]). وهو من أخصب أراضي عمان، به تكثر المزارع والعمران، وهو شريط ساحلي إليه ينتهي كل مسافر ومنه ينطلق. وإذا تجاوزت «صحار» في اتجاه دولة الإمارات العربية المتحدة، فستكون باستقبالك سهول كثيرة وهضاب وأودية قبل أن تصل إلى المدينة الهادئة «البريمي»، وهي غير مفصولة عمرانياً عن مدينة «العين» الإماراتية، وكل ما يفصل بينهما إشارة ضوئية فقط، ولوحتان كل واحدة تحدد البلد الذي تنتمي إليه. هذا، بالإضافة إلى سهول أخرى تلاقيك وأنت في طريقك إلى مدينة «نزوى» و«صور». أما محافظة «صلالة» بمنطقة «ظفار» في أقصى الجنوب، فذاك شأن آخر من شؤون السلطنة لتميزها مناخياً وجغرافياً، وإليها تشد الرحال في موسم الصيف حين يشتد الحر في غيرها، يقصدها العمانيون والخليجيون من كل الجهات للتمتع بلطف مناخها وجماله في هذه الفترة.
أما جوهرة عمان في نظري، فهي ذلك الجبل الذي يختلف عن سائر جبال عمان ويسمى عندهم «بالجبل الأخضر» الزاهي بعلوه وأشجاره المتنوعة الثمار؛ كما يتميز بخصوبة تربته واعتدال مناخه. غير أن الوصول إليه ليس بالأمر السهل، وليس متاحاً للجميع. تلك هي تضاريس عمان، تبدو متنوعة وغنية وجذابة للناظرين.
كانت الأيام القليلة التي مرت على إقامتنا بديار عمان كافية للتأقلم مع الطبيعة القاسية، وزاد من سرعة تأقلمنا طيبة أهل البلد ودماثة خلقهم التي لا حد لها. فأنت لا تسمع من الكلام إلا ما يرضيك. فإذا حدثك صدق، وإذا جئته مسلماً رد السلام عليك ووقف احتراماً وإكباراً للقادم، لا فرق عنده بين الكبير والصغير، والغني والفقير.
أثناء إقامتنا القصيرة في الديار العمانية، وبمدينة «الرستاق»([4]) تحديداً، أدركنا عمق المحبة والتقدير والاحترام الذي حظينا به. فلم نشعر يوماً أننا غرباء، إذ أحاطنا المجتمع العماني بكل مستلزمات العناية.
وهناك قضية لا ينبغي إغفالها ونحن نتحدث عن جوانب تخص المجتمع العماني، سواء تعلق الأمر بالنواحي الاجتماعية أو الطبيعية أو الثقافية. هذه القضية هي الهندام الأنيق الذي يصادفك عند رؤية العماني، وهي أناقة – في نظري – تحكي أناقات أخرى في فكره وسلوكه وبساطة حياته. ولابد أن أذكِّر في معرض حديثي عن الهندام بوجود تشابه في بعض جوانبه بين العمانيين والمغاربة من سكان الجنوب وأهل الجبل في الشمال، وأعني هنا بالتحديد التوافق في طريقة وضع العمامة عند كليهما، والخنجر بحمالته وغمده عند بعض القبائل المغربية في سوس والأطلس شبيهة بذلك الذي يعلقه العماني، وجعلته السلطنة شعاراً يعلو كل مقدس في البلاد.
أما بساطة الحياة، فلا تحتاج إلى جهد لإدراكها أينما حللت. وهي بساطة لا أعني بها جانب العوز أو الحاجة فيها، وإنما أقصد خلو حياتهم من مظاهر التعقيد المتفشية في كل المجتمعات. فالعماني ميال إلى الفطرة في كل شيء، في المأكل والملبس والمسكن والحديث؛ إنه لا يحتاج إلى مقدمات لتبرير رفضه لما يراه غير مناسب له، فهو يقول الحق حتى في أقرب الناس له. أما المجاملة، فبضاعة كاسدة لديه حتى وإن كلفته ثمناً غالياً. وبخصوص القناعة، فأنت تقرأها في كل وجه، وفي كل مناحي الحياة. لقد لمست حقّاً عمق معنى: «اليد العليا خير من اليد السفلى» خلال إقامتي القصيرة في سلطنة عمان، بحيث لم أر طوال أربع سنوات قضيتها هناك متسولاً واحداً. والحال أن المجتمع العماني كسائر المجتمعات العربية الإسلامية لا يخلو من فقراء معدمين، غير أن الأنفة من جهة وغنى النفس والقناعة من جهات أخرى أكسبته المناعة وبوأته المكانة المحترمة والمتميزة.
