إن الموضوع الذي ننوي معالجته في هذه السطور هو “الرحلات الشنقيطية صوب الجزيرة العربية”.
وهذه الصياغة تدعونا إلى التوقف عند أبرز الوحدات المعجمية المكونة للعنوان مثل “الرحلات الشنقيطية” و”شبه الجزيرة العربية”. فالرحلات جمع رحلة، وهي مصدر رحل يرحل رحلة إذا سار وسافر. قال صاحب “لسان العرب”: “ورحل الرجل إذا سار وأرحلته أنا، ورجل رحول وقوم رحل… ورجل رحال عالم بذلك مجيد له”([1]).
ويسترسل ابن منظور في اشتقاقات هذه المادة المعجمية ودلالاتها قائلاً: “والترحل والارتحال الانتقال، وهو الرحلة. يقال: دنت رحلتنا ورحل فلان وارتحل وترحل بمعنى« ([2]). أما صاحب “القاموس”، فإنه يستعرض اشتقاقات هذه الكلمة محاولاً التفريق بين الرحلة بالكسر والرحلة بالضم. يقول: »الرحلة بالكسر الارتحال بالمسير، ومنه قوله تعالى: {رحلة الشتاء والصيف}؛ والرحلة بالضم الوجه الذي يقصده. يقال مكة رحلتي: أي وجهي الذي أريد أن أرتحل«. إليه وتتعزز هذه المعاني مع أصحاب “المعجم الوسيط” الذين اتبعوا سبيل المعجمية العربية القديمة مصنفين معنى جديداً وهو أن »الرحلة أيضاً تطلق على كتاب يصف فيه الرحالة ما جرى. والرحالة الكثير الرحلة، والتاء للمبالغة«([3]). فهذه المادة اللغوية إذن تسبح في فلك الانتقال والظعن والمسير والضرب في الأرض والانتشار، فهي متسعة الوحدات متعددة الإشتقاقات (رحل، ارتحل، ترحل، رحّل، استرحل)، مما قد يكشف عن تعاظم نشاط السفر والارتحال عند العرب. ذلك بأن الوحدات اللغوية والمعجمية في حقل معين غالباً ما تصحبها زيادة في السيرورة والتداول. فالأمم تشتق من الوحدات اللغوية عادة على قدر ما تستهلك.
أما في المنظور الاصطلاحي، فإن الرحلة مصطلح أدبي وجغرافي يقصد به غالباً ذلك المنتوج الفني الذي يروم التنظير لأدبيات السفر والمسير، ذلك الخطاب الذي يتبع نشاط الرحالة وهو يجوب البلاد ويقطع المسافات إما عبرة واستبصاراً، أو حجاً واعتماراً، وربما نزهة واستطلاعاً، أو طلباً للمعارف والعلوم، أو سعياً لاكتساب التجارة والعروض.
أما كلمة »الشنقيطية«، فجاءت لتفيد انتساب هذه الرحلات إلى بلاد شنقيط. وهذه التسمية علم مدينة قديمة تقع في منطقة »أدرار«، وتعني بالصنهاجية عيون الخيل. وكانت هذه المدينة مصدر إشعاع ثقافي كبير، إذ تمثل منطلق الحجيج ومركز النشاط التجاري فيؤمها من حولها من أهل القرى. وابتداء من القرن الحادي عشر أصبحت تطلق على المجال الجغرافي المعروف اليوم بموريتانيا، وهي تسمية عريقة أصيلة تحمل بعداً تاريخياً حضارياً ودفئاً معرفياً. ثم إن معظم الرحالين الذين سنعرض لهم قد كتبوا نصوصهم تحت ظل هذه التسمية، وفي أكنافها قبل أن يظهر مصطلح »موريتانيا«، لذلك اخترنا مصطلح شنقيط دون غيره انسجاماً مع المدونة ووفاء للتاريخ. أما »الصوب«، فهو الاتجاه والقصد على ما ذكر صاحب “القاموس”([4]).
أما شبه الجزيرة العربية، فمجال جغرافي محدد معروف. قال في “القاموس”: »جزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام، ثم دجلة والفرات أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولاً ومن جدة إلى أطراف ريف العراق عرضاً«([5]). وبالجملة، فهي شبه جزيرة تقع في جنوب غرب آسيا على المحيط الهندي بين البحر الأحمر والخليج، وتغطي نحو ثلاثة ملايين كيلومتر مربع وتشمل السعودية، واليمن، وعمان، واتحاد الإمارات العربية، وقطر والبحرين. وهي من أغنى حقول النفط في العالم.
ومن هنا، فإن همنا ينحصر في الحديث عن الرحلات الشنقيطية التي اتجهت صوب شبه الجزيرة العربية. وقد قسمنا هذا الموضوع إلى عدة محاور متحدثين أولاً عن أهمية الرحلة، لنعرض بعد ذلك في المحور الأول إلى حنين الشناقطة نحو البلاد المقدسة، مخصصين المحور الثاني لرحلات الشناقطة نحو الحجاز، مستعرضين في المحور الثالث الأخير جانباً من التبادل الثقافي بين البلدين. فماذا عن الرحلة وأهميتها عموماً؟ وكيف كان عاقبة سعي الشناقطة في هذا الجانب؟ وهل قدموا بشأنه ما يستحق التقدير والإعجاب؟ ثم من الوجه الثقافية التي فعلت فعلها في هذا التحاور والاتصال؟
أهمية الرحلة عموماً
لا بأس أن نشير هنا إلى أهمية الرحلة بادئين أولاً بتعريفها من الوجهة الاصطلاحية فهي صياغة أدبية يعبر الأديب من خلالها عما أحس به وهو يجوب الآفاق مكتشفاً ومتعلماً. وقد يراوح أحياناً بين الشعر والنثر([6]). ولابد من التنبيه هنا إلى أن مفهوم الرحلة مفهوم متشعب متداخل الدلالات والمعاني: فقد يعني مجرد الانتقال من إقليم إلى آخر، وقد يعني لوناً أدبياً يقوم على علاقة زمنية مكانية تعتمد التقليد الأمين وعرض الخواطر بدقة([7]). غير أن الرحلة أصبحت اليوم فناً من الفنون الشائعة المتداولة في مختلف بلاد العالم. وقد ساعد على ازدهارها اختلاط الشعوب وحب الاطلاع والاستطلاع، والكشف والاستكشاف. فتضاعف الاهتمام بها واتسعت دائرتها لتشمل الأدب والتاريخ والجغرافيا، مما دعا بعض الدارسين إلى القول: »إن التأليف في الرحلة يقتضي ثقافة واسعة ودقة في الملاحظة« ([8]).
واعتماداً على ما سبق، يمكن القول إن الرحلة تعتبر ملتقى للمعارف والفنون؛ إذ تتصل بأمور كانت من صميم الجغرافيا كعلم السكان والتجارة والاقتصاد، دون أن تهمل ميدان السياسة والاجتماع والتربية والتعليم وغيرها »فهي كثيراً ما تهتم بالعادات والتقاليد وتعنى بتحديد الفروق بين الشعوب والمجتمعات، مشيرة إلى الاختلاف في أنماط الحكم والعلاقات بين الحاكم والمحكوم« ([9]).
فالرحلة بهذا صلة وصل بين الثقافات المختلفة: »فهي وسيلة من وسائل التقدم والتطور وأداة تفاعل حضاري كما تشهد لذلك رحلات الطهطاوي والتونسي والشدياق« ([10]).
وزيادة على ذلك، تبدو الرحلة ميداناً معرفياً غنياً بالدلالات والرموز ومجالاً خصباً يشي بقصة جهود الإنسان وجهاده ساعياً إلى اكتشاف مجاهيل الكوكب الأرضي مرتاداً آفاقاً جديدة، رغبة في إدراك بعض أسرار الكون وأملاً في الاطلاع على سلوك البشر وطرائق عيشهم. فالسفر إذن درس تجريبي ومدرسة تعلم الناس وترشدهم إلى استخلاص العبر. ولعل ذلك ما حمل الفيلسوف الأنجليزي فرانسيس بيكون إلى القول: »إن السفر تعليم للصغير وخبرة للكبير« ([11]). ولا نجانب الصواب كثيراً إن قلنا إن الأمر السابق نفسه هو الذي دفع الشيخ حسن العطاء الأزهري إلى تأكيد أن الرحلة مصدر العجائب وأنموذج البدائع. فهي ـ في نظره ـ مرآة الأعاجيب وقسطاس التجارب([12]). وأكثر من ذلك، يذهب أحد الأدباء الفرنسيين إلى القول: »إن الرحلات تشكل أكثر المدارس تثقيفاً للإنسان« ([13]). ومن هنا نعلم أن الارتحال عماد الواصل والتلاقي وأساس التعارف والحوار، مما يساعد على تنمية الخبرات وتطويرها، إذ يدعو إلى تقويم النفوس وتهذيبها. وذلك ما أبان عنه الأستاذ صلاح الشامي الذي اتخذ من عبارة »الرحلة عين الجغرافيا المبصرة« عنواناً لكتابه، مشيراً إلى أن الرحلة ليست وسيلة اكتشاف فحسب، بل هي أيضاً:
جزء أصيل من حركة الحياة على الأرض إذ تعتبر بحق رباط الاتصال وجسر اللقاء بين الأمم والشعوب وعامل التلاقح والتلاحم بين الحضارات إذ تعزز أواصر القرابة وتثمن وشائج الرحم مجسدة المفاهيم التي أغرت البشر بالألفة والاتحاد، مفجرة في الإنسان استشعار المصالح المشتركة التي وثقت عرى وحدته على الأرض([14]).
ومن هنا يحسن القول هنا إن الرحلات كانت عند الشناقطة مشغلاً رئيساً وحاجة ملحاحاً استدعتها حياة البدو وزادت من رواجها قساوة الطبيعة وقوة التمسك بالدين. لذلك ضرب القوم في الأرض يبتغون من فضل الله آمِّين البيت الحرام ملتمسين الأسانيد العالية والإجازات، فرجعوا إلى قومهم بموفور المال ونفيس الكتاب. وذلك، بعد أن تركوا هنالك بالمشرق بصمات من ثقافتهم بارزة. ولعل هذا ما قد يسمح بالقول إن الثقافة الشنقيطية تكاد تنفرد من بين مثيلاتها في العالم العربي بالظعن والمسير، إذ أنتج أبناؤها معارفهم وهم يضربون في الأرض متخذين العيس مدرسة. فإذا كانت الثقافة وليدة التمدن والإقامة وربيبة التحضر والاستقرار، فإن قومنا استطاعوا أن يظهروا هذا التقليد ويعكسوا الآية؛ فجاءوا من الأمر جديداً، بحيث سطروا ثقافة متميزة رعتها السفرية والارتحال وأظلتها الحركية والانتقال. وذلك ما أوضحه المختار بن بون الجكني (ت. 1220 هـ) بقوله([15]): [البسيط]:
ونحن ركب من الأشراف منتظم
أجل ذا العصر قدراً دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة
بها نبين شرع الله تبيانا
ولنبدأ الآن في تناول المحاور الثلاثة التي أشرنا إليها من قبل، ونبدأها بمحور الشوق والحنين.
أولاً: الحنين والشوق إلى الأماكن المقدسة
نود لو نشير هنا إلى أن السمة الغالبة على الشناقطة هي الحرص على أداء فريضة الحج والعمل على تأدية مناسكه. غير أنهم انقسموا طائفتين: طائفة آنست من نفسها قدرة على الحج، فارتحلت إلى أرض الحرم وأدت المناسك حقها، وطائفة لم تستطع إلى ذلك سبيلاً، فاستبدلته بالشوق والحنين واستعاضت منه بالتعلق الروحي. لذلك نصادف لدى أصحابها شوقاً إلى أرض الحجاز شديداً واحتفاء بالقادمين من الحرم كثيراً، كالشيخ سيد محمد بن الشيخ سيديا (ت. 1286 هـ) الذي خصص مقطعاً مطولاً من نونيته ليكشف عبره عن تعلقه الشديد بالحرمين متتبعاً أماكن الحج ومزاراته آملاً أن تبلغه العيس إلى البيت الحرام ليأمن من الخوف والجوع ويلتمس من الحاج ما يريد. يقول([16]):
سوى أني استباح حريم صبري
هوى الحرمين أشرف موطنين
وسوف تفي العزائم والمهاري
بوعد منجز من وافيين
فقد منينني قبل المنايا
مرور ركائبي بالدهنوين
ينازعن الأعنة سالكات
ممر الجيش بين العدوتين
تبادر بالحجيج ورود بدر
ويحدوه الحنين إلى حُنَيْن
على باب السلام مسلمات
لفرط الشوق كل طوى وغين
تناخ لحاجتي دنيا وأخرى
هناك فتنثني بالحاجتين
ببيت الله ملمس كل حاج
تعالى الله عن كيف وأين
أما محمدو ولد محمدى العلوي (ت. 1272 هـ)، فنراه يرحب بأحد أفاضل قومه إبان قدومه من الحج ذاكراً ما اعترض سبيل هذا الرجل واصفاً شوقه الشديد مثنياً على الله الذي نجى أخاه من شر البحر وعناء المسير. يقول([17]):
وافى الهمام فتاه الدهر وابتهجا
وانزاح برح هموم النفس وانفرجا
وافى فزاد به الرحمن شانئنا
كرباً وكان لنا من كربنا فرجا
قد وجه العيس نحو البيت تمرح في
فيح الفلا والخلايا تعبر اللججا
تقتاده همة قصوى ويجذبه
شوق حوى الصد منه لوعة وشجا
والحمد لله ربي إذ أتاح له
من ورطة البحر والداء العضال نجا
وأكثر من ذلك نجده يحن إلى شبه الجزيرة العربية، حيث تحركت خواطره رغبة في الوصول إلى البقاع الطاهرة وتفكيراً في أمر الآخرة. فاشرأبت نفسه إلى حج بيت الله الحرام وزيارة نبيه r. وعندئذ دعا صديقاً له من أهل قرابته ليعينه على أمر السفر والرحيل، فآزره على ذلك واتفقا على أمر الخروج. وكان لهما ابن عم آخر حاول أن يصرفهما عن هذه الرحلة إشفاقاً عليهما ورأفة ورحمة، فنظم شاعرنا في ذلك أبياتاً ليرد على هذا المشفق الراحم فيحذره من التدخل في ما ليس من شأنه ويرشده إلى أن يخلي سبيله، لينطلق في رحلته متكلاً على الله، معرضاً عما سواه، مؤكداً في الوقت نفسه قوة عزمه. فهو، بالرغم من كل الصعاب، ماض في حجه غير عادل عن قراره، ولن يقبل لمحكم العُقَدِ من عزمه أن ينحل. يقول ([18]):
يا مشفقاً من رحيلي لج في كمدي
هل أنت من دون ربي آخذ بيدي
أمسى يفندني فيما أرى وأرى
مفندي فيه منسوباً إلى الفندي
دعني وعزمي والبيدا وراحلتي
وما جرى من بنات الفكر في خلدي
الله حسبي لا ألوي على أحد
كلاَّ ومثلي لا يلوي على أحد
وعقدة العزم مني لا يحل بها
حل إذا حل عزم محكم العقد
ولما اقتربت ساعة الانطلاق إلى الحج، نظم قافيته المشهورة التي استفتحها بالدعوة إلى الصبر على الخطوب والتجلد أمام لحظات الفراق التي تذيب القلب وتسيل الدموع، مؤكداً ضرورة تنكيب صراط أخي الهوينا الذي يصد عن سبيل الحج ويثبط العزائم، مسترسلاً في وصف المطي التي يختار للركوب في رحلته مفضلاً أن تكون من عتاق النوق »الكوم« أو أحد الجمال »العتاق«، ليستطرد إلى تبيان شكل هذه المطية وقوتها مبدياً رغبته في أن تكون سريعة تسابق الحمر الوحشية وتباري الريح جافلة لتختزل المسافات طاوية بسيط الصحراء طي البطاق. يقول([19]):
تجلد جهد نفسك للفراق
وكفكف غرب سافحة المآق
وجرد من عزيمك ما يوازي
مترات المهندة الرقاق
ونكب عن مقال أخي الهوينا
وعنها فهي خاسرة الصفاق
إلى البيت العتيق بنص إحدى
عتاق الكوم أو أحد العتاق
بنص شملة تعدو بعالي
قراها عدو منفرد لهاق
تباري الريح جافلة وتطوي
عريضات الفلا طي البطاق
وبعد هذه المقدمة يصعد نداء أخوياً، آملاً من خالقه أن يمن عليه بملاقاة أحبابه بعد الفراق، مؤكداً أنه ولى وجهه شطر المسجد الحرام وأحال صفحة خده إلى أرض الحجاز، عسى أن يخفف ما بنفسه من الغرام إذ هو مسكون بهاجس محبة الأماكن المقدسة. فظمؤه إلى ماء »زمزم« وصفاء نفسه مرتبط بالوقوف على »الصفا«. ومنتهى أمله أن يقيم بالمحصب من »منى«، ثم يأخذ في توجيه ركب الحجيج الذي معه ليقنعه بضرورة الاعتصام بحبل الله والصبر على الأرق ومجافاة الجنوب عن المضاجع وخوض الهواجر أثناء هذه الرحلة البرية الشاقة. يقول ([20]):
أأحبابي أعاد الله مني
ومنكم بعد فرقتنا التلاقي
إلى أرض الحجاز أحلت عنكم
صفيحة وجه خدي واشتياقي
سلوت أحبتي واشتاق قلبي
بتلك الأرض لا نُجل الحداق
بزمزم غلتي تغلي فمن لي
بكأس من مدامتها دهاق
صفا النفس الصفا ومنى مناها
وبالجمرات قلبي ذو احتراق
ألا يا ركب حقق ما رجوتـم
على حسن التلاطف الوفاق
ثقوا بالله واعتصموا وسيروا
خفافاً فالمهيمن خير واق
وخوضوا في الهواجر كل آل
طمى والشمس لافظة البصاق
وبعد أن تعرض لرحلته البرية بالتفصيل، تناول الجانب البحري منها آخذاً في وصف البحر وهوله غير ناس تلك الجواري المنشآت التي تخترق الأمواج وتغالب هيجان الماء، غير معولة على سقي ولا طعام، وهي مع ذلك تبلغ راكبها الحرم حيث يُتَجَاوَزُ عن السيئات ويغدو أسيرُ الذنب مفكوكَ الوثاق. يقول([21]):
وإن عرض العباب فمنشآت
مواخر لا تزال على اختراق
هوابط من جبال الموج طوراً
وطوراً في بواذخه بواق
نجائب لا تعرس في مبيت
ولا ترعى ولست لها بساق
إلى حيث النجاح وحيث يغدو
أسير الذنب مفكوك الوثاق
ويختم الشاعر نصه مبدياً رغبته في أن يمن الله عليه بإكمال الحج، فيتتبع المناسك، مطوفاً بالبيت الحرام سبعاً وساعياً مسرعاً في جميع المواقف، مستبقاً الحجيج، واقفاً بالمشعر الحرام، رامياً الجمرات، ذاكراً الله في الأيام المعدودات، غير متعجل لينطلق إلى طيبة حيث تطيب النفس وتكتمل الزيارة بموافاة الرسول r، عنوان الفوز والفلاح. فطيبة تزهو على بقاع الأرض وتفوق المدن والقرى لتتيه على شام المواطن والعراق وتختم الأبيات بصلاة نبوية بديعة تعتمد حسن الخاتمة وأسلوب الاستمرار والدوام، حيث تلازم تلبية الحاج ولقاء الأحبة عقب الفراق. يقول([22]):
وحيث نطوف سبعاً ثم نسعى
ونسرع للمواقف في استباق
ونشعر بعد وقفتنا ونرمي
ونأوي للمحلق والحلاق
ونرجع للطواف وقد أرقنا
دماء المشعرات من النياق
ونمضي يومنا بمنى فنقضي
بلا عجل ليالينا البواقي
فإن طبنا بطيتناي نفوساً
تنادينا لطيبة بانطلاق
هي الدار التي شرفت وتاهت
على شام المواطن والعراق
على من صاغ منصبه حلاها
وساق لها العلا كل المساق
صلاة الله ما لبى حجيج
وما حم اللقا عقب الفراق
ونستمع إلى الشيخ سيدي باب (ت. 1342 هـ)، وهو يحتفي بقدوم معاصره البشير بن امباركي ويهنئه على أثر عودته من الحج مهدياً إليه سلاماً طيباً مؤكداً أنه أكمل حجه إذ طاف بالبيت الحرام مستفيداً من المعارف والعلوم. يقول([23]):
سلام كمنثور الَّلآلئ طيب
وكالدر زان الغانيات منظما
يؤم فتى يمضي العزائم في العلى
إذا لم يكن فيها الكسول ليعزما
أتى طيبا طابت بسكناه طيبة
وطاف بها البيت العتيق المكرما
وعانق أبكار العلوم وعونها
فتم بحمد الله ما كان يمما
ويتواصل الحنين الشنقيطي إلى شبه الجزيرة متنامياً مع أحمد بن محمد سالم المجلسي (ت. 1307 هـ) الذي نظم قصيدة في الشوق والحنين إلى الأماكن المقدسة منطلقاً فيها من البكاء على مغاني النبوة والوحي ومعاهد الغزو والجهاد معبراً عن تعلقه الشديد برسول هذه الأمة حيث يجد اللذة في وصف شمائله، بل وفي الاستماع إليها. يقول([24]): [في الوافر]:
أتذري عينه فضض الجمان
غراماً من تذكره المغاني
مغان بالعقيق إلى المنقى
إلى أحد تذكرها شجاني
ومن تذكار منزله بسلع
إلى الجما تعاني ما تعاني
فهل عزم يصول على التواني
وهل بعد التباعد من تداني
وهل أغدو بكور الطير رحلي
على وجناء دوسرة هجان
تبذ العيس لاحقة كلاها
وتطوى البيد مسنفة اللبان
حداها شوق دار الفتح مثوى
إمام الرسل مأمن كل جان
بعيشك صف شمائله فإني
أحن إلى شمائله الحسان
ويمتد تعلق الشناقطة بالجزيرة العربية مع البشير بن امباركي([25]) (ت. 1354 هـ) الذي نظم في الشوق والحنين إلى الديار المقدسة نموذجاً شعرياً اعتمد معارضة القديم محتفظاً بالبنيات والقوالب مجدداً في الدلالات والمعاني. فهو بذلك يبقى على الأسلوب الجاهلي، ولكنه يشحنه بمضمون إسلامي رفيع. فنراه مثلاً يحاور قصيدة النابغة الذبياني »يا دار مية«، مضمناً بعض أشطارها محولاً غرض مقدمتها من الأسلوب الغزلي إلى غرض الشوق، معرباً عن حنينه إلى ربوع مكة وأكناف طيبة، آمراً قومه بشد الرحال إلى الحرم. يقول: [البسيط]
أشتاق مكة بين العيل والسعد
»لا دارمية بالعلياء فالسند«
وجدي حنين إلى دور بطيبة قد
»أقوت طال عليها سالف الأبد«
يا صاح فاغد إلى تلك الربوع ورح
»وانم القتود على عيرانة أجد«
وانهض بعزمك في نهج الرسول وسر
»نحو الجليل على مستأنس وحد«
واخلص لمولاك لا تشرك به أحداً
فإن مولاك لم يولد ولم يلد
ونعرج يسيراً على الشاعر أبي مدين (ت. 1362 هـ) الذي ركز في إحدى قصائده النبوية على المحبة، ذاكراً تأثيرها على نفسه. إذ تملكه الشوق إلى درجة النشوة والسكر واصفاً كل أرض لا تحتضن ممدوحه r بسوء المناخ وضبابية الأجواء. يقول r ([26]):
حل في القلب حب طه فتاها
إنما الفخر كله حب طه
إن من ذاق حبه لم تصده
ذات حسن بحليها وحلاها
إن أرضاً لم تحو طه لأرض
سئم القلب بردها ونداها
ثانياً: الرحلات الشنقيطية نحو الحجاز
ننبه إلى أن الرحلات الشنقيطية نحو الحجاز قد مرت عبر ثلاث طرق واتجاهات، أولها يجتاز البلاد المغاربية راكباً البحر غالباً إلى الجزيرة العربية؛ وأما ثانيها، فإنه ينطلق من الربوع الشنقيطية متجهاً نحو المشرق ماراً ببلدان إفريقيا السوداء مثل جمهورية اتشاد والنيجر ونجيريا وغيرها لينتهي إلى السودان حيث يتم ركوب البواخر إلى شواطئ الجزيرة العربية؛ أما ثالثها، فإنه يتوجه إلى الجنوب مارّاً بالبلاد السينغالية ليتم السفر عبر الجو أو يقع ركوب البحر حتى يصل المسافر إلى أرض الحجاز وهكذا.