وارتباطاً بالإنسان في أي مكان، يأتي عنصر البيئة. وهو عنصر حظي في سلطنة عمان بكثير من العناية والرعاية. فعلى امتداد الطرقات ذات المسافات الطويلة، تبدو للناظر أشرطة خضراء مزركشة زاهية الألوان، ليست سوى أنواع مختلفة من الأزهار والورود، ذات الطبيعة الصحراوية، تتخللها أشجار يانعة كأنها في واد خصيب كثير المياه معتدل الهواء. وواقع الحال أن الاخضرار في كل شيء هناك قائم بالأساس على السقي بالقطرات عبر شبكة أنابيب تطول وتقصر، وتمتد أو تتقلص حسب المساحة المبرمجة، كلف العماني للسهر عليها طائفة من العمالة الوافدة من بعض البلدان الأسيوية الرخيصة الأجر، وفي نفس الآن لا تكل في شغلها، دائبة الحركة شديدة المرونة، سريعة الاستجابة لطلبات القائمين عليها، أو ما يسمى عندهم بـ«الأرباب». فالأرباب الذي هو جمع «رب» مصطلح شائع ليس في سلطنة عمان فقط، بل في جميع بلدان الخليج، وهو يعني عند الأسيوي هندياً كان أو بنكلاديشياً أو فليبينياً أو باكستانياً، الخ، كل من يشغله ويؤدي له أجره… وتكثر هذه النماذج من اليد العاملة وتتنوع. فهي في جميع مرافق الحياة في عمان، تجدهم ساهرين في الطرقات والحدائق على سلامتها وسقيها ونظافتها؛ كما تجدهم في الشوارع ينظفون فيتنقلون بين القمامات يضعون بداخلها ما يجمعونه من فضلات وبقايا أشياء مختلفة؛ كما يشتغلون في المزارع الخاصة لبعض الفئات الميسورة، إضافة إلى العمل في البيوتات ومؤسسات الدولة، وورشات إصلاح السيارات ومرافق أخرى غيرها.
ومن مظاهر العناية بالبيئة في سلطنة عمان تخصيص الجوائز لهذا الغرض. وقد حصلت عاصمتهم مسقط على جائزة أنظف مدينة من جهات خارج عمان.
أما العناية بالمعالم الأثرية في عمان، فمنظر آخر دال على عمق الصلة عند العماني بين ماضيه وحاضره، وحبه لثقافة أجداده التي تحكي علو كعبهم، وتفردهم بالرغم من الصعوبات التي كانت قائمة وتعترض سبيلهم وقتئذ. فقد شيدوا قلعاً قلما يوجد لها نظير، وحفروا «أفلاجاً»، ومدوا قنواتها أميالاً كثيرة مخترقين بها أماكن وعرة جاعلين منها شرايين تسقي البلاد والعباد، حتى إنك لتندهش أحياناً عند رؤية قلعة ضخمة ذات تصاميم هندسية بديعة كقلعة «الحزم» ([5]) مثلاً، بطابقيها العلوي والسفلي، وبغرفها المتقنة والمحكمة يخترقها فلج رقراق تندفع مياهه بسرعة ووفرة في اتجاه جهات أخرى. فقد أجابني أحدهم على سؤالي كنت سألته وأنا أقلب النظر في هذا التصميم العجيب، عن سر وجود خزان كبير للمياه وسط القلعة، بأن القلعة كانت زمن الحروب تستطيع أن تصمد وتستغني عن العالم الخارجي مدة طويلة في حال محاصرة العدو لها ومنع الإمدادات عنها، وهو ما كان يحصل غالباً، لأن سلطنة عمان عرفت كثيراً من الفتن سواء ما كان منها داخليّاً بين القبائل أو ما كان خارجياً من البرتغاليين وغيرهم.
كما أن القلعة تحتوي على خزائن كثيرة للتموين والعتاد الحربي، إضافة إلى مرابض مخصصة للخيول في أوقات السلم والحرب معاً. واللافت للنظر أن القلاع منتشرة في جميع مناطق السلطنة، مما يعني أن العماني القديم كان منشغلاً – كما أسلفت – بأمور الحرب، كثير الحرص على سلامة بلده من هجمات الأعداء وغاراتهم، أذكر من هذه القلع: قلعة «الحزم» القريبة من مدينة الرستاق، وقلعة «النخل» التي تبعد عن الرستاق بحوالي ستين كلم، وقلعة «نزوى»([6]) وقلعة «جبريل» ببهلة، وقلعة «عبري» وقلعة «صور» وغيرها من القلاع الأخرى في مناطق مختلفة.
وقد بدا العماني الحديث معتزاً بإرث أجداده، مهتماً أشد ما يكون الاهتمام. يبدو ذلك جلياً في عملية الترميم والصيانة التي شمل بها جميع تلك القلاع، حيث خصصت وزارة الثقافة والتراث العمانية ميزانية ضخمة لهذا الغرض، وأبرمت مع نظيرتها في المملكة المغربية عدة اتفاقات تم بموجبها استقدام خبراء وتقنيين مغاربة في مجال ترميم الآثار. وفي حدود علمي، كانت نتائج العملية جيدة واستغرقت أزيد من عشر سنوات.
إن عناية عمان بتراث الآباء والأجداد خطة عملية غير مفصولة عن المنهج العام الذي هو الاهتمام بتأهيل الإنسان العماني الذي هو عصب التنمية وقوامها، وإن عملية استقراء بسيطة لمرحلة زمنية ليست بالطويلة، وهي الربع الأخير من القرن العشرين ، تظهر التطور الحاصل والقفزة النوعية داخل المجتمع العماني نتيجة العناية بتأهيل العنصر البشري. فبعد أن كانت المدارس قليلة، وإن شئت قل كان فضاؤها الهواء الطلق أو تحت الخيام المبنية بسعف النخيل وكان الوصول إليها محفوفاً بالمخاطر لانعدام الطرقات والمسالك، أصبحت المدارس الآن في كل جهة مأهولة مهما نأت، تحتوي على وسائل تحمي التلميذ من شدة الحر وتوفر له ظروفاً مناسبة للتحصيل، أضف إلى ذلك أن الدولة تتكفل بوسائل نقل التلاميذ والتلميذات بمختلف مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي. أما التعليم العالي، فعلى الرغم من حداثة مؤسساته، فإن السلطنة تتوفر على جامعة محترمة متطورة هي جامعة السلطان قابوس، وتضم مختلف التخصصات ويعمل بها أساتذة من جميع بلدان العالم العربي، تنهج عمان في اختيارهم سبلاً علمية غاية في الدقة. أما قبول الطلبة والطالبات بهذه الجامعة، فيخضع لمقاييس محددة لا يتم القبول من دونها، إذ ليس كل من ينجح في الباكالوريا يدخل الجامعة، وإنما يتم احتساب الدرجات (المعدلات) المحصل عليها، مما يعني أن الجامعة مفتوحة أبوابها للمتفوقين فقط، وما عداهم يبقى دون مقعد فيها، الأمر الذي يدفعه للبحث عن مقعد في جامعات خارج السلطنة؛ كما أن جامعة السلطان قابوس لا تسمح لغير العمانيين بمتابعة الدراسة إلا من حصل على إذن خاص واستثنائي من الدوائر العليا في البلاد.
وموازاة مع نظام الجامعة، كان نظام الكليات المتوسطة للمعلمين والمعلمات يتخرج منه أفواج توكل إليهم مهام التدريس في مؤسسات التعليم الابتدائي ضمن مخطط التعمين، أي الاقتصار على الكفاءات العمانية والاستغناء عن المدرسين الوافدين من مختلف البلدان العربية.
وتأتي سنة 1995 لتعرف تلك الكليات المتوسطة تحويلاً جذرياً، بحيث تحولت من التبعية لوزارة التربية والتعليم إلى التبعية لوزارة التعليم العالي، ورقيت في مستواها إلى كليات التربية، ومهمتها تكوين أطر عمانية للتدريس بأسلاك التعليم الإعدادي والثانوي. وقد تولى أمر التأطير فيها أساتذة جامعيون استقدموا من جامعات عربية من ضمنها جامعات مغربية كنت واحداً ممن اختيروا للتدريس بها.