أ ـ الرحلات عبر الطريق المغاربي
هناك رحلات غير يسيرة اتجهت نحو المشرق مارة عبر طريق المغرب. وهي في جملتها ضربان: أولهما ذو تأثير محدود، لعدم تدوينه؛ وثانيهما أكثر سعة وشمولاً، لامتيازه بالتوثيق والتدوين. وسنتناولهما معاً بادئين بأولهما الذي سنفصل فيه القول عبر السطور اللاحقة. ولا شك في أن هذا النموذج يبدو مغموراً: فأصحابه أهملوا تدوين أحداث رحلاتهم مكتفين بتأثيراتها التي تلوح عبر تلك الوقفات المعرفية والمحاورات العلمية المعتادة بالحواضر الإسلامية. ومن أوائل هذه الرحلات رحلة محمد كمال الدين لمجيديري (ت. 1204 هـ) الذي لم يكن بدعاً بين أترابه من الشناقطة: فقد كان عنواناً للضبط ومثالاً للجمع والتحقيق، عاملاً في ذلك كله على أخذ السند العالي ملتمساً من الشيوخ الإجازات، مطالعاً المكتبات التي تملأ طريقه إلى الحج وهكذا. فقد ترك الأهل مولياً وجهه شطر المسجد الحرام. غير أن رحلته نادرة الذكر، فلا تسعفنا المصادر بشيء من تفصيلاتها؛ فلا نعلم منطلقها بالتحديد، وإن كان بعض الباحثين يذهب إلى أنها بدأت في وقت مبكر من حياة صاحبها([27]). وقد انطلقت هذه الرحلة من الصعيد الشنقيطي ليمر صاحبها بالحواضر الإسلامية متوقفاً في المغرب ومصر والحجاز. غير أن ندرة المصادر تقف حائلاً دون تعرُّف كثير من حلقاتها. ومع ذلك، يمكن القول إنها آتت أكلها ثمراً طيباً؛ إذ التقى هذا اليعقوبي أثناءها ببعض رجالات العلم والمعرفة محاوراً حيناً ومخالطاً أحياناً إلى درجة الزمالة، حيث أصبح صديقاً للمرتضى الزبيدي. ثم نصل إلى سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي (ت. 1233 هـ) الذي قام برحلة حجازية لم يدون أحداثها ولكن تأثيراتها بقيت لشيوعها وسيرورتها بين الناس. لقد سعى هذا العلوي جهده إلى اقتناء الكتاب والتقاء العلماء محرراً المسائل متوقفاً بأهم الحواضر الحجازية والمصرية والمغربية. ويأتي بعده الشيخ محمد الحافظ (ت. 1247 هـ) الذي قام هو أيضاً برحلة حجازية قادته إلى الحرمين الشريفين، حيث أدى فريضة الحج وأخذ الأسانيد والإجازات مقيماً بالمدينة المنورة فترة لقي فيها صالح الفلاني الذي أجازه في رواية الحديث فأخذ عنه “الصحيحين” و”السنن الأربعة” و”موطأ” مالك و”شفاء” القاضي عياض. وبذلك ساهم في إدخال علوم الحديث إلى بلاده رواية ودراية؛ فقد ظلت إجازته المذكورة متداولة في منطقته، بل بقي شيوخ العلم يجيزون بها طلبتهم إلى عهد قريب([28]).
أما التجاني بن بابه العلوي، فإنه انطلق في ريعان شبابه نحو المشرق في رحلة حجازية مجتازاً فيح المهامه ومضلات الصحارى سالكاً السبل البرية إلى أن بلغ الحرم وأدى المناسك حقها ليتجه إلى المدينة حيث أقام سنة تزوج خلالها من إحدى بنات أهل المدينة. وأكثر من ذلك التقى بالأديب عبد الجليل برادة الذي يبدو أنه كان على صلة وثيقة به. ونعرج يسيراً على رحلة محمد ولد محمدي المتقدم الذي أدى المناسك حقها وتوفي بأرض الحجاز؛ وقد كان على صلة وثيقة بإبراهيم صاحب ينبوع المشهور يومئذ. وقد خاطبه ببيتين يقول فيهما([29]):
يا قاصداً بطحاء مكة يرتجى
نيل الطواف ببيتها المرفوع
لا تخش من ينبوع حاجك غورة
ما دام إبراهيم في الينبوع
أما الشيخ ماء العينين (ت. 1328 هـ)، فلا نعلم الكثير عن تفاصيل رحلته إلى الحجاز. غير أن بعض الباحثين أشار إلى أنه ركب البحر من طنجة متوجهاً إلى مكة. وهنا تسكت المصادر المتوافرة، فلا تذكر شيئاً عن مدة الرحلة ولا طبيعتها مكتفية بالقول إن وصول هذا الشيخ إلى أرض الحرم كان في أواخر ذي القعدة من سنة 1274 هـ. وبعد أن أكمل مناسك الحج، توجه إلى المدينة في فاتح السنة التالية ليشفع حجه بالزيارة([30]).
ونعرض لرحلة سيد أحمد بن الأمين الشنقيطي (ت. 1331 هـ) الذي خرج لأداء فريضة الحج، فأكمل المناسك سنة 1317 هـ. وقد التقى هنالك ببعض علماء الحجاز، فأخذ عنهم واستفاد منهم. فقد ذكر في كتابه “الوسيط في تراجم أدباء شنقيط” أنه اجتمع بعبد الجليل برادة معترفاً له بالعلم والفضل مؤكداً أنه أمده بمعلومات تتعلق بتحديد وفاة ابن عمه التجاني بن بابه؛ كما أطلعه على نماذج من منتوج هذا الشاعر المغمور. يقول أثناء ترجمته للتجاني المذكور: »وحدثني العلامة عبد الجليل برادة ـ رحمه الله ـ سنة 1317 هـ بالمدينة المنورة أن له ـ يعني التجاني ـ في ذلك العام 60 سنة، وهو متوفّىً. وأبرز لي ورقة صغيرة فيها مقطعة من نظم صاحب الترجمة« ([31]).
ونجتاز إلى محمد الأمين الشنقيطي الحسني (ت. 1351 هـ) الذي مال إلى الارتحال من صغره، فانطلق نحو المغرب ليقيم به فترة اتجه بعدها إلى المشرق، حيث أدى فريضة الحج وألقى عصا التسيار بمكة. وكان من ثمرة ارتحاله أن خلف مذكرات هامة مثلت الوثيقة التي عرفتنا به وقصت علينا من أنباء حياته وتغربه جمعاً للكتاب وطلباً للحديث. فانطلق نحو المشرق، مصطحباً رجلين من أهل جهته ميمماً أرض مصر حيث لبث في القاهرة أياماً لقي أثناءها محمد محمود بن التلاميد التركزي الذي احتفى به وأعانه على إكمال رحلة حجه، فأوصله إلى الإمام محمد عبده ليأخذ له رسالة من الحكومة المصرية توجهها إلى والِيهَا على السويس مضمونها التقدير والتكريم وتحمل نفقات السفر. وقد تم ذلك بالفعل. فحمل الوالي الرجل إلى مكة، حيث أخذ في أداء مناسك الحج والعمرة ليتجه من بعد إلى المدينة فيجلس إلى أشياخها متردداً على حلقات الشيخ الوتري مُسْتفيداً من بعض المغاربة هنالك آخذاً عن عبد الجليل برادة الذي كان يعرض عليه بعض شعره. وفي هذه الأثناء، عاوده حنين إلى مرابع الأهل وملاعب الطفولة، فهمَّ بالرجوع إلى وطنه. غير أن شيخه أحمد سالم ولد الحسن الديماني مرض، فكان صاحبنا هو القائم على تمريضه، فعطله ذلك عن العودة. ولازم الديماني آخذاً عنه “أقرب المسالك” في الفقه ومنظومات البدوي وغيرها. وزيادة على ما ذكرنا، انضم هذا الحسني إلى تلامذة الشيخ أبي شعيب ليعمق معارفه في الحديث، مطالعاً أمهات كتبه فسمع في حلق هذا الشيخ “شمائل” الترمذي ثلاث مرات ودرس “صحيح” مسلم و”شفاء” القاضي عياض مطلعاً على النصف الأول من “سنن” أبي داوود والنسائي ومعظم “صحيح” البخاري و”موطأ” الإمام مالك. وبذلك أخذ الحديث بقوة، فأصبح محدثاً عالماً بالسنة مطلعاً على الصحاح والسنن. وهذا ما لم يتوافر له من قبل وهو بأرض قومه؛ إذ يشير إلى أن الاشتغال بهذا العلم نادر بأرضه قليل. يقول: »وأما علم الحديث، فإني لم أشتغل به في بلادي ولا دراية لي به ولم أر من يشتغل به عندنا اشتغالاً يذكر، وهو في الجملة من أضعف العلوم عندنا« ([32]). فكان البحث عن الحديث وروايته من الدواعي التي دعته إلى التغرب والارتحال مطلباً أسانيد هذا العلم، مباعداً الأقارب، مفارقاً الأحبة والصحب. يقول([33]):
فلا تنكروا تطلابي العلم نائياً
فما النأي في تطلابه بعجيب
ولا سيما علم الحديث فإنه
بهاتيكم الأقطار جد غريب
فذاك الذي في البحث عن أمهاته
بإسنادها باعدت كل قريب
وفارقت في تطلابه كل طالب
وفي حبه فارقت آل حبيب
وبعد أن لبث بأرض الحجارة فترة حج أثناءها واطلع على بعض العلوم، أخذ في السفر نحو الهند حيث اجتمع بعلمائها وحاورهم في بعض مسائل العلم ليتجه إلى عمان ومنها إلى البحرين التي رجع منها إلى الحجاز مجتازاً نحو الكويت. وهنا تسابق إليه الطلاب ساعين إلى الاقتباس من علومه. وقد وصل بهم الأمر إلى الجلوس تحت أشعة الشمس حرصاً على الاستماع. فمالت إليه القلوب واشرأبت نحوه الأعناق. وذلك ما منحه فرصة لمحاربة البدع ومواجهة المناكر مؤسساً جمعية »النجاة« التي تهدف إلى توعية المسلمين وتبصرهم بأمور دينهم. ولما تم تأسيس هذه الجمعية، أقيم حفل كبير لتكريم الرجل ألقيت أثناءه بعض القصائد التي تشيد بفضله وتذكر محمود خصاله. يقول عبد اللطيف بن إبراهيم آل نصيف([34]):
اليوم هللت الكويت وكبرت
لما أتاها العالم النحرير
واستبشرت فرحاً بنابغة الهدى
حتى حسبنا أنها ستمور
إيه بني قومي وسادة معشري
أوموا إليه كلكم وأشيروا
خلوا النواظر شاخصات نحوه
ودعوا القلوب تسير حيث يسير
أمعطر الإسلام من نفحاته
ومعيد روض الدين وهو نضير
بشرى لهذا الثغر لما زرته
فلكم تمنت أن تراك ثغور
ونتحدث الآن عن رحلة محمد حبيب الله بن مايابي الجكني (ت. 1364 هـ) الذي ارتحل صحبة أخويه محمد العاقب ومحمد الخضر، فخرج الثلاثة من البلاد مهاجرين أيام الاحتلال الفرنسي وتوجهوا إلى المغرب. فبقي هنالك محمد العاقب إلى أن توفي، وواصل محمد الخضر رحلته ليحج بيت الله. وفي طريق عودته، مر بالأردن حيث توطدت صلته بالسلطات ليعين وزيراً للعدل في أول حكومة أردنية([35]). أما محمد حبيب الله، فقد اتصل بالسلطان المغربي مولاي عبد الحفيظ الذي أعجب بمعارفه فاختصه لنفسه، عاملاً على استمالته واستبقائه ببلاطه. فلبث معه فترة توجت برحلة مشتركة إلى البقاع الطاهرة جمعت السلطان المغربي إلى العالم الشنقيطي. وقد بقي صاحبنا بالحرم المدني ينشر المعارف والعلوم، وكان على صلة بعلماء بلاده أيام إقامته هنالك: فقد تبادل التحايا مع الشيخ سيدي باب حيث نظم هذا الأخير قصيدة امتدح ضمنها سعي هذا الجكني منوهاً بارتحاله مقرظاً منظومته المسماة “دليل السالك إلى موطإ الإمام مالك”، مشيراً إلى أن الناظم نادرة الزمان وحافظة العلوم ونابغة العصر. يقول([36]):
حيَّ الإله حبيب الله من لزما
بيت الإله وحيَّ البيت والحرما
إن الزمان إذا يأبى وجود فتى
مثل ابن مايابى لم يعدد من اللؤما
ما زال يدأب في علم وفي عمل
يقفو بأعماله آثار من علما
حتى أباح حمى العلياء في زمن
قل المبيح من العلياء فيه حمى
يسمو إلى الحرمين الطاهرين فما
تثنى عزيمته العذال إذ عزما
وقد رد ابن مايابى على الشيخ سيديا بقصيدة مماثلة استفتحها بتحية عطرة ليخصص نظيره بالسلام، ويعتبره روضة الكرماء داعياً إلى سفح الدموع إحياء للعهود السابقة لينتهي إلى التنويه بهذا الشيخ مؤكداً أنه عنوان السيادة والفضل وترجمان المعارف والعلوم. يقول([37]):
حي البلاد وخصص روضة الكرما
واسفح دموعك من شوق العهود دما
وحي من ساكني أرجائها علماً
حاز السيادة عن أنظاره العلما
بالشيخ سيدي يدعى وهو من صغر
وصف السيادة ينمى فيه ما انفصما
حتى أباح حريم المجد واقتبست
منه المعارف وانقادت له العظما
كان ذلك عن الرحلات غير المدونة. أما الرحلات المدونة، فسنذكر منها على التوالي:
رحلة المصطفى الطالب أحمد بن اطوير الجنة (ت. 1265 هـ) الذي سطر رحلة حجازية نثرية تقع في ثمانين ومئة من الصفحات. وقد كشف المؤلف في متن رحلته عن غرضه من تسجيل أحداثها. يقول: »وكل ما ذكرنا في الرحلة المباركة فمقصودنا فيه أمور منها التحدث بنعم الله تعالى، ومنها إفادة من يحب الاستفادة بسبب ما ذكرنا فيها من أحكام العلماء وفوائدهم وأشعار الشعراء وحكم الحكماء وطب الأطباء«([38])، ليحدثنا عن ركوبه البحر إلى شبه الجزيرة العربية حيث ركبه من السويس بالبلاد المصرية إلى الينبوع. وفي الطريق حاور صاحبنا رجلاً من بخارى في بعض مسائل العلم. وقد غير صاحبنا طريقه وعدل من وجهته، فلم يبلغ إلى جدة وإنما اكتفى بالينبوع ليتوجه إلى المدينة، مقدماً زيارة الرسول r، مكترياً من بعض عرب الحجاز جمالاً. وقد لبث بالمدينة سبعة أيام ليولي وجهه شطر المسجد الحرام مطوفاً بالبيت العتيق ساعياً بين الصفا والمروة، متتبعاً مناسك الحج جميعاً، مشفعاً حجه بعمرة وهو في ذلك كله يعاني مرضاً شديداً حتى أيقن قومه بموته على ما ذكر. غير أن تلميذه المقرب محمد الصابر سارع إلى شراء ناقة لبون وتعهده بلبنها أياماً. فما لبث أن تحسنت صحته، فبادر إلى زيارة مقابر مكة. وفي هذا الصدد، تحدث عن الملل والنحل المنتشرة بساحتها يومئذ. وقد رجع إلى المدينة من جديد، فقضى بساحتها سبعة عشر يوماً ملتمساً بركة أهل البقيع، متردداً على القبور والمزارات، مثنياً على أهل المدينة الذين أكرموا مثواه حتى لقد أقسم قائلاً: »ولعمري ما رأيت أحسن سيرة وخلقاً وأمتع وأكثر معروفاً من أهل المدينة«([39]). ومن ثمة يشير إلى انتشار وباء كان اجتاح الحجاز يومئذ وأهلك رجالاً كثيراً ونساء، فربما يموت في اليوم الواحد أكثر من ألف([40]). وقد بدأت رحلة العودة لاثنتين وعشرين ليلة خلت من المحرم عام سبعة وأربعين بعد المئتين والألف وكانت في صحبة الركب المصري. وقد لبث الرجل بين مصر والحجاز أربعين يوماً، ثمانية منها في الحجر الصحي حذراً من العدوى وخوفاً من انتشار الوباء المذكور آنفاً.
أما محمد محمود بن التلاميد التركزي (ت. 1323 هـ)، فقد ألف رحلة سماها “الحماسة السنية الكاملة المزية في الرحلة العلمية الشنقيطية التركزية”. وهي مطبوعة تقع في أربع وتسعين ومائة من الصفحات ذات الحجم المتوسط موزعة على جزءين، يحتوي أولهما على مقدمة وخمسة قصائد من منتوج الرجل تعتمد الفخر والحث على طلب العلم ورثاء الأندلس والحنين إلى الوطن. أما الجزء الثاني، فيتضمن مناقشة جملة من المسائل العلمية وبعض القصائد التي تعرض للمناظرات المعرفية والألغاز اللغوية، وهي مؤلف موسوعي.
ونصل إلى محمد يحيى الولاتي (ت. 1330 هـ) الذي ألف رحلة حجازية، وهي عبارة عن كتاب له ألفه أثناء رحلته لأداء فريضة الحج. وهي محققة ومطبوعة. وقد ظهرت تحت عنوان “الرحلة الحجازية”. وقد مر الرجل خلالها بالبلاد المغاربية لينتهي إلى الحجاز مسجلاً وقفاته بعواصم الثقافة والعلم محاوراً العلماء. فقد ارتحل صاحبنا من الرباط، قاصداً بيت الله الحرام، راكباً البابور صحبة ولده. وبعد ساعات، أرسى بهما في طنجة ليأخذ مركباً آخر إلى الجزائر فتونس فبور سعيد فالسويس فجدة حيث أقام الرجل ستَّ ليال زار خلالها أمنا حواء منبهاً إلى طول ضريحها متخذاً لذلك مقياساً زمنياً عماده تلاوة القرآن. يقول: »وزرنا قبر أمنا حواء عليها السلام فاختبرت طوله فابتدأت سورة طه من رأسه وختمتها عندما بلغت منتهاه وأنا أمشي مشياً معتاداً وأقرأ قراءة متوسطة أو إلى السرعة أقرب«([41]).
ثم ارتحل من جدة محرماً بالعمرة، منطلقاً في مناسك حجه، وقد تتبعها تتبعاً دقيقاً جعل هذا الجزء من الرحلة أقرب ما يكون إلى مرشد للمعتمر ودليل للحاج. لقد أورد جميع الأدعية المأثورة موضحاً المواقف التي تقرأ بها مفصلاً القول في ذلك كله. ولما أدى المناسك حقها، رجع إلى جدة ليركب البابور إلى ينبوع متوجهاً إلى المدينة. وقد أقام صاحبنا بالمدينة أربعة أشهر في جناب الشيخ السعد المخرج بن محسن، وكان همه الناصب أن يمر بكل المزارات فبدأ يتوجه إلى المسجد النبوي مصلياً بروضة الجنة واقفاً أمام سيد الوجود محمد r ملتمساً زيارة خليفتيه ناظماً قصائد مدحية يتوسل ضمنها إلى الله راجياً الأمن والسلامة متردداً بين المآثر معرجاً على البقيع وأحُد مرتاداً القباب التي تحتضن بعض الصحابة والتابعين. وقد كان يتحرى في ذلك كثيراً ساعياً إلى أن يقف بالمكان الذي وقف به رسول الله r. يقول: »فنزلنا قرب الصخرات المعروفة أسفل جبل الرحمة وهي الصخرات التي وقف عليها رسول الله «r([42]). وزيادة على ذلك، تتبع الولاتي الأماكن المباركة ومساكن الخلفاء الأربعة، مصلياً بكل منها ركعتين دون أن ينسى المرور على الآبار المقدسة التي كان الرسول يسقى منها وهو مع كل ذلك عاكف على إقامة الصلاة. يقول: »والحاصل أنا مكثنا بالمدينة أربعة أشهر ونحن في تلك المدة كلها نصلي الصلوات في روضة الجنة«([43]). وقد قدم بعض الدروس بالمدينة حيث كان يواصل التدريس شارحاً علم الوصول موضحاً علوم البلاغة في غسق الليل.