وقبل وضع تجربة كلية التربية في الصورة، أجدني لشدة إعجابي منساقاً للحديث عن الأجواء العامة التي تسبق الحصص الدراسية في مؤسسات التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي. يبدأ الحديث عن المنظر البديع الذي يسبق لحظة الدخول إلى المدارس، ومصدره الحركة النشطة للأعـداد الكبيـرة من التلميذات والتلاميذ وهم يستقلون حافلات النقل المدرسي- يسمونها الباصات- في هدوء ونظام، كلهم توثب واستعداد لتلقي المعرفة. وللإناث مثلما للذكور زي موحد. وقبل انطلاق الدراسة في كل يوم، تمارس طقوس جميلة تنمي في نفسية التلميذ حب الوطن والعمل. فبعد تحية العلم، وعزف النشيد الوطني الذي يحفظه الجميع بكل تلقائية بنغم فرقة موسيقية مكونة من التلاميذ والتلميذات أنفسهم، يتم تنشيط الفترة ذاتها بركن الإذاعة المدرسية بإجراء مسابقات خفيفة تتناسب والوقت المخصص لها. إنه فعلاً عمل وتقليد جميل ومفيد يغذي – كما أشرت – روح الوطنية في النشء، ويخلق الجو المناسب للتحصيل.
وأعود للحديث عن الحياة العلمية داخل كليات التربية، وأخص بالذكر منها كلية البنات التي كنت أعمل بها. وهي في حدود علمي لا تختلف نظاماً ومنهاجاً عن غيرها من كليات البنين التي كانت تصلنا أخبارها، إما عن طريق الزملاء الأساتذة الذين ضمهم فوجنا من المغرب، أو من خلال أنشطة علمية كانت تقام بين الكليات مثل المسابقات الأدبية تحديداً.
لم يكن العمل بكلية للبنات في مجتمع لا يسمح بالاختلاط بالأمر العادي من ناحيتنا، خصوصاً وقد تعودنا في بلدنا التعامل مع الجنسين في مستوى واحد وخطاب واحد، لا فرق في المجال العلمي بين الاثنين. أضف إلى ذلك أننا كنا نتحفظ، بل نتخوف مما قد يحصل من صدامات، ربما نتيجة سوء فهم لمقصدية العبارة في الحديث، على اعتبار أن الفتاة العمانية لم تتعود غير المرأة في التدريس: فهي الآن لأول مرة سيدرسها أستاذ. وكنا نتصور أنها ربما تحمل بدورها نفس المخاوف والتحفظات. بيد أن الواقع بدد كل الاحتمالات وأظهر أن الفتاة العمانية قوية بشخصيتها، طموحة في فكرها، شغوفة بالتحصيل والمعرفة، إذا تحدثت تتحدث فيما ينبغي، وإذا سكتت فلأنها لا تدري، لا تقتنع في الحوار العلمي إلا إذا اقترن الإفهام بالدليل، دقيقة في أسئلتها، لا تخجل أبداً في طرح ما يبين السبيل ويكشف الغموض، جدية في سلوكها، منظمة في عملها. تراها إذا كلفت بإنجاز بحث أو إلقاء درس تطبيقي تنجزه بإتقان، وتؤديه وفق الخطة المرسومة لها. بل كثيراً ما كانت تبدع إيجاباً. ولا ترى في الأمر أي حرج إذا ما أوقفها المؤطر في لحظة ما من لحظات الدرس ليصحح لها خطأ أو يقوم لها عبارة، شديدة الحرص على ألا تعيد مكروراً أو أن ترتكب خطأ تم تصحيحه لها من قبل، محبة لعملها… والقول فيها ضمّنتُ خلاصته في رسالة أدبية كنت كتبتها تحت تأثير الإعجاب بها أولاً، ولأنها تستحق الثناء على خصائصها الرفيعة ثانياً. كتبت الرسالة عند توديع السلطنة على أثر انتهاء مهمتي العلمية بها، وهي موجهة إلى كل طالبة علم عمانية، وذلك في متم السنة الجامعية 1998-1999. ويسعدني أن أثبتها في معرض حديثي هذا:
تحية إكبار وتقدير، أما بعد؛
فلعلك تدركين في المقصوص الآتي قصدي، وتحملين الكلام فيه محمل العقل والجد، فليس فيه – والله – إلا الصفاء والصدق، ولم أكلف فكري فيه عناء النظر والحدق. فقد انثال علي انثيالاً، دالاً على ما فيك حقيقة لا احتمالاً، بأنك فعلاً – وهذا سر اكتشافي بعد درس مني واعتكاف – إنسانة تستبطن ملاكاً، فهنيئاً لك ولنا بذاك.