ب ـ الرحلات عبر الطريق المالي
وأول هذه الرحلات هي رحلة سيدي ميلود فال اليعقوبي (ت. 1267 هـ) التي استغرقت أربع سنوات. وقد أشار الشاعر محمد ولد محمدي إلى جانب من رحلة هذا المتصوف مشيراً إلى أنه قد أقام بمكة وأدى المناسك حقها وزار النبي r. يقول([44]):
حتى أناخ ببطن مكة نوقه
لله همته وتلك الأينق
زار النبي وصحبه من بعد ما
قد طال منه إلى الجميل تشوق
أما محمد يحيى بن أبوه (ت. 1349 هـ)، فقد قام برحلة إلى البلاد الحجازية دونها تحت عنوان “رحلة محمد يحيى بن أبوه” وقد حققت في جزءين. وقد حدد الرجل في رحلته لحظة خروجه من بلاده، فكان ذلك في 2 صفر سنة 1347 هـ حيث ودَّع صاحبنا أباه وشيخه بموطنهما متجهاً إلى أدرار ليصل أطار بعد ثمانية أيام ويستقبل هنالك استقبالاً متميزاً ويتحف بالهدايا ويتسابق الناس إلى الاستفادة من علمه. يقول: »وقدمنا قرية أطار، فانتشر علينا من فضل الله ما لا يحصى قوتاً ولباساً وعلماً وإفادة واستفادة«([45])، ولذلك أصبح الرجل قبلة الطلاب، فاجتمع بساحته من أهل العلم كثير وطفق يدرسهم مختلف النصوص والمتون. وفي هذه الأثناء، عنَّ له أن يزور ضريح الشيخ الحضرمي فخرج إليه في جمع من تلامذته ملتمساً بركته بأبيات لم نعثر عليها. ولما رجع من هذه الزيارة، التقى أحد العائدين من الحج فحاوره في الرحلة واستخبره عن الطريق مستزيداً من حديثه مبدياً رغبته في اتباع سبيله حتى ليمكننا القول إن هذا الحوار الشيق كان له دور كبير في توجيه صاحبنا إلى الحرمين، إذ أيقظ في نفسه فكرة التحفز والانطلاق نحو الحج. يقول مسجلاً الظروف التي اكتنفت هذا اللقاء وأحاطت بالحوار:
ورجعنا إلى القرية. ثم لما كان الغد يوم السبت، اجتمعنا بمن هو قريب العهد بالبقاع الطاهرة وحدثنا أنه خرج من هذه الأرض إليها ولم يلق إلا خيراً. فغبطناه أي غبطة، واستخبرناه عنها وأنشدناه:
أيا زيد زدني من حديثك إنه
حديث عجيب كله وقريب([46])
فلا شك أن هذه الحادثة كان لها أعمق الأثر في نفس صاحبنا، حيث تبدلت عزيمته وعدل عن الرجوع إلى الأهل فأخذ ينتقى في الناس عسى أن يجد رفيقاً موافقاً يصحبه في رحلته المزمعة. فصادف ابن عمه محمد سالم بن أحمد محمود، فوافقه على الأمر وتذاكرا في شأنه وتعاهدا عليه سراً وأوصى كل صاحبه بالصبر والتجلد مستشهداً بقافية ابن محمدى في الشوق والحنين التي نظم لحظة خروجه استعداداً للحج والارتحال، ثم أخذا يجمعان أمرهما في شيء من التحفظ والسرية متعهدين أذهانهما بمحاورات حجية مثلت لهما غذاء روحياً وباعثاً يحمل على التصميم والمصابرة. وقد كانا مع ذلك يتباطآن رغبة في التخلص من ركبهما وحرصاً على الانفصال عنه. يقول: »وكنا نستريح بذكر ما نحن عازمون عليه سراً ونتحرى خروج من هنالك من أهلنا خيفة ما يكون من شياطين الإنس«([47]). ويمر الرجل عبر البلدان الأفريقية متوقفاً بمالي واتشاد لينتهي إلى الخرطوم حيث تبدأ رحلة بحرية إلى سواكن ليأخذ الركاب في بعض الإجراءات التي ألزمها المستعمر يومئذ كالتلقيحات ولوازم السفر واتخاذ الصور الشمسية. يقول: »فركبنا البابور من الخرطوم، وسار بنا قاصداً إلى سواكن ودخلناها يوم الجمعة واشتغلنا بوظائف عديدة ألزمها النصارى الحجاج من التصوير وشرطة الجدري وشرطة الطاعون«([48]).
وفي ميناء سواكن وعلى شواطئ البحر الأحمر ينتهي الجانب المدون من الرحلة ويتوقف القلم عن الكتابة. ولعل صاحبنا كان يرغب في إكمال رحلته، إلا أن انشغالاته بالسفر وركوب البحر الذي لم يألفه حال دون ذلك. والذي يجدر التنبيه إليه في هذا المقام هو أن الرجل بلغ بالتأكيد إلى مكة في أشهر الحج، وبالذات يوم الأربعاء 23 من ذي القعدة. وذلك ما كشفت عنه رسالة خطية بعث بها إلى أهله وهو لم يكمل بعد مناسك الحج إذ يقول ضمنها: »ونحن نرجو إتمام الحج والزيارة إن شاء الله«([49]). ومن الأسباب التي جعلته يتوقف أيضاً عن الكتابة هو معاجلة الوفاة، حيث توارى ذلك النور الذي انطلق من شواطئ المحيط الأطلسي مجتازاً القارة الأفريقية وما تحويه من مجاهل واختلاف ألسنة وألوان حتى ثوى بين أضرحة أهل الحجون من الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وقد استودع الرجل رحلته أبياتاً لأحد الشناقطة يتخذ من خلالها بعض مناسك الحج مناسبة للتغزل، وذلك حين يختلس صاحبها النظر إلى إحدى الغانيات لحظة رمي الجمرات مشيراً إلى أنها رمت قلبه قبل أن ترمي الجمرات. يقول([50]):
رب خود نظرت فيها اختلاساً
بعد رمي لجمرة العقبات
تيمتنى لما رأيت صفاها
وسط غيد حذائها محرمات
فرمتني بمقلتيها وظنت
أن قلبيَ رابع الجمرات
ونصل إلى محمد الأمين الجكني الشنقيطي (ت. 1393 هـ) الذي ارتحل إلى بلاد الحجاز وألف كتاباً سماه “رحلة الحج إلى بيت الله الحرام”. وقد جلس بالمملكة العربية السعودية، حيث تنوع عطاؤه المعرفي فشمل التأليف والتدريس والمحاضرة. فانتدب لتدريس التفسير والأصول في معهد الرياض وكليتي اللغة والشريعة. وكانت مدة انتدابه عشر سنوات، ساهم أثناءها في تكوين عدد من علماء نجد. وإضافة إلى ذلك، كانت له دروس خصوصية في بيته يعم نفعها وتنتشر فائدتها حتى ذهب أحدهم إلى أنها »أشبه ما تكون بحديقة غناء احتوت أشهى الثمار وأجمل الأزهار«([51]). وبذلك نال الحظوة والتقدير عند أهل السطان، فمنحه الملك عبد العزيز أمراً بالجنسية لجميع من يتمنى إليه ثقة به وإكراماً له. ولما زار محمد الخامس ملك المغرب الرياض، استأذن في استصحاب هذا الجكني إلى المدينة فرافق السلطان وألقى بالمسجد النبوي محاضرته المشهورة »اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً« أمام جمع من العلماء كبير بحضرة الملك وغيره. وإلى جانب ذلك، كان له دور فاعل في تدعيم الجامعة الإسلامية حيث ساهم في وضع مناهجها وشارك في إنتاجها العلمي ساعياً في الوقت نفسه إلى تأسيس رابطة العالم الإسلامي بالتعاون مع قوم آخرين. وقد رثاه أحد تلاميذته هنالك بأبيات أكد ضمنها أنه أنموذج العلم. يقول([52]):
بكت المثانى ترجمان بيانها
حميمها تبكي عليه وصاد
هذا البيان وهذه أضواؤه
عزت لغير الشيخ الانقياد
قل للذي يرتضاها لا تحسبن
أن البيان صحيفة ومداد
عجبوا ولا عجب فتلك حقيقة
إن البيان بصيرة وفؤاد
إن المعاني بعد ما ألفتها
وتألفت ليصيدها المصطاد
تخشى بفقدك أن تعود شوارداً
بددا فما يدرون كيف تصاد
وكانت رحلة الرجل أشبه ما تكون بالموسوعة العلمية، إذ استودع الشيخ خلالها علوماً كثيراً وفقهاً. فهي تجمع اللغة إلى الأدب والتصوف إلى الفقه والتفسير إلى الأصول والحديث إلى علوم القرآن، معولة في كل ذلك على التراث الأدبي مستحضرة جملة من النصوص الجاهلية والإسلامية مدونة بعض النوادر الأدبية والطرف العجيبة ملقية الضوء على طبيعة الارتحال يومئذ وما يلقى المسافر من مضايقة ومعاناة دون أن تنسى التنبيه إلى دور الحواضر الإسلامية في نشر المعارف وبث العلوم([53]).
ج ـ الرحلات عبر الطريق السينغالي
كانت الرحلات عبر هذا الطريق قليلة، ولم يبدأ الشناقطة المرور مع هذا السبيل إلا في وقت متأخر نسبياً حيث سافر عبره محمد فال بن باب العلوي (ت. 1349 هـ) مسطراً رحلة سماها رحلة الحج. وقد حققت بالمدرسة العليا للأساتذة وأخرجت إخراجاً مطبعياً بعضه غير مقروء([54]). وقد ورد هذا التحقيق في ستين من الصفحات، واستفتح بمقدمة استهدفت التعريف بصاحب النص وسعت إلى استنطاق بعض جوانب الرحلة. وقد تم ذلك كله في اثنتي عشرة صفحة ليغطي متن الرحلة أربعاً وعشرين من الصفحات ويكتمل التحقيق باستنتاجات هامة تعرض لوسائل النقل والاتصالات البرية وعلاقة الرجل بالحواضر الإسلامية([55]). ولم يحدد لنا المؤلف دوافع الرحلة ولم يسطر أمام أعيننا أسبابها. غير أن هذا الضرب من الارتحال في مجتمع الرجل متداول مألوف، إذ كثيراً ما ينطلق العالم الشنقيطي في رحلة حجازية حنيناً إلى أرض الحرم وشوقاً إلى رياض محمد r. وزيادة على هذا البعد الروحي، يمكن للرحلة أن تحقق مطامح علمية ثقافية وربما صحية سياحية. والطريف لدى صاحبنا أنه لم يهمل تقيد الملاحظات، ولم يغفل تسجيل الانطباعات على طول الرحلة، مدوناً كل ما وقع عليه البصر، معتذراً عن عدم تسطير أحداث جزء من طريق العودة، مكتفياً بتحرير رسالة بعثها من فاس إلى شيخه أحمد بن بدي الذي كان ينوي الخروج إلى الحج، مبيناً له الطريق إلى الحجاز وما يكتنفها من المتاعب والمخاطر، منبهاً إلى ما يلزم المنطلق إلى الحج. يقول: »إن المحققين ذكروا جملة من الآداب تتأكد معرفتها ويتعين العمل عليها في حق مريد الحج فيجب إخلاص القصد ويتعين دعاء الاستخارة ومشاورة أهل العلم والفضل واسترضاء الخصماء وطلب العفو والنظر في الزاد بأن يكون من وجه طيب والتماس دعاء الإخوان«([56]).
وقد أوضح المؤلف انطلاقته محدداً لحظة الخروج باليوم والشهر والسنة، مشيراً إلى أنها كانت من مدينة أندر السنغالية. يقول: »وركبنا من مدينة أندر ـ أعادها الله للإسلام ـ في اليوم السابع من شوال عام 1306 هـ«([57]).