فلو كان يدري أفلاطون مجيئك ما تعب، ولا كلف نفسه عناء البحث ولا ندب. فأنت السر الذي كان عنه يبحث، ويجري سعياً وراءه ويلهث، ليقيم صرح مدينة عالمه الجميل، فلم يظفر من فيضك إلا بالقدر القليل، فانهار حلمه وتحطم. ولو كان يدري بعض سجاياك ما تسرع وتكلم، ولانتظر بزوغ فجرك ليتبسَّم، ولكن هيهات لات حين مندم…..
أنت عزيزتي جوهرة الخليج تضوع فائح ذكرك، ولؤلؤة البر استطار بارق فجرك، وعملة نادرة في هذا الزمن الحالك الأغبر، لا يدرك سرها إلا من عضه الدهر بنابه وتسمر: خلق نبيل عز نظيره، ونقاء في السريرة محياك دليله، سار ذكره على كل لسان مسير الشمس بكل مكان، فاهنأ بما حويت وجمعت من شيم وأوعيت من فضائل نفيسة، وبما ملكت من عزم سما بك وأنت جليسَه… قواك الله على درب الفضيلة أبداً، وثبتك على نهج الحكمة سرمداً. وحقق لك الأماني القاصي منها والداني. فكوني – رعاك الله – حريصة على ما اكتسبت، صؤونة لما ملكت، وفية لما نذرت ، وحذار من الزيغ والخنوع: فالأول مذمة مشؤومة، والثاني مذلة معلومة. فلا هذا في المعنى دليل طاعة، ولا ذاك في السلوك شجاعة. فأنت تعلمين وسطية الدين الحنيف علمك بالعلة في الفعل اللفيف، ثم اعلمي – قواك الله – أن فيك أمل هذا البلد الغالي لتشييد ما انهدم من صرحه العالي، مثلما كان في العهود والأحقاب الخوالي.
فاسألي التاريخ إن كنت لا تدرين، أو فاتك منه بعض اليقين، يخبرك عن جميل أخباره وروائع أسراره، وعن فعل أبنائه وأجداده، ثم سلي عنه المحيطين، القريب منك والبعيد، لتعلمي حقيقة مجدك التليد. فهي باقية منقوشة وفوق بساط التاريخ مفروشة، تنتظر من ينفض عنها الغبار ويعيد البسمة بها للنظار. فهيا شمري عن ساعديك، يا نجمة الأصحار، لإنجاز الأمر أنت ومن معك من هذا الجيل من الأخيار. وفقك الله ورعاك، ومن النائبات وقاك. والسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
كما كنت عبرت شعراً عن هذا الإعجاب بقدرات الفتاة العمانية قبل هذه الرسالة الأدبية، بقصيدة أرى ضرورة إثباتها، بما تحويه من تصوير للشيم الأصيلة التي تصدر عنها تلك الفتاة في مختلف مناطق السلطنة ومحافظاتها، فقلت:
عنـوان نبـل في الـورى قمـم
رهــان فــوز آكـد وثـق
عربيـة نبـع الوفـا الــصدق
أصـيلـة في الخلــق والخلـق
خلق تسامى ما له شبه
بين الورى في دهرها الخرق
دمث حكى في عمق محتدها
قصصاً بلسن مشهورة نطق
تواقة لا تعرف الملل
غير أنها للضيم لم تطق
للعلم تسعى ليس يبعدها
لغب ولا زحم لمستبق
وتوقد في الفـكر رائـدها
فكأنها الزرقاء في حدق([7])
ليسل عن الزرقاء من جهل
تاريخها المسطور في الورق
سيعلم الأثر الذي صنعت
بصرت بعيداً خلف ذا الأفق
بلد سما نبلاً، فواعجباً
لفتاته دعيت، فلم تثق
دعيت لتنهل من عرا زمن
فتعالت وعلت على خلق
شرقية، غربية، عجاً
لا فرق بينهما بذا الطبق([8])
يحويهما جنباً، وظاهرة
وظفار في ثوب له أنق
حريصة تخطو على وجل
مفحمة يوم اللقا النطق
فكر تسامى في البناء كما
شهدت صحار لذاك بالصدق
شيم هي الشهد الشهي جنت
نزوى لذاذته بلا عنق
وهذي فتاة سمائل([9]) ملكت
شعراً يزيح غمة القلق
الله جار فتاة مسقطنا
لا زل رشد فكرها العمق
وهذه البطحاء تحملنا
صوب العلا في خطوها الوثق
أما السويق([10]) فقد بدا جذلاً
تخطو حمامته على نسق
جنب التي تزهو عرائصها
صحمية نبت الثرى العبق
فبالعلم سمت كما فعلت
أخت لها بجنبها اللصق
بشراك يا صور بما حملت
أدواحك الفيحاء من رزق
بشراك يا إبرا([11]) فأنت لنا
نور تنامى في الثرى السحق
بشرى لنا بالعز في وطن
لاحت بشائره ورا الغسق
بشرى لنا بالبشر في بلد
فتياته نالت سنا السمق
سلمت خطاها من منى حسد
ويحفظها من جاء بالفلق
رباه صنها ما سرى زمن
وانشر لها فضلا لملتحق
الرستاق في 10/11/1996
إن التركيز في هذا الوصف على العنصر المتعلم من الفتاة العمانية، لا يعني أبداً استثناء غيره مما حظيت به من العناصر الإيجابية والقيم الرفيعة، إلى جانب قوة الشخصية وقدرتها على تحمل الصعاب والمشاق. فقد سلمها شقيقها الرجل مسؤوليات جمة داخل الأسرة وخارجها.