كان ذلك عبر قطار بري أوصله إلى دكار، حيث كان على موعد مع رجلين من أهل المغرب. فاستقبلوه أحسن استقبال وأعانوه في استخلاص الأمتعة من النصارى. وبعد ذلك، أخذ في الاستعداد لركوب البابور واصفاً مقاعده مبدياً أول الأمر إعجابه بما في داخله من الفراش والوسائد، لكنه سرعان ما أعرض وضاق به ذرعاً منشداً فيه شعراً قديماً يحمل معاني السخرية والهجاء، إذ استحضر قول الشاعر([58]):
فظاهر مي مسحة من ملاحة
وتحت الثياب العار لو كان بادياً
وما أن انطلق البابور مضطرباً في سيره حتى أصيب صاحبنا بدوار شديد قاومه كثيراً محاولاً أن يشغل نفسه متغافلاً عما أصابه، ساعياً إلى أن يقوم لله قانتاً. يقول: »فتناومنا ولهينا. فلما كان وقت الصباح، قمت متجلداً فتوضأت وصليت قائماً. والحمد لله«([59]).
وقد امتد هذا الدوار المذكور إلى أصحابه. وسرعان ما انقلب إلى حمى شديدة لامستهم جميعاً وأزالت شهيتهم إلى الطعام. يقول: »وكنا في هذه المدة لا نستطيع إساغة الطعام كأنا ليس لأحد منا معدة«([60]).
وبعد محاولات للشفاء عديدة، وفقوا إلى الصعود على سطح السفينة حيث استراحوا قليلاً. ولكن الذي أزعجهم كثيراً هو مزاحمة النصارى. فالسطح مملوء بالنصارى رجالاً ونساء وعجائز. وقد دامت الرحلة بين دكار ومدينة تناريف بجزر كناري خمسة أيام. ويتواصل المسير إلى مدينة مرسيليا بشرق فرنسا، وذلك مروراً بطنجة وجبل طارق. والجدير بالذكر أن أصحابنا لم يبلغوا إلى هذه المدينة الفرنسية إلا بعد عشرة أيام من مغادرة دكار. وفي هذه المدينة المذكورة سيركبون بابوراً جديداً نحو الإسكندرية، إلا أنهم لقوا به من المضايقات ما لقوا بسابقه. فلما أرادوا أن يصعدوا إلى سطحه، سابقهم بعض نصارى الشام، مما حمل المؤلف على أن يستحضر من ذاكرته قول الشاعر([61]):
ولن تصادف مرعى ممرعاً أبداً
إلا وجدت به آثار منتجع
وقد استغرقت رحلة البحر من مرسيليه إلى الأسكندرية خمس ليال استقبل الركب الشنقيطي بعدها استقبالاً حاراً. غير أنهم في محطة الدخول لاقوا كثيراً من التفتيش والضرائب الجمركية. يقول: »فأخذوا شيئاً من العلك عندنا، وقالوا إنهم يعطون عشره وأخذ واحد يفتش حتى ما عندي من الورق«([62]). لكن أصحابنا نسوا بعض هذه المضايقات في خضم إحسان »عبد الفتاح المصري« الذي أكرم مثواهم وساعدهم في إكمال إجراءات السفر؛ كما توسط لهم عند رجل أعمال مصري ليحملهم على متن بابوره إلى جدة. يقول: »فكلمه في الركوب في بابور يحمل الحجاج من السويس إلى جدة، فكتب له الركوب«([63]). فانطلق الركب الشنقيطي عبر هذا البابور مقيماً بكل قرية هنيهة، حيث يخرج منه ناس ويدخل آخرون. وعلى طول الشريط الممتد بين الإسكندرية والسويس سجل ملاحظاته عن طبيعة الأرض ونباتها وأشجارها. يقول: »وسار بنا في أرض شبيهة بشمام فيها آمور وأطكك«([64]). ولما بلغوا إلى السويس، نزلوا مع رجل الأعمال المذكور فأكرمهم وأنزلهم زاوية قريبة من داره. وفي هذه المدينة لبث القوم ثلاث ليال ينتظرون الركوب وينظرون الكتب. وعلى أثر هذا الانتظار، تم ركوب البابور ليرسو بالينبع قليلاً متوجهاً إلى جدة حيث يتم الحجر الصحي (الكرتينية)([65]) لمدة ساعات لينطلق الركب داخل المدينة متسائلاً عن أحمد المشاط الذي يحملون إليه رسالة باعتباره محط رحال القادمين. غير أنهم وجدوه قد توفي. فأخذوا يسألون عن أبنائه، فهدوا إلى دارهم والتقوا بأبرزهم وهو طاهر الذي امتدحه صاحبنا ببيتين أوضح خلالهما أنه الخليفة الشرعي للوالد؛ فمن لم يصادف الوالد، استعاض عنه بالولد؛ كما أن الصعيد الطاهر ينوب عن الوضوء عند عدم الماء. يقول([66]):
لئن كان موت الشيخ أحمد ذي النَّدى
وهو صعيد للميمّم طاهر
فلا يخشين وراد حوض نواله
مغيض أتي فيه ما دام طاهر
ومن الينبع تبدأ رحلة برية على الجمال إلى مكة، حيث يأخذ الرجل في أداء مناسك الحج مومناً إلى مراحلها دون إسهاب. وقد لاقى في أيام الحج جمعاً من أولاد أبي السباع أعانوه واستأنس بهم كثيراً. ولما أكمل صاحبنا الحج، بدأ العمرة منطلقاً على أثرها في رحلة برية نحو المدينة تمتاز بشيء من الصعوبة غير قليل: إذ لابد من التيقظ والحذر، خوفاً من مخادعة الجمالين الذين يهربون بالجمال ليلاً. وربما أخذ بعضهم الأجرة قبل العمل لينطلق هارباً. يقول: »ونحن اكترينا أولاً من رجل. ولما خرجنا من مكة وبتنا، وجدناه لا جمال عنده. فأتاه بعض أصحابنا فاسترد منه الدراهم وأظن بعضها في ذمته إلى الآن«([67]). وقد تواصلت هذه الرحلة لتنتهي بدخول المدينة في غرة المحرم من سنة 1307 هـ حيث تبدأ زيارة رسول r الله والتجول بين تلك المزارات المباركة. وقد كان مقام الرجل بالمدينة إحدى عشرة ليلة وظفت في العبادة ومحاورة العلماء. كما سافر عبر هذا الطريق كل من عبد الودود بن سيد عبد الله الإبيري (ت. 1356 هـ)، وأحمد بن بياه التندغي (ت. 1390 هـ) اللذين نظما رحلاتهما في رجز راقص يعرض لمراحل الطريق ومصاعبها. وقد حجا وزارا المدينة المنورة والتقيا ببعض العلماء، غير أنهما لم يدونا شيئاً من ذلك في منظومتيهما([68]).
ثالثاً: الوصل الثقافي بين البلدين
نشير إلى أن صلات الشناقطة بشبه الجزيرة العربية كانت من العمق والتأثير بدرجة كبيرة. فقد انتظمت للقوم هنالك أدوار بارزة بجوامع المدينة ومعاهدها تعززت مع ظهور الجامعة الإسلامية التي تأسست 1381 هـ/ 1961 م والتي أصبحت قبلة الطلبة والدارسين الشناقطة. فلابد من التنبه هنا إلى المرتحل الشنقيطي. قبل إنشاء هذه المؤسسة الجامعية، كان يبث المعارف ويتقبلها بتلك الربوع الحجازية إما بالمسجد الحرام، وإما بأكناف طيبة. وهذا النشر، وإن لم يكن تحت ظل الجامعة الإسلامية، فإنه كان إرهاصاً لها وتحسيساً بها. ومن هنا نخلص إلى القول إن ارتباط الشناقطة بالمدينة المنورة قديم. فالطالب المختار ولد الأعمش العلوي (ت. 1107 هـ) قد زار المدينة وحاور علماءها حيث أجازه عالمها أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن الشهابي الكردي في رواية “موطإ” مالك و”صحيحي” البخاري ومسلم. ثم إن المحدث صالح الفلاني الشنقيطي (ت. 1221 هـ) أقام بالمدينة يعلم الناس ويجيزهم في الحديث، مقدماً إليهم الأسانيد العالية. وقد أجاز كمال الدين المجيدري ونوه بمعارفه وحافظته، مؤكداً أنه أكبر حافظين اثنين وردا إلى الحجاز في تلك الفترة([69]). ولا ننسى أن المجيدري هذا تلبث بأرض الحجاز مدرساً، فبقيت صورته هنالك مشرقة وضاءة تسطع بكل الأقطار التي مر بها. وذلك ما أوضحه تلميذه محمد عبد الله بن البخاري بقوله: »وأخبار شيخنا محمد بن حبيب الله المجيدري مشهورة من أرضنا إلى الغرب إلى إفريقية إلى مصر إلى مكة إلى المدينة. وإن تتبعت أثره، لم تجد موضعاً إلا له فيه تلميذ وقلَّ مصرٌ مر به إلا سلم له أهله وأعجبهم من عالم وولي«([70]). وعن مكانته في الحجاز نكتفي بالقول إنه تتلمذ عليه بعض أعلام القوم واستمرت مراسلاتهم تصل إليه بعد عودته إلى بلاده. وقد صاغ تلميذ الرجل المأمون بن محمذن الصوفي (ت. 1325 هـ) هذه المكانة شعراً منوهاً بمستوى شيخه المعرفي، داعياً في الوقت نفسه الخصم إلى مساءلة ربوع يثرب وبطاح مكة عن فتوة المجيدري وتأثيره العلمي وحضوره الصوفي حيث ظلت مسطورات علماء المشارقة تفد عليه ورسائلهم إليه تترى. يقول([71]):
سل المدينة والبطحاء أي فتى
يخبرك من فيهما من عالم وولي
هل كان يدري كمال الدين بينهما
من كان في المدن إلا غاية المثل
هذي رسائلهم يسعى بها أبداً
من كان حج لبيت الله ذا قفل
ويأتي دور المصطفى الطالب أحمد بن اطوير الجنة الواداني (1145 ـ 1265 هـ) الذي تجلت صورة المشرق العربي ضمن رحلته الحجازية مشرقة واضحة حيث نوه بعلماء المدينة المنورة وسكانها. وقد توثقت صلته بالسيد عبد الرحمن الأنصاري الذي وصفه قائلاً: »هو عالم جليل من علماء الحنفية ومقدم منهم في الفتوى ومن حسن سيرته وتواضعه وحبه إيّاي أنه يأتيني وأنا بعيد الدار في أقصى المدينة ويلتمس مني الدعاء الصالح على الاستعانة على الفتوى«([72]). ونصل إلى العلامة محمد محمود بن التلاميد التركزي (ت. 1323 هـ) الذي أقام بالحجاز متصلاً بالنخبة العالمة. ففي حرم المدينة لبث ربع قرن وهو جالس للتدريس وتربية الأجيال، وذلك ماعبر عنه بوضوح حيث يقول([73]):
وقد ربيتهم عشراً وعشرا
وخمساً كاملات من سنين
بإطعاميهم والعلم غث
سدائف من ذرى علمي السمين
وسقييهم وخمر العلم خل
سلافة خمر غلمي ذا المعين
وقد سمع منه طيلة هذه الفترة تلميذه إبراهيم الأسكواني المدني وأمين بري؛ كما أخذ عنه أديب الحجاز وشاعرها عبد الجليل برادة الذي امتدح الشيخ بأبيات أكد ضمنها أنه محمدة العصر ومفخرة شنقيط. يقول([74]):
لئن فخرت شنقيط يوماً فبالحري
وحق لها بابن التلاميد مفخر
أقول وإني ناصح جد مشفق
مقالة صدق أجرها أتنظر
هلم بغاة العلم في سوح طابة
إلى العلم عند ابن التلاميد تظفروا
وأكثر من ذلك التقى هذا الشنقيطي في أرض الحجاز بجمع من العلماء حاورهم في مسائل العلم، فأفادهم واستفاد منهم. وأبرزهم تلميذه إبراهيم بن الحسن الاسكواني الذي امتدحه بأبيات تبين علو كعب هذا الشنقيطي في العلوم وتعرب عن تمكنه من ناصية اللغة. فهو الإمام الذي يرتجى لكف الكرب وحل العويص. يقول ([75]):
محمد محمود يا من علا
من العلم والمجد أعلى الرتب
وحق الذي حباك العلوم
وألقى إليك زمام الأدب
لأنت الإمام الذي يرتجى
لحل العويص وكشف الكرب
وإنك مالك من مشبه
يحاكيك في العجم أوفى العرب
ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى علاقة الشيخ الراسخة بتلميذه عبد الجليل برادة الذي امتدحه بقصيدة نوه ضمنها بمكانته العلمية حيث تفوق على نظيره المصري سليم البشري في مسألة الخفاف السود. يقول([76]):
محمد محمود الحميد الشمائل
لقد فقت فيما قلت سبحان وائل
وطبقت للحق المبين مفاصلا
وبرزت في تطبيق تلك المفاصل
لعمري لقد بينت سنة أحمد
فأوضحت بل حققت طرق الأوائل
ورضت لنا منها صعاباً تذللت
فأمست لنا باديات المقاتل
مجاهل علم قد سلكت طريقها
فلم تبق في ميدائها من مجاهل
وأبديت في الخفين نصاً علت به
كعاب الخفاف السود وسط المحافل
فدم وابق، اسلم دائماً متصدياً
وجه الخصوم مثل تلفيق باطل
مدى الدهر ما سود الخفاف تشرفت
بسنة خير كل حاف وناعل
ويتواصل التأثير الشنقيطي في أرض الحجاز مع محمد يحيى الولاتي (ت. 1330 هـ) الذي جلس للتدريس بالمدينة المنورة فترة حاور خلالها العلماء ونشر المعارف والعلوم، وبين ذلك بقوله: »وممن لقينا من الأفاضل في المدينة المنورة السيد الأرضى علوي والشيخ كريم سعد المخرج حسن، ودَرَّسنا مدة إقامتنا بالحرم الشريف “موطأ” مالك رضي الله عنه و”عقود الجمان” للسيوطي و”ورقات إمام الحرمين”«([77]).
وقد أجاب الولاتي، وهو في المدينة، عن خمسة أسئلة وردت إليه تتناول العقيدة وفقه القضاء في مذهب مالك.
ويظل التحاور الثقافي بين البلدين حاضراً مع أحمد بن الأمين الشنقيطي (ت. 1331 هـ) الذي أقام بالحجاز فترة التقى خلالها ببعض العلماء مفيداً ومستفيداً. وقد ذكر في كتابه “الوسيط في تراجم أدباء شنقيط” أنه اجتمع بعبد الجليل برادة الذي أطلعه على معلومات تتعلق بتحديد وفاة العالم الشنقيطي التجاني ابن بابه العلوي؛ كما أمده بنماذج من منتوج هذا الشاعر([78]).
ومن الوجوه الشنقيطية التي واصلت هذا التثاقف والحوار محمد فال بن بابه العلوي (ت. 1349 هـ) الذي تلبث بالمدينة المنورة، فلقي بساحتها عبد الجليل برادة وأحمد زروق بن العربي التونسي والسيد محمد بن خليفة فحاورهم وأفادهم واستفاد منهم([79]). وفي طريق عودته من المدينة، يمر على قرية الينبع لتتوطد صلته بمسؤول في الإدارة السعودية سام اسمه محمد الأرنوطي، وهو الذي ساعده كثيراً وتحمل عنه نفقات الإقامة طيلة شهر كامل هنالك. فقد ودعه صاحبنا ببيتين ضمنهما تورية رائعة تكشف عن كرم الأرنوطي الذي أحيا سنة الكرم والندى بعدما أميتت عقب أمير »ينبع« المسمى إبراهيم. يقول([80]):
أيا قاصد الينبوع إن كنت سائلاً
وليس لإبراهيم ثمة مرصد
فإن ينابيع الندى بعد لم تغر
فملة إبراهيم أحيا محمد
ويبلغ الارتحال الشنقيطي إلى شبه الجزيرة العربية أعلى مستوياته مع العلامة محمد حبيب الله بن ميابي الجكني (توفي 1363 هـ) الذي ألقى بالحرمين عصا التسيار ونفع الله بعلمه تلك البقاع، فمكث هنالك متعبداً ومؤلفاً حيناً ومحاوراً العلماء وأهل الفضل أحياناً أخرى، وذلك ما أوضحه أحد طلبته من كتب حياته وترجم له. يقول: »وقد حج بعد حجة الفرض سبع مرات واعتمر مراراً واعتكف في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وجاور بالمدينة المنورة سبع سنين وأزيد منها في المسجد الحرام. ولقي كثيراً من أعيان العلماء والأولياء الكبار، فصحبهم في غربته في الحرمين الشريفين«([81]). فكان بذلك على صلة وثيقة بعلماء الحرمين الشريفين ومفتيه، فنوهوا بقدرته وعلمه وقرظوا كتبه. فقد قرظ كتابه “إضاءة الحالك من دليل السالك” خمسة من أئمة الفتوى والتدريس في الحرم المكي وحده. ومن أمثلة ذلك ما كتبه السيد عبد الله الزواوبي الحسني الإدريسي منوهاً بذلك الكتاب ومعلياً قدره يقول:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه وجنده وحزبه. وبعد؛ فقد اطلع الآمر برقم هذه الأحرف على نظم العلامة الفضيل اللوذعي المثيل الشيخ حبيب محمد الله بن مايابي الشنقيطي، ثم المدني المسمى بـ”دليل السالك إلى موطإ الإمام مالك” المخصوص لإثبات صحة أحاديث “موطإ” إمامه الأعظم عالم المدينة… فوجدته نظماً لطيفاً منسجماً محتوياً على أدلة قوية كافية في إثبات مقصده هو أن “الموطأ” غير نازل عن مرتبة “الصحيحين”، بل هو مماثل لهما، بل هو مقدم عليهما بالسبق. كيف لا؟ ومؤلفه إمام السنة وشيخ الأئمة… ولا شك أن هذه الرسالة المنظومة الجميلة حرية بأن يعنى بها ويظهر ذكرها بطبعها حتى يعم نفعها([82]).
ونصل محمد الأمين بن فال الخير الحسني (ت. 1351 هـ) الذي لبث بالمدينة دارساً ومدرساً. فقد تردد على دروس عبد الجليل برادة، وقد سمع منه التفسير والحديث لينتهي إلى مجالس الشيخ أبي شعيب الذي خلفه على حلقته التدريسية بالمدينة وأحسن الخلافة. يقول:
وفي سنة 1326 سافر الشيخ أبو شعيب. وكان يقرأ عليه طلبة من مقامات الحريري، فأمرني بإتمامها لهم. ففعلت. وطلبوا مني أن أقرئهم ألفية العراقي في مصطلح الحديث، فأقرأتهم جملة من أولها([83]).
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الشيخ الشنقيطي قد اتصل بالسلطات السعودية، فامتدح ملك الحجاز يومئذ الشريف الحسين بن علي بقصيدة مطلعها([84]):
سلام أريج المسك من دون نشره
وينسى نديم الخمر صهباء خمره
وينسى من المحبوب وردة خده
وأجفانه المرضى ودقة خصره
ولا ننسى أن هذا الحسني كان أحد شيوخ العلامة عبد الرحمن السعدي الذي قرأ عليه التفسير والحديث ومصطلح الحديث أثناء وجوده في مدينة عنيزة وأخذ عنه سنداً بالرواية([85]).
ومن مظاهر التأثير الشنقيطي بالحرم المدني جهود العالم محمد محمود التندغي الذي كان مفتي المالكية في هذا القرن بالمدينة المنورة. وقد اشتهر بحفظ الحديث واستظهار تراجم رجال السند وتصحيح المتن. وقد توفي بالأردن. وبعد هذا التندغي، يتعزز الحضور الشنقيطي بيثرب مع محمد الخضر بن مايابا الجكني (ت. 1354 هـ) مفتي المالكية بالمدينة المنورة ومعلم الناس هنالك. ونضيف هنا جهود أحمد بن المنجي الأجيجي المولود (1301 هـ) والمعروف بالمشرق بأحمد المغربي. وقد توثقت صلته بالملك سعود، وأقام معه في الرياض سبع سنوات نشر خلالها العلم. وكان إمام مسجد ابن عقيل في الطائف؛ كما كان مفتياً أيضاً([86]). ومن الشناقطة الذين كان لهم حضور هنالك محمد عبد الله بن محمد بن آدو الجكني الذي تولى خطة القضاء في ينبع وجيزان، وكان لا يحكم إلا بالعدل وكان مقبول الأحكام([87]). ويبلغ الحضور الشنقيطي بالحجاز ذروته مع الشيخ محمد الأمير ولد محمد المختار الجكني (ت. 1393 هـ) المعروف بآب ولد أخطور والذي تنوع نشاطه المعرفي بالحرمين، إذ شمل التأليف والتدريس والمحاضرة. فلبث هنالك سنين يكون الرجال ويعلم الأجيال، ونال بذلك الحظوة والتقدير عند أولي الأمر. وإلى جانب ذلك، كان له دور فاعل في تدعيم الجامعة الإسلامية. وقد أثنى عليه العلماء السعوديون، فخاطبه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ قائلاً: »وجازى الله عنا الشيخ محمد الأمين خيراً على بيانه. فالجاهل عرف العقيدة، والعالم عرف الطريقة والأسلوب«([88]).
وقد قدم هذا الشيخ الجكني دروساً أدبية أثناء حجته الأولى، وذلك لما مر في يوم عرفة قرب مسجد نمرة، حيث التقى هنالك بأمري أبها وتبوك وجرت بينه وبينهما محاورة أدبية أفضت إلى درس هام شرح الشيخ خلاله قصيدة جرير التي هجا بها الأخطل والتي مطلعها:
بان الخيط ولو طوعت ما بانا
وقطَّعوا من حبال الوصل أقرانا
وقد ركز اهتمامه في الشرح على إبراز معنى بيت كان الأميران السابقان قد سألاه عن مضمونه وإعرابه. والبيت المذكور هو قوله:
هل تتركن إلى القسيسين هجرتكم
ومسحهم صلبهم الرحمن قربانا
فبين الشيخ القول في هذا البيت تبياناً مشيراً إلى أنه في ذم الأخطل وقومه بني تغلب، إذ يلزمهم جرير بميلهم إلى دين النصارى حيث يهاجرون إلى القسيسين ويمسحون صلبانهم التي يدعون أنها تقربهم إلى الله. فقوله: »ومسحهـم صلبهـم مصدر مضاف إلى فاعلـه؛ ورحمان يحتمـل ـ فيما يظهر ـ وجهين: أحدهما أن رحمان بدل من قوله صلبهم، لأن الرحمن المذكور هو عين الصلب المتقرب به إلى الله وقرباناً بدل من رحمان على جواز أن يكون من البدل بدل؛ والوجه الثاني من الإعراب أن يكون قوله قرباناً منصوب بعامل محذوف تقديره ومسحهم صلبهم يجعلونها رحمان وما يسبق إلى الذهن من أن قوله قرباناً مفعول لأجله لا يصح، لأن القربان اسم لما يتقرب به إلى الله لا مصدر بمعنى التقرب، فظهر أنه ليس مفعولاً لأجله([89]).