وفي زاوية أخرى من زوايا الحياة اليومية في المجتمع نجد بعض الأنشطة التجارية التي لا يمارسها غير العماني، خاصة بيع اللحوم والأسماك والخضر. فإذا دخلت أسواقهم، وخاصة أسواق السمك واللحوم، فإنك ستجد الرجل بطاقيته أو عمامته، يزاول مهمته بنشاط وحب وإتقان، يناديك للمجيء إن كنت عنه بعيداً، ويحبب إليك بضاعته إن كنت قريباً منه في غير مبالغـة أو مماسكة. فالأثمنة تكاد تكون محددة بين مختلف الباعة في حلقات السوق الواسعة، وتتنوع الأسماك عندهم وتتعدد، لكن أغلبهم يستهلك نوعاً مميزاً عندهم يسمونه: «الكنعاد» (وهو سمك التونة). كما يكثر في أسواق السمك بعمان نوع من سمك السردين ما رأيت شبيها له عندنا، كبير الحجم كثير الدسم. وما أثار انتباهي في السوق وأنا أتأمل البضاعة المعروضة، وجود أنواع من الأسماك المجففة بحرارة الشمس، وبالأخص ذلك النوع الصغير الحجم يقبل العمانيون على شرائه بشكل لافت للنظر. وقد دفعني حب الاستطلاع إلى معرفة سر إقبالهم عليه وكيفية طهيهم له ونوع الوجبة التي تقام به، فقيل لي إنهم لا يستعملونه إلا مختلطاً بالأرز، فيشكل لديهم وجبة لذيذة تستهوي الصغير والكبير منهم. وقد لاحظت خلال ترددي على سوق السمك، وكان التردد مستمراً مرتين على الأقل في الأسبوع، لاحظت- وذلك أمر عجيب- قلة إقبالهم على بعض الأنواع كسمك موسى على سبيل المثال، بحيث كنت أشتري منه ما أريد دون مزاحمة إلا من الطارئين على السوق من الإخوان المصريين أو التونسيين تحديداً. وأعتقد أن السبب في عدم إقبالهم هذا يعود إلى تفضيلهم للـ«كنعاد» و«الهامور» وإلى طقوس الاستهلاك. فهم عادة يحشونه بالأرز ونادراً ما يستعملون الأسماك مقلية. أما سمك موسى، فغالباً ما يناسبه القلي ويتناول مع جزئيات أخرى لا تدخل في تقاليد الأكل العماني.
وإذا أقبلت على سوق اللحوم، فستجد صنفين منها: الأول عماني من بقر ومعز عمان الخالص، وهذا النوع مميز في السوق، ثمنه يزيد ضعفين أو ثلاثة على ثمن غيرها من اللحوم الأخرى. وإذا أردت اقتناء اللحم العماني عليك أن تأتي إلى السوق مبكراً، وإلا انتظرت مجيء اليوم ذاته من الأسبوع المقبل، لأن العمانيين- كما لاحظت- يذبحون مرة واحدة في الأسبوع، ونادراً ما يفعلون مرتين. أما الصنف الثاني من اللحوم، فهي لأبقار وأغنام مستوردة ينعتونها بالهندية أو الأسترالية. والحقيقة أنها ليست لذيذة مثل اللحوم العمانية، وعند طهيها تفرز ما يشبه الزبد، وبها رائحة خاصة.
أما الخضر لديهم، فغير متنوعة؛ وأغلبها مستورد شأنها شأن الفواكه التي تتعدد مصادر استيرادها، تأتي من إيران والهند وأمريكا اللاتينية. ومن المغرب يستوردون البرتقال واليوسفيّ، وهذا الأخير مرتفع الثمن ولا يوجد إلا في الأسواق العصرية الكبرى.
والحديث عن الخضر يفرض القول بوجود نوع منها ينتجه العمانيون بكمية وافرة إلى حد أصبحوا يصدرون منه وأخص بالذكر الطماطم، وذلك انطلاقاً من إنتاج سهل الباطنة. وسهل الباطنة هذا هو الشريط الساحلي الذي يمتد من محافظة مسقط إلى ما وراء صحار، وهو سهل غني بمياهه الجوفية تكثر فيه الضيعات الفلاحية لأثرياء عمان من رجال الدولة وضباط الجيش.
وأعود للحديث عن الأنشطة التجارية. وهذه المرة لتلك التي يغيب عنها العماني أو يكاد، كتجارة الملابس العصرية وخياطتها. إذ يعتبر هذا المجال حكراً على الهنود والباكستانيين، مثلما هي محلات بيع الدجاج الحي وذبحه ونتف ريشه أو سلخه موكولة للباكستانيين، على وجه الخصوص، ربما لاعتبارات دينية وعقدية. فالباكستانيون الموجودون بالسلطنة جميعهم مسلمون. أما الطوائف الآسيوية الأخرى، فيوجد بينهم من لا يدين بالإسلام كالمسيحيين من الفلبيين والسيخ من الهنود.
وإذا انتقلنا إلى وصف عادات العمانيين وتقاليدهم، فسنجد أنها لا تختلف كثيراً عن تقاليد غيرهم في المجتمعات العربية الإسلامية في سائر الأصقاع. وأعني بقولي «لا تختلف كثيراً» إشارة إلى نوع منها تنفرد به سلطنة عمان. فالعمانيون يحتفون بعيد الفطر أكثر من احتفائهم بعيد الأضحى، يجهدون جيوبهم في اقتناء الذبائح من الأبقار والمعز في هذا العيد، مثلما يفعلون في عيد الأضحى. إلى هنا ربما لا يكون في الأمر أي عجب، غير أن الأمر اللافت هو طريقتهم وعادتهم في طهي لحومها: فهم يتعاملون معها تعاملاً يتفردون فيه، إذ يعمدون إلى حفر الحفر وإضرام النيران بها حتى إذا حميت وقوي لهيبها، وضعوا اللحوم بداخلها بعد تجهيزها بمختلف أنواع التوابل ولفها حماية من الرماد والتراب، ثم يقومون بردم الحفر عليها بطريقة محكمة تاركينها بضعة أيام قبل استخراجها فتكون جاهزة للأكل لذيذة. وتكتسي هذه العملية أهمية ذات شأن في مختلف مناطق السلطنة بحيث لا تستطيع تصور طقوس العيد عندهم من دونها. وربما- كما أخبرنا بعضهم- تكون هذه الطقوس موضِع المنافسة إن لم أقل المفاخرة والمباهاة فيما بينهم في جانب من جوانب الموضوع كالحديث عمن ادخر أكثر، ومن كانت عملية طهيه أحسن وأجمل، خصوصاً وأن هذه العادة تحاط باحتفالية خاصة من لدن الأسر والعائلات. أما حين يستوي اللحم وينضج ويصبح جاهزاً للأكل، فإن العماني يطعم منه القاصي والداني ويكون فرحاً جذلان بحاتميته التي عرف بها؛ فهي ليست طارئة عليه ولا جديدة في تقاليده، وإنما هي فضيلة نفسية مستحكمة في وجدانه تظهر عنده في كل المناسبات ومن دونها. فحين تنضج «الرطب» على سبيل المثال لا الحصر، فإن العماني يشبعك أحسنها وأجودها دون أن تطلب أنت ذلك؛ فهو إنسان كريم بطبعه بسيط في حياته. ففي كل زاوية أو باب مؤسسة أو زقاق حي تجده مفترشاً الأرض وأمامه رطب وإبريق من قهوة عمانية، يناديك بإلحاح لمشاركته في تناول ما لديه.