وكانت أخلاق الشيخ كعلمه مثالاً يحتذى ونموذجاً يقلد. وكان الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بالإضافة إلى العلماء من أسرة آل الشيخ يجلون هذا العلامة؛ كما كان عضواً في هيئة كبار العلماء وقد ترأس إحدى دوراتها. وبذلك ظل التواصل الثقافي مستمراً بين شبه الجزيرة العربية وبين بلاد شنقيط. وقد اتسعت مجالات هذا التواصل لتشمل التعليم العالي، حيث منح طلبة موريتانيون عديدون إلى دول الخليج.
الخاتمة
وفي الأخير، نشير إلى أنه إذا كان المغاربة عموماً، والشناقطة بالخصوص، مدينين فيما مضى لإخوانهم في الطرف الآخر من الوطن العربي (المشرق العربي) بالتلمذة، فإنهم قد أصبح لهم منذ نهاية القرن 19 م/ 13 هـ اكتفاؤهم الذاتي على الصعيد المعرفي، فأنشأوا لأنفسهم مقررات مدرسية خاصة ليبدأوا بعد ذلك في إسعاف نظرائهم بالمشرق مقدمين إليهم بعض المعارف والعلوم، خاصة أثناء رحلات الحج التي كانت فرصة التحاور واللقاء ومنتدى التثاقف والجدال.
وصفوة القول إن الشناقطة قد ردوا إلى المشرق بعض بضاعته المعرفية بعد أن نسيها وابتعد عنها فترة. فكانوا بذلك أطر التدريس بأرضه ورسل الحضارة إليه. فقد بهرت ثقافتهم منه العيون، فطفق أبناؤه إليها يركنون مستمسكين بعروتها لما آنسوا في حملتها من قوة في الذاكرة وسعة في المحفوظ.
فكان القوم إذن مصابيح الجهالة والدجى وينابيع الحكمة والهدى، ليصبحوا مع ذلك أوعية العلم وأئمة القضاء والفتوى، بل نوابغ الفكر والإبداع ونوادر الحفظ والاستظهار. وأكثر من ذلك، بلغوا درجة التبصر والاجتهاد ونالوا أوسمة الشرف والتقدير. فهم بأكناف طيبة عالمون معلمون. وهكذا أصبح المرتحل الشنقيطي عنواناً للثقافة والعلوم ورمزاً للتوسع في المعارف والفنون، فاستنجد بمحفوظه أهل نجد. وبهذا الصنيع أحيا دروس العلم بالمشرق وهي رميم، فأرشد إلى المعرفة من أبنائه جِبِلاًّ كثيراً.
مراجع
([1]) ابن منظور، لسان العرب، دار صار، بيروت ـ لبنان، د. ت، ص. 278.
([2]) المصدر نفسه.
([3]) إبراهيم أنيس وجماعته، المعجم الوسيط، دار الفكر، د. ت، ج 1، ص. 335.
([4]) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة »رحل«.
([5]) المصدر نفسه: مادة »صوب«.
([6]) الحسن الشاهدي، أدب الرحلة في المغرب خلال العصر المريني، منشورات دار عكاظ، ج 1، ص. 41.
([7]) حوليات الجامعة التونسية، العدد 10، السنة 1973، ص. 83 وما بعدها.
([8]) جبور عبد النور، المعجم الأدبي، دار العلم للملايين، 1979، ص. 191.
([9]) مجلة الفكر العربي، عدد خاص بالرحلات العربية والرحالات، يونيو 1988، العدد 51، ص. 6.
([10]) المصدر نفسه.
([11]) حسين محمد فهيم، أدب الرحلات، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1989، ص. 92.
([12]) المرجع نفسه، ص. 20.
([13]) المرجع نفسه، ص. 25.
([14]) صلاح السامي، الرحلة عين الجغرافيا المبصرة، منشأة المعارف، 1982، ص. 2.
([15]) محمذن بن المحبوب، أدب الرحلة في شنقيط، دبلوم الدراسات العليا، جامعة محمد الخامس، 1995، ص. 22.
([16]) أحمد بن الأمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، مصر، 1961، ص. 214.
([17]) المصدر نفسه، ص. 215.
([18]) المصدر نفسه، ص. 49.
([19]) المصدر نفسه، ص. 52.
([20]) المصدر نفسه، ص. 53.
([21]) المصدر نفسه، ص. 23.
([22]) المصدر نفسه، ص. 23
([23]) محمد فاضل بن أحمد، تحقيق ديوان البشير بن امباركي، جامعة انواكشوط، 1990، ص. 25.
([24]) محمد المختار بن اباه، الشعر والشعراء في موريتانيا، الشركة التونسية، ط. 1، 1987، ص. 205.
([25]) محمد فاضل بن احمدو، تحقيق ديوان البشير بن امباركي، المصدر السابق، ص. 35.
([26]) ابن باه، الشعر والشعراء، المصدر السابق، صص. 214 ـ215.
([27]) محمد الأمجد بن محمد الأمين السالم، كمال الدين محمد المجيدري. حياته وآثاره، جامعة نواكشوط، 1989، ص. 16.
([28]) محمد بن المحبوب، أدب الرحلة في بلاد شنقيط، المرجع السابق، ص. 82.
([29]) أحمد الأمين، الوسيط، المصدر السابق، ص. 55.
([30]) ابن المحبوب، المرجع السباق، ص. 87.
([31]) ابن الأمين، الوسيط، المصدر السابق، ص. 71.
([32]) عبد اللطيف الدليشي الخالدي، من أعلام الفكر الإسلامي في البصرة، ط. 1، 1981، ص. 128.
([33]) المرجع نفسه، ص. 22.
([34]) المرجع نفسه.
([35]) الملك عبد الحسين، الآثار الكاملة ، بيروت، 1973، ص. 166.
([36]) محمد حبيب الله بن مايابا، دليل السالك إلى موطإ الإمام مالك، ط. 1، 1354 هـ، صز. 206.
([37]) المصدر نفسه.
([38]) زينب بنت الطالب أحمد، تحقيق رحلة ابن طوير الجنة، جامعة انواكشوط، قسم التاريخ، 1993، ص. 37.
([39]) المصدر نفسه، ص. 70.
([40]) المصدر نفسه، ص. 72.
([41]) محمد يحيى الولاتي، الرحلة الحجازية، تحقيق محمد حجي، تخريج وتعليق دار الغرب الإسلامي، ط. 1، معهد الدراسات الأفريقية بالرباط، 1990، ص. 34.
([42]) المصدر نفسه، ص. 35.
([43]) المصدر نفسه، ص. 53.
([44]) محمد بن بدي، تحقيق ديوان محمد بن محمد، المصدر السابق، ص. 45.
([45]) اتيرو بنت محمد عبد الرحمن، تحقيق الجزء الثاني من رحلة محمد يحيى بن أبوه الموسوي.
([46]) المصدر نفسه، ص. 25.
([47]) المصدر نفسه، ص. 26.
([48]) المصدر نفسه، ص. 65.
([49]) رسالة بخط المؤلف محمد يحيى وردت في ملحق المصدر نفسه، ص. 67.
([50]) المصدر نفسه، ص. 69.
([51]) محمد الأمين الشنقيطي الجكني، رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، ص. 36.
([52]) المصدر نفسه، ص. 40.
([53]) محمذن بن المحبوب، أدب الرحلة في بلاد شنقيط، المصدر السابق، ص. 62.
([54]) محمد فال شماد، تحقيق رحلة محمد فال ولد بابه، المدرسة العليا للأساتذة، نواكشوط، 1982.
([55]) المصدر نفسه، ص. 5.
([56]) المصدر نفسه، ص. 7.
([57]) المصدر نفسه، ص. 8.
([58]) المصدر نفسه، ص. 12.
([59]) المصدر نفسه.
([60]) المصدر نفسه.
([61]) المصدر نفسه.
([62]) المصدر نفسه، ص. 17.
([63]) المصدر نفسه، ص. 19.
([64]) المصدر نفسه، ص. 21.
([65]) الكرتينة تصحيف أو تحريف للكلمة الفرنسية quarantaine، التي تعني»الأربعينية«. وهي تشير إلى أن سلطات الاحتلال الغربي كانت تلزم المسافر الإقامة أربعين يوماً في حجر صحي حتى تتأكد من سلامته من الأمراض المعدية، وذلك خوفاً من انتشار الأوبئة يومئذ.
([66]) محمد فال بن شماد، تحقيق رحلة محمد فال، المصدر السابق، ص. 25.
([67]) المصدر نفسه، ص. 27.
([68]) محمذن بن المحبوبي، الرحلة في بلاد شنقيط، المرجع السابق، ص. 63 وما بعدها.
([69]) حماه الله بن سالم، »الشناطقة في المشرق العربي«، مجلة الموكب الثقافي، نواكشوط، العدد 9 ـ 10، أبريل 1997، ص. 33.
([70]) محمد عبد الله بن البخاري، العمران، تحقيق مريم بنت آد، قسم التاريخ، جامعة انواكشوط، 1993، صص. 72 ـ 73.
([71]) المصدر نفسه.
([72]) زينب بنت الطالب، أحمد بن اطوير الجنة، المصدر السابق، صص. 69 ـ 70.
([73]) محمد محمود بن التلامبد الشنقيطي، الحماسة السنية الكاملة المزية في الرحلة العلمية الشنقيطية التركزية، مطبعة الموسوعات، مصر، 1319، ج 2، ص. 145.
([74]) المصدر نفسه، ج 1، ص. 10.
([75]) المصدر نفسه، ص. 65.
([76]) المصدر نفسه، ص. 67.
([77]) محمد بن يحيى الولاتي، الرحلة الحجازية، المصدر السابق، ص. 196.
([78]) أحمد بن الأمين، الوسيط، المصدر السابق، ص. 71.
([79]) محمد فال بن باب، رحلة الحج، مخطوطات بحوزتنا.
([80]) المصدر نفسه.
([81]) محمد حبيب الله بن مايابي، زاد المسلم في ما اتفق عليه البخاري ومسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، د. ت، 52 ، ص. 553.
([82]) محمد حبيب الله بن مايابي، إضاءة الحالك من دليل السالك إلى موطإ الإمام مالك، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان، 1995، ص. 201.
([83]) عبد اللطيف الدليشي، من أعلام الفكر الإسلامي في البصرة، المصدر السابق، ص. 87.
([84]) المصدر نفسه.
([85]) أحمد الفرعاوي، حياة الشيخ عبد الرحمن السعدي مطبة سفير، الرباط، ط. 2، ص. 38.
([86]) سيد أحمد بن أحمد سالم، »العلاقات الثقافية الموريتانية السعودية«، مجلة العرب، العدد 29، يناير ـ فبراير 1994، صص. 99 ـ 100,
([87]) المرجع نفسه، صص. 100 ـ 101.
([88]) المرجع نفسه، صص. 99 ـ 100.
([89]) محمذن بن المحبوب، أدب الرحلة في بلاد شنقيط، المرجع السابق، ص. 60.
المفتشية العامة للتعليم الثانوي والفني قسم اللغة العربية ـ انواكشوط ـ موريتانيا