وأختم حديثي عن كرم العماني بما نقله إليّ أحد المغاربة بيني وبينه رابطة عائلية – كان يدرس بمنطقة صور صحبة مجموعة من المدرسين المغاربة والمصريين. إذ كانوا عند عودتهم من العمل يجدون أمام أبواب منازلهم أكياساً تحوي كل مرة قطعاً من اللحم أو كميات من السمك. أما الرطب في موسمها، فتمتلئ بيوتهم بها. فصدقت حكايته لأنني عاينت مثلها في جهات أخرى من مناطق السلطنة. كانت مدينة الرستاق مقر عملي صحبة مجموعة من الزملاء الأساتذة المغاربة، إحداها، حيث لمسنا عن قرب حاتمية العماني في الأعياد والمناسبات وفي سائر الأيام. أما إذا احتجت إليه أنت وقصدته في شيء، فيكون ملبياً ثاقب الزند([12]).
إن ما لمسناه وشاهدناه في سلطنة عمان طوال أربع سنوات من نبل خلق العماني وسعيه الحثيث صوب أدراج التطور والرقي في ميادين شتى يجعل أي متتبع لمراحل نمو هذا البلد العربي الأبي ليطمئن على مستقبله الواعد؛ كما يجذب من دخله إلى حد لا يقوى على مفارقته. وإن فارقته، يذهب آسفاً حزناً. وهذا ما حصل فعلاً يوم ودعت السلطنة وودعني أهلها في حفل كتبت كلمة قلت فيها:
إخوان صدق ترى هل ينفع الحزن
وهل يفي غرضاً ما بات يلقانا
كنتم لنا سكناً في النأي نذكركم
وبتّم في سويدا القلب سكانا
يا باكي الخل إن الخل مرتحل
إلى ديار بها حب لكم عانى
من هدر ذا الأطلسي الحاجب الخبرا
من خلف آلاف ميل بات يلحانا
يا قائم الليل لا تنس الدعا لفتى
قلب له بالخليج صار ولهانا
إلى غد نلتقي والود يجمعنا
في ظل سدد وشيح بين خلانا
فهاكم ذا السلام من أخي شجن
صب حوى من فراق القوم أشجانا
وأختم الحكاية وتبقى سلطنة عمان فيها مشهداً تاريخياً – وإن قصر زمانه – منقوشاً في الذاكرة المغربية بعيون أهلها، تبلى الأيام ولا يبلى.
مراجع
([1]) هذه السنوات تؤرخ لتجربة شخصية عاشها الكاتب في سلطنة عمان الشقيقة. وقد كانت غنية ومفيدة. وما سطره في هذا المقال ليس سوى جزء بسيط من مشروع كلي للكتابة سيرى طريقه إلى النشر قريباً.
([2]) انظر رحلة ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأخبار، القسم الخاص بعمان.
([3]) الباطنة إحدى المقاطعات التي يتكون منها عمان إلى جانب المنطقة الداخلية والشرقية ومحافظة مسقط وظفار ومسندم وغيرها.
([4]) الرستاق: مدينة تاريخية كانت عاصمة لعمان في الماضي، وتقع بين سلسلة جبلية عالية، خلفها وغير بعيد منها يقع الجبل الأخضر الذي أشرنا إليه في السابق.
([5]) «قلعة الحزم» سميت كذلك لوقوعها وسط قرية الحزم التي تقع بالقرب من مدينة الرستاق.
([6]) نزوى من المدن الكبرى في عمان. وقد كانت عاصمة في الماضي. تبعد عن مسقط بحوالي 300 كلم.
([7]) المقصود بها زرقاء اليمامة المشهورة في الحكايات التاريخية بحدة نظرها وقوته قيل إنها كانت تخترق به المسافات.
([8]) إشارة إلى مناطق عمان وجباله.
([9]) مدينة على الطريق المؤدي إلى نزوى التي تقع في المنطقة الداخلية.
([10]) مدينة تقع في منطقة الباطنة في الشريط الواقع بين مسقط العاصمة ومدينة صحار.
([11]) مدينة تقع في المنطقة الشرقية، وكذلك مدينة صور التي وردت في البيت السابق.
([12]) الميداني، مجمع الأمثال، ج II ص: 398 ويضرب هذا المثل لمن يطلب منه الخير فيوجد.
*أكاديمي مغربي/مجلة “التاريخ العربي